&
&
من تورط ومن لم يتورط في المحاولة الانقلابية التركية؟ الواضح ان ضباطا كبارا، قريبين من الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، كانوا على علاقة بالتمرّد الذي استهدف التخلّص من النظام القائم الذي على رأسه اردوغان نفسه. لكنّ الواضح ايضا انّ لا تورّط للمؤسسة العسكرية كمؤسسة ذات تراتبية فيها آمر ومأمور، أي لا وجود لقرار اتخذته قيادة الجيش بالقيام بانقلاب. لو كان الامر كذلك، لما كانت برزت تصرفات عشوائية ومرتجلة للانقلابيين تجعل من فعلهم مجرّد تمرّد أكثر من ذلك.
&
تبيّن ان الانقلابيين مجرّد هواة. فمن اوّل الشروط لنجاح انقلاب في بلد مثل تركيا سعى فيه اردوغان الى اضعاف المؤسسة العسكرية، القاء القبض على رئيس الجمهورية. لم يكن طبيعيا صدور البيان الرقم واحد عن الانقلابيين، فيما اردوغان يمتلك حرية التحرّك. اكثر من ذلك، لجأ الانقلابيون الى تصرفات غريبة تستفز كل فرد من الشعب التركي عموما، بغض النظر عمّا اذا كان هذا الفرد مغرما باردوغان او كارها له. قصف هؤلاء مبنى البرلمان وهو امر لم يحصل سابقا في تركيا... وحّد الانقلابيون بذلك الأحزاب التركية كلّها التي قررت دعم "الشرعية" ومؤسسات الدولة والتأكيد ان لا عودة الى أيام الانقلابات العسكرية في البلد.
&
كيف يمكن لمن يريد القيام بانقلاب ناجح وضع كلّ الأحزاب في وجهه؟ كيف يمكن له تجاهل انّ اردوغان اقام أجهزة امنية موازية تستطيع تحقيق توازن مع ما تمثله المؤسسة العسكرية؟ هناك جهاز موحّد للاستخبارات يديره شخص اسمه حاقان فيدان الذي يعتبره الرئيس التركي "حافظ اسراره" والذي يسميه الاتراك بـ"القوة الضاربة" لاردوغان. كيف يستطيع الانقلابيون تجاهل هذا الواقع وخوض مغامرة معروف منذ البداية ان لا افق لها، خصوصا في ظل بقاء اردوغان طليقا من جهة والتفاف اعدائه، بمن فيهم قادة آخرون من حزبه مثل عبدالله غول واحمد داوود اوغلو حوله من جهة اخرى؟
&
كان مشهد رجال الشرطة يعتقلون ضباطا في الجيش التركي اكثر من معبّر. اختزل هذا المشهد التحولات التي مرّت فيها تركيا منذ الانقلاب العسكري الذي قاده كنعان افرين في الثاني عشر من أيلول سبتمبر العام 1980، في الوقت الذي كانت تركيا خائفة على نفسها في مرحلة بعد قيام الثورة في ايران وبدء الحرب العراقية الايرانية. ليس صدفة ان الانقلاب الذي قاده افرين جاء بموازاة بدء الحرب العراقية الايرانية في ظلّ الحرب الباردة التي كانت تركيا طرفا&مباشرا فيها، خصوصا عبر المؤسسة العسكرية فيها. هل المحاولة الانقلابية، على الرغم من فشلها، إشارة الى احداث كبيرة على الصعيد الإقليمي؟
&
في كلّ الأحوال، لا تزال الحاجة الى مزيد من الوقت لفك رموز المحاولة الانقلابية التي كشفت ان اردوغان يخشى رجلا واحدا هو الداعية فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة. كان غولن في الماضي بمثابة عرّاب للرئيس التركي الذي ما لبث ان استقلّ عن هذا الشخص الذي يمتلك نفوذا معنويا كبيرا داخل المؤسسة العسكرية وداخل القضاء التركي. لذلك، تلت الإعلان عن فشل الانقلاب حملتا تطهير طاولت الاولى المؤسسة العسكرية والأخرى الجسم القضائي.
&
في الواقع، ان الصراع بين اردوغان وغولن هو صراع بين اسلامين اثنين. اسلام الاخوان المسلمين والإسلام التقليدي في تركيا وهو اسلام التصوّف والتكيات. يعبّر غولن عن الإسلام المنتشر في عمق الاناضول، وهو اسلام موجود في داخل الشخصية التركية. ولذلك، سيكون صعبا على اردوغان الانتصار على غولن، مهما قام بعمليات تطهير في المؤسسة العسكرية وفي الإدارات التركية.
&
كذلك، لن يكون سهلا على اردوغان الاستمرار في ممارسة الحكم على طريقة "السلطان". سيتوجب عليه إعادة حساباته. وحده الوقت سيكشف هل كان الدخول في مواجهة مباشرة مع غولن خطوة ذكيّة ام لا، خصوصا انّه لا يمكن الاستخفاف باي شكل بتاثير هذا الرجل داخل تركيا وخارجها؟
&
يبقى السؤال الأساسي هل انّ ربط اردوغان بين غولن والولايات المتحدة، واصراره على هذا الربط، يفيده في المستقبل؟
&
حوّل الرئيس التركي المواجهة مع الداعية الإسلامي، الذي لديه حضور في الولايات المتحدة والعالم عبر مدارس تشرف عليها مؤسسته، الى مواجهة مع إدارة أوباما. صحيح ان هذه الإدارة صارت في ايّامها الأخيرة، لكنّ الصحيح أيضا انّ رهان الرئيس التركي يبدو قائما على الشعور العام السلبي لدى مواطنيه من الدعم الاميركي للاكراد ولقيام دولة مستقلّة لهم، وهو دعم ليس مستبعدا استمراره في عهد هيلاري كلينتون... او دونالد ترامب.
&
هل يكفي العداء للولايات المتحدة للبناء على فشل الانقلاب، ام ثمة حاجة الى مراجعة في العمق تجريها المدرسة الاردوغانية التي تبين في الأسابيع التي سبقت المحاولة الانقلابية انّها تمتلك قدرة كبيرة على تغيير المواقف، ان على صعيد العلاقة مع روسيا او مع إسرائيل او مع ايران... وربّما مع النظام السوري، على الرغم من انّه صار في مزبلة التاريخ.
&
من هذا المنطلق، يصحّ التساؤل أي اردوغان بعد المحاولة الانقلابية؟ من الثابت ان صفحة في تاريخ تركيا طويت وانّ هناك درسا من دروس الانقلاب لا يمكن&تجاهله. يتمثل هذا الدرس في انّ المؤسسة العسكرية التركية سيبقى لها حضور ما بغض النظر عن كلّ عمليات التطهير التي تعرّضت لها او ستتعرّض لها. هل في استطاعة الرئيس التركي فهم ذلك، ام انّ فشل الانقلاب سيجعله يرتكب كلّ الأخطاء التي يفترض برجل مثله تفاديها، علما انّ تاريخه لا يدعو الى التفاؤل، خصوصا اذا اخذنا في الاعتبار ما فعله باقرب رفاقه في "حزب العدالة" الذي يتزعمّه.
&
ذهب هؤلاء الرفاق ضحية رجل مندفع لا يعرف ان ثمّة حدودا لا بدّ من التوقف عندها. اثبت انه الاخونجي (العضو في حركة الاخوان المسلمين) بامتياز، الذي لا حدود لشبقه الى السلطة. هذا الشبق يجعله يستبعد كل منطق، بما في ذلك الذي يقول انّ لا مجال للاستخفاف بالمؤسسة العسكرية التركية او بفتح الله غولن، مهما تعرّضا لضربات ونكسات.