من يعرف الايرانيين حق المعرفة يصل الى قناعة ان هذا الشعب متمسك جدا بقوميته ومتيم أكثر بعاداته وتقاليده وليس لديه أي استعداد للتخلي عنها، ومن بينها الاحتفال بالعام الجديد الذي حل فجر اليوم السبت.

وربما هناك من لا يعرف المعيار الذي سوغ للايرانيين تحديدهم لرأس السنة، ولكن كما قيل اذا عرف السبب بطل العجب، فالمتداول لدى أغلب الدول العربية والاسلامية أن تاريخ الهجرة النبوية الشريفة يحسب وفق حركة القمر، بينما العام الايراني يحسب الهجرة النبوية الشريفة وفق التوقيت الشمسي، لذلك فان الايرانيين يحتفلون بالذكرى السنوية للهجرة النبوية ولكن وفق التوقيت الشمسي وليس القمري.

يعد الاحتفال بالعام الجديد (النوروز) من المقدسات لدى الايرانيين، وكل من يعيش بالقرب من ايرانيين يلمس هذه الحقيقة، ولا أبالغ اذا قلت ان المتمكنين ماديا من الايرانيين يحدثون انقلابا جذريا في الشكل الظاهري لحياتهم وخاصة في محتويات المنازل بما فيها طلائها وديكوراتها قبل حلول النوروز، هذا بالاضافة الى شرائهم الملابس الجديدة وتنظيف الاثاث وغسله ان لم يكونوا قادرين على شراء الجديد، وبكلمة فانهم يجددون حياتهم مع العام الجديد.

وهناك الكثير من التقاليد التي يمارسونها قبل وبعد عيد النوروز، كأن يفرشوا سماطا (سفرة) تحتوي على سبعة أشياء تبدأ بحرف السين باللغة الفارسية، كما يجب عليهم أن يأكلوا في اليوم من النوروز الرز مع السمك، ومنذ اليوم الأول يبدأون بالتزاور فيما بينهم، ومن تقاليدهم ايضا أنهم يعتبرون اليوم الثالث عشر من السنة الجديدة يوم نحس ولا ينبغي البقاء فيه بالبيوت والمنازل وانما يجب الخروج الى الحدائق والاماكن العامة.

ولم أبالغ عندما قلت ان النوروز من المقدسات لدى الايرانيين، ولكن عندما تتعارض قدسية النوروز مع قدسية الدين نرى ان الايرانيين يقدمون قدسية دينهم على أي شيء آخر، وهذه الصفة لا ينبغي أن تقتصر على الايرانيين وحسب وانما يجب أن يتصف بها كل المسلمين، بحيث تكون تعاليم دينهم فوق أي اعتبار.

تزامن النوروز هذا العام مع الذكرى السنوية لوفاة بنت نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم السيدة فاطمة عليها السلام، كما أنه تزامن في السنوات الأخيرة مع ذكرى استشهاد الامام الحسين عليه السلام، وليس الايرانيون وحدهم يحبون ويوالون النبي محمد وأهل بيته بل لا يختلف أي مسلم على ضرورة محبتهم ومودتهم، ومع أنه لا يوجد أي فقيه وعالم دين يحرم الاحتفال في ذكرى وفيات النبي وأهل بيته، غير أن المسلمين لا يجدون من المناسب الاحتفال في ذكرى وفياتهم.، بل كل عاقل اذا تزامنت مناسبة حزينة عليه مع مناسبة فرح وسرور فانه يؤجل مناسبة الفرح الى وقت آخر.

والايرانيون في هذا العام مارسوا كل تقاليدهم وعاداتهم في هذه المناسبة ما عدا الاحتفال واظهار الفرح والسرور، ومن الطبيعي أن يكون لهذه القاعدة استئناءات، بل وحتى هؤلاء الذين احتفلوا واظهروا الفرح والسرور فانهم لم ينقلوا احتفالاتهم الى الاماكن العامة وانما اقتصرت احتفالاتهم في بيوتهم احتراما لمشاعر الأغلبية.

مناسبة حديثي عن النوروز والعادات والتقاليد، لتسليط الضوء على قضية هامة وهي موقف الاسلام من العادات والتقاليد الاجتماعية فمن المؤكد أن الاسلام لا يعارض التقاليد والعادات الاجتماعية شرط أن لا تكون هذه العادات والتقاليد محرمة بل أحيانا يحث ويشجع عليها، من بينها على سبيل المثال احترام الأبوين وطاعتهما، بل ربما الاسلام يهتم بالقضايا الاجتماعية أكثر من سائر الاديان فنرى على سبيل المثال انه يحث على التزاور بين الأقارب وتوثيق صلة الارحام، وزيارة المرضى، والاهتمام بالجار، كما أن التكافل الاجتماعي من القضايا التي يوليها الاسلام أهمية بالغة، فيحث على اغاثة الفقير وتقديم القروض للمحتاجين بل والأعظم من ذلك أنه لا يسمح بأن يكون القرض بفائدة لذلك حرم الربا، وبشكل عام فان الاسلام لا يعارض أية عادة أو تقليد اجتماعي اذا لم يكن محرما، أو احتوى على فقرات محرمة.

للاسف تسود أحيانا في المجتمعات أعراف وتقاليد تسبب الاضرار لشريحة واسعة، من بين هذه العادات التي كانت سائدة قبل الاسلام هي أن الرجل لا يتزوج زوجة ابنه بالتبني، ومثل هذه الاعراف لا يمكن لأي انسان أن يقضي عليها الا اذا كان يتمتع بشخصية مرموقة ويحترمه الجميع، لذلك فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كسر هذا العرف عندما تزوج زينب بنت جحش زوجة ابنه بالتبني زيد بن حارثة بعد أن طلقها زيد، ويأتي المغرضون الذين لا هم لهم سوى تشويه صورة الاسلام ونبينا الأعظم ليقولوا ان النبي شغفه حب زوجة ابنه لذلك أجبره على تطليقها ليتزوجها، وحاشا لنبينا أن يفعل ذلك.

الاسلام وضع قدسية لبعض القضايا والبعض احترمها ولم يعترض عليها والبعض حاربها ودعا الى نبذها وفي مقدمة الكائنات التي احترمها الاسلام هو الانسان بل جاء في القرآن الكريم والعديد من الروايات أن الانسان أشرف المخلوقات، ولكننا نرى اليوم أن هناك من يأتي ليلصق ما يجري في بعض الدول ومن بينها الجرائم التي تقدم عليها داعش بالاسلام، المثال التالي نموذج على عظمة التعاليم الاسلامية واحترامها للانسان.

في الوقت الذي يحترم فيه الاسلام الأبوين ويدعو الابناء الى طاعتهما واحترامهما، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يكون مسوغا ليفعل الوالدان بابنائهما ما يشاءا، فلا يسمح الاسلام للوالدين بضرب الولد بل يفرض عليهما غرامة مالية اذا صفعا ابنهما على وجهه فأحمر وجهه، وتزيد الغرامة اذا أصبح وجهه ازرقا من أثر الصفعة، من هنا واذا كان الاسلام دقيق الى هذا الحد في منع الاعتداء على الانسان، فعلينا أن نعرف ان الذي يجري في بعض الدول لا يمت للاسلام بصلة.

&