الكتاب المشار إليه أعلاه، قام بتأليفه رجل الدين الإيراني "الشيخ محسن كديفر" في عام 1999م. يقول المؤلف: هذا الكتاب خطوة متواضعة للتعريف بأهم الأراء السياسية لفقهاء الشيعة. فمن المفارقات التي تستحق التوقف عندها أن الفقهاء، وهم من هم تأثيرا في المجتمعات الشيعية، قليلا ما عملوا على تدوين وجهات نظرهم في السياسة والحكم. ويضيف سماحته: أن فقهاء الشيعة إقترحوا حتى الآن ما لا يقل عن تسع نظريات مختلفة في باب الحكم، لم تنل كلها – ما عدا نظرية الفقهاء التعيينية المطلقة المطبقة حاليا في إيران – حظها من الإختبار ومن التحقيق العملي، حيث بقيت كنظريات فكرية ومادة خام غير مشذبة، في حين أن النظريات السياسية لا تتطور وتتألق إلا بالنقد والإختبار العملي.

النظريات التسع هي: (1) نظرية الفقهاء التعيينية، أي التي تنشأ عن طريق التعيين الخاصة. (2) ولاية الفقهاء التعيينية العامة، وهي إجبارية وليست إختيارية. (3) شورى مراجع التقليد العامة التعيينية. (4) ولاية الفقهاء التعيينية المطلقة. (5) الحكومة المشروطة بإذن الفقهاء وإشرافهم. (6) خلافة الأمة وإشراف المرجعية. (7) ولاية الفقيه الإنتخابية المقيدة. (8) الحكومة الإسلامية المنتخبة. (9) وكالة مالكي المشاع الشخصيين.&

وفي هذه المقالة، سوف أتطرق بإيجاز إلى النظرية التاسعة "وكالة مالكي المشاع الشخصيين"، وهي آخر نظرية من نظريات الفقه الشيعي وأهمها حسب إعتقادي الشخصي، أقترحت على أساس الشرعية الإلهية الشعبية. وقد طرحها الدكتور الشيخ "محمد مهدي الحائري اليزدي" في كتابه "الحكمة والحكومة" الصادر في لندن عام 1374 هجرية. ترتكز هذه النظرية على أركان ثلاثة:
&

الركن الأول: ملكية المواطنين الشخصية للمشاع

إن الحكومة بمعنى فن إدارة البلد والتدبير والتفكير في تنظيم الأمور الداخلية والخارجية للبلاد، وليس بمعنى القيادة والسلطة والحاكمية على التابعين أو الولاية والقيمومة، تعتبر من فروع الحكمة والعقل العملي. أي أن الحكومة والسياسة وطريقة إدارة الدولة هي الحكمة والتدبير في مجال الدولة، أو فن حراسة النظام العام والأمن والسلام للمواطنين والبلاد. الحكومة ليست أمرا ما ورائيا ولا ظاهرة مثالية، وإنما حصيلة تجريبية وحسية تنتج من إدراك الحياة المتطورة، وتجمع مجموعات من الناس ومجاورتهم لبعضهم بعضا وتعاونهم وتبادلهم المنافع.

وحيث أن كل فرد من أفراد جماعة من الناس تقطن مكانا معينا، له الحق في الإختصاص والملك الطبيعي لذلك المكان، ولما كان كل واحد من هؤلاء محتاجا بالضرورة إلى الأمنين الداخلي والخارجي، وكل واحد منهم يدرك أن توفير أسباب الأمن شرط لا بد منه لإستتباب الحياة الطبيعية في ذلك الموضع المسمى بلد أو وطن، تراهم يجمعون على ضرورة إنتخاب واحد من بينهم له خبرة بالمسائل والموضوعات والتطورات المتغيرة في ذلك المحيط، وتكليفه مهمة تدبير وإدارة أمور الدولة. كذلك فالحكومة إنما تنبثق من هذه الضرورات الطبيعية والتجارب الإنسانية.
&

الركن الثاني: وكالة الحكومة عن المواطنين

يقوم المالكون الشخصيون لفضاء الحياة بالمشاع إنطلاقا من العقل العملي بتوكيل شخص أو هيئة بغية أن يقوم الموكل (بفتح الكاف) بتوفير الأمن والسلام في تلك الأرض (الوطن) بهمة عالية ودقة، وبأقصى ما لديه من إمكانيات. وإذا لم يتفق المالكون للمشاع في بعض الأحيان على توكيل شخص معين، فإن الطريق الوحيد الباقي هو حكم الأكثرية على الأقلية، وهو يعني بصورة حتمية قبول الأقلية لرأي الأكثرية، وهو يؤدي إلى تحقيق القبول العام كمسألة الترتب في علم أصول الفقه.

إن وكيل المواطنين هو ممثل جميع الأفراد بالمشاع، وليس ممثل المجموع الواحد لهم، أي أنه ممثل كل فرد من المواطنين القاطنين في ذلك البلد. وتعني صفة التمثيل أن الممثل (الوكيل) تابع وأن الممثلين (أفراد الشعب) هم المالكون الأصليون وأصحاب الأرض الحقيقيين الذين قاموا بإعطاء الوكالة عبر إتفاق خاص. ويقوم الوكيل حسب التفاهم والإتفاق المسبقين بتحقيق سائر طلبات ورغبات وإرادة الموكلين في جميع مسائل الدولة حسب معرفته وخبرته وإدراكه وإرادته التنفيذية.

إن حقيقة الحكومة ليست أكثر من الوكالة، والوكالة إتفاقية وعقد لا يسببان أي إلزام للموكل (بفتح الكاف) أو الموكلين، أي ان للموكلين أن يعزلوا الوكيل ويسقطوا الوكالة في أي وقت وفي أي حال، وأن يأتوا بدلا منه بشخص أو أشخاص آخرين ليحلوا محله. ويجب أن تكون جميع اعمال الوكيل (الحكومة) بهدف دفع المفاسد وجلب المنافع، وإذا إنحرفت الحكومة أدنى إنحراف واستقلت بالعمل ومارست الحاكمية على الناس فإنها تفقد صفة الوكيل والتمثيل.
&

الركن الثالث: موقع الدين والفقه في السياسة وإدارة البلد

الحكومة لا تعني سوى الوكالة والإشراف – بالنيابة عن الشعب – على العلاقة بين المواطنين، والعلاقات الخارجية مع الدول الأخرى. وهذه العلاقات تقع ضمن حدود العقل العملي وعقل عامة الناس ومن الأمور الموضوعية والمتغيرة. ولذا فإن الحكومة وجميع توابعها ولوازمها هي من جملة الأمور المتغيرة والموضوعات الجزئية، ولا تصنف ضمن إطار الأحكام الإلهية الثابتة. والعلاقة الوحيدة بينها وبين تلك الأحكام هي علاقة القضايا الصغرى بالقضايا الكبرى في القياسات المنطقية.

على هذا الأساس، فمهمة السياسي الأساسية هي تحديد الموضوعات الخارجية، والإطلاع على التطورات الداخلية والخارجية، والوقائع الجيوسياسية المتغيرة. كذلك فمهمة السياسي تشبه سائر المهن التجريبية، وترتبط أساسا بالتجربة والعمل والذكاء في تحديد الموضوعات والعلاقة بين الأشياء والأفراد. وعلى السياسي ان يكون ملما بأصول قواعد العدل والأخلاق والأحكام والواجبات الشرعية العامة، أو أن يقبل تلك القواعد كأصول ثابتة بحسن نية، ثم يقوم بمهمته في السياسة إعتمادا على تربيته الخاصة وفهمه ومراعاته لمصالح ومنافع المواطنين. هذه الموضوعات من مهمة السياسي الماهر واللائق الذي لا يمكنه أن يمارس عمله من دون معرفة صحيحة ودقيقة بالواقع الذي يتحرك فيه.

القرآن الكريم يقول: "وأمرهم شورى بينهم" أي إن أمور الدنيا والحوادث اليومية للناس، كالسياسة وإدارة البلاد من مسؤولية الناس، وبعبارة أخرى فإن أمور الناس لا بد أن تدار عن طريق الشورى وليس عن طريق الوحي والرسالة الإلهية، ولا دليل على أن السياسة من لوازم النبوة أو الإمامة، ولا حكرا على الفقهاء كما يقول البعض.&

آخر الكلام: على كل المهتمين بموضوع الديمقراطية والحكم الرشيد، وعلاقة الدين بالسياسة في العالمين العربي والإسلامي، قراءة هذا الكتاب القيم ليطلعوا على ما أنتجه الفقه الشيعي من نظريات في الحكم. وليس من المبالغة في القول أن النظريتين الأخيرتين "الحكومة الإسلامية المنتخبة" و "وكالة مالكي المشاع الشخصيين" تضاهيان نظريات الحكم في الدول الديمقراطية الغربية.&