&أقول خديعة سباق التسلح لأنه لم يكن سباقا بل كان جرياً سريعاً نحو أهداف أخرى جهلها حتى لا أقول تجاهلها سائر المراقبين والمحللين وكتاب أعمدة الصحف على سائر ألوانهم واتجاهاتهم حتى كانت سياسة سباق التسلح هي الفكرة الطاغية في مقاربة العلاقات الدولية في الربع الأخير من القرن العشرين وإليه نسب كامل الإنقلاب في العلاقات الدولية وانهيار الإتحاد السوفياتي والمعسكر الإشتراكي. إنطلت خديعة السباق على الكافة فغُرر بالسياسيين حتى باتوا لا يتعرفون على مسار التطور فضُللوا وضَللوا العالم وراءهم فكان أن خلفوا للبشرية جمعاء عالماً مأزوماً في أزمة كليّةً شاملة هو عالم اليوم قد يستحيل الفكاك منها.

الإتحاد السوفياتي لم يكن يوماً في الحقيقة يسابق الولايات المتحدة الأميركية في التسلح خلافا للمعتقد العام ومختلف المقاربات في هذا الشأن والتي أخذت تحتل متون الأبحاث والتحليلات السياسية وخاصة في ثمانينيات القرن الماضي. لا أدري كيف لعاقل أن يقارب مثل هذه المقاربة غير المعقولة بعد أن رأى بأم عينيه الولايات المتحدة تنهزم شر هزيمة في مواجهة شعب فيتنام الأعزل بعد أن استهلكت كل مخزونها المالي والحربي!؟ كان منظر هروب السفير الأميركي في سايغون وجنرالات الحرب الأمريكان من على سطح السفارة بطائرة هليكوبتر في ابريل نيسان 1975 يثير الشفقة والتعاطف مع أميركا من قبل أصدقائها. فكيف لقائد سوفياتي متعقل أن يفكر بمسابقة أميركا وهذا حالها في العسكرة والتسليح!؟ وكيف لمراقب متعقل أيضاً أن يفترض ذلك!؟

لنعد إلى مقارنة قوى الغرب مجتمعة مع قوى الاتحاد السوفياتي منفردة حين كانت المقارنة تفرض نفسها في الحرب العالمية الثانية حيث كانت كامل القدرات الحربية للدول تتمثل على الأرض وفي سوح القتال. طيلة الحرب كانت جيوش بريطانيا وأميركا وفرنسا الحرة تحارب على شواطئ المتوسط الجيش الإيطالي وحيدا ويضم 30 فرقة فقط سيئة التدريب والتسليح. لم تدخل هذه الجيوش أية معارك ذات شأن مع الطليان سوى ما سمي بحرب "العلمين" وهي معركة هامشية صغيرة لم تتجاوز خسائر الطرفين فيها 15 ألف جندياً، بينما واجه الاتحاد السوفياتي وحيداً 180 فرقة ألمانية ممتازة التدريب والتسليح. وحينما كانت موسكو مطوقة من ثلاث جهات بزهاء 3 ملايين جندياً نازياً وقابل أفريل هاريمان مبعوث الرئيس الأميركي ستالين ليسأله عن توقعاته لتطور الحرب فكان جواب ستالين أن الجيش الأحمر سيقاتل الألمان في حوض الدنيبر السنة القادمة أي بعيداً عن موسكو مئات الكيلومترات إلى الغرب وهو ما أدهش هاريمان وظنه نوعاً من الخُيلاء العسكرية. وحين باتت هزيمة ألمانيا التي كانت قد طوّحت بأكبر إمبراطوريتين استعماريتين، فرنسا وبريطانيا، عقب معركة ستالينغراد التاريخية ومعركة "كورسك" القاصمة في الأفق القريب في 6 يونيو حزيران 1944 إضطرت الدول الغربية العظمى الثلاث، أميركا وبريطانيا وفرنسا الحرة، إلى القيام بإنزال النورماندي بأعداد تقل عن 200 ألف جندياً بعد إلحاح من الجنرال أيزنهاور وتهديده بالإستقالة من قيادة الجبهة الغربية. كان هدف الإنزال هو فتح جبهة غربية تساعد في تخفيف الضغط على الجبهة الشرقية لكن جبهة حربية لم تفتح على الإطلاق حيث لم تواجه جيوش الإنزال أية مقاومة وازنة من قبل الألمان قبل وصولها شرق فرنسا في جبال "الجاردنز" حيث وقعت في تطويق كامل محكم من قبل 20 فرقة ألمانية كانت قد عادت من الجبهة الشرقية للراحة. خلال عشرة أيام 25 ديسمبر – 5 يناير لم تفلح جيوش الغرب في الإفلات من الطوق النازي وباتت تتهددها الإبادة والفناء ؛ فكان أن اتصل تشيرتشل بستالين على التلفون يستعطفه النجدة ؛ وبذلك أمسى الإنزال عبئاً إضافياً على الجبهة الشرقية وليس عوناً لها. إذاك قرر ستالين خلافاً لراي جميع أعضاء مجلس الحرب فتح أكبر جبهة حربية عرفها التاريخ غطت عرض القارة الأوروبية قي 12 يناير 1945 شارك فيها حوالي 2.5 مليون جندياً. ظلت هذه الجبهة بلا اسم بسبب ضخامتها ربما ولا يذكرها التاريخ بالرغم من أنها هي التي حررت الجيوش الغربية من حصار الجاردنز وهي التي ا حتلت برلين، بينما بالمقابل يحتفي الغرب سنوياً بوقاحة ما بعدها وقاحة بذكرى إنزال النورماندي الذي لم يحارب ولم يكن له أي أثر يُحتسب في الحرب متناسين ونستون تشيرتشل يبكي مستعطفاً ستالين النجدة لإنقاذ كامل جيوش الإنزال من حصار الجاردنز قبل انتهاء الحرب بأربعة شهور فقط ومتجاهلين أيضاً توبيخ ستالين لتشيرتشل في مؤتمر بوتسدام قائلاً له.. " أنت لم تصل لبوتسدام إلا لتأخذ نصيبك من الغنائم أما أنا فما أتيت إلا لأدافع عن الحقوق الديموقراطية للشعب الألماني ". إفتتح الجيش الأحمر برلين بحوالي 3 ملايين جندياُ يعمل خلفهم في خطوط الإمداد ما بين برلين وموسكو 3.5 مليون أي ما مجموعه 6.5 مليون جندياً، هذا بعد أن فقد الجيش الأحمر أكثر من 9 ملايين جندياً في الحرب قبل وصوله برلين، في حين ركن بعيداً عن برلين 700 ألف جنديا هم مجموع جيوش الدول الغربية. إحتلال برلين كلف الجيوش السوفياتية فقدان حوالي 400 ألف جندباً برغم الحرفية المتميزة للجنود السوفييت في الحرب وأسلحتهم المتطورة المتفوقة على الأسلحة الغربية وشجاعة الجنود السوفيات وكانت مضرب الأمثال. ليس هناك أدنى شك لو أن ستالين كلف الجيوش الغربية باحتلال برلين لبادت جميعها قبل أن تدخل برلين شبراً واحداً. كان ستالين يعلم ذلك جيداً لكن إخلاصه لحلفائه يتعدى كل ما يمكن افتراضة في شيوعي لينيني بلشفي فكان أن تكفلت الجيوش السوفياتية باحتلال برلين.

بعد احتلال برلين وسحق غلاة النازيين وهتلر في وكرهم سارعت الجيوش السوفياتية إلى عبور أوروبا وآسيا وقامت بسحق جيوش اليابان البرية في منشوريا وهو ما أرغم إمبراطور اليابان هيروهيتو على الاستسلام في 2 سبتمبر ايلول وليس القنبلتين الذريتين الأميركيتين في هيروشيما وناغازاكي في 6 و 9 أغسطس آب، حيث استمرت اليابان تحارب أكبر دولتين عظميين، أميركا والإتحاد السوفياتي، لثلاثة أسابيع طويلة بعد القنبلتين الذريتين قبل الإستسلام في الثاني من سبتمبر ايلول 1945.

كان ستالين يدرك حقيقة الفرق بين الاتحاد السوفياتي كدولة اشتراكية عظمى كلية القدرات والدول الرأسمالية محدودة القدرات كما ثبت ذلك في الحرب وما دعا تشيرتشل لأن يخاطب ستالين في رسالة له في 6 ابريل نيسان 1943 بالقول.. "أنتم العمالقة ونحن لسنا مثلكم" – نحن يعني بريطانيا وأميركا - ولذلك عندما شكلت الدول الغربية حلف شمال الأطلسي لمحاربة الشيوعية رد عليهم ستالين بالقول.. "لن نحاربكم بل سنتغلب عليكم بالمنافسة السلمية" وكان ما يؤكد ذلك هو أن الاتحاد السوفياتي استعاد إعمار آثار الحرب المدمرة خلال خمس سنوات فقط وغدا أجمل مما كان قبل الحرب وهو ما صعق الشاب غورباتشوف في رحلته من الجنوب إلى موسكو حيث رأى بأم عينية البلاد السوفياتية خلية نحل لا تهدأ ليلاً نهارا حتى اعتقد أن البلاشفة ليسوا من المخلوقات البشرية وأقنعوا الناس بأنهم سيبنون لهم الفردوس كما قدم في كتابة "البريسترويكا". صعق غورباتشوف لأنه ليس شيوعياً وكان لو تصفح قرارات الحزب في الخطة الخمسية الخامسة – وكان خروشتشوف قد أغلق عليها في صندوق حديدي مفتاحه مع الرئبس السوفياتي فقط - لوجد أن الاتحاد السوفياتي كان فعلاً يبني الفردوس على الأرض في نهاية الخطة عام 1956 لو لم تُلغَ كسراً للقانون في سبتمبر ايلول 1953.

ما هو حقيق بالتأكيد هنا هو أن المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي في نوفمبر 1952 قبل رحيل ستالين بثلاثة شهور فقط قرر بحضور ستالين أن النظام الإمبريالي سينهار في وقت قريب – ينهار بذاته وليس بالحرب. المبدأ الأساسي في الستالينية هو ضد التسلح وإنتاج الأسلحة وهو ما تسبب بمحاولة قيادة الجيش في العام 1937 تدبير انقلاب ضد ستالين، وبتوجيه نقد حاد له لتخلف الأسلحة السوفياتية لدى بداية الحرب في يونيو حزيران 1941. وعاد في العام 1950 يعلن سياسته السلمية بالتصريح.. " يسود السلام في العالم وينتصر إذا ما أخذته الشعوب بأيديها وذادت عنه حتى النهاية ". مؤتمر أنصار السلم في ستوكهولم في العام 1950 تبنى تصريح ستالين وجعله نداء عاما لشعوب العالم جرى التوقيع عليه من قبل أكثر من 400 مليون إنسان. ليس بعد هذا يمكن الإفتراض أن الدولة السوفياتية كانت ستنتهج سياسة التسلح.

لما كان موضوعنا هو التسلح أو ما عًرف خطأً بسباق التسلح ترتب علينا أن نستعرض القوى العسكرية للإتحاد السوفياتي ثم مقارنتها بنظيرتها في الدول الغربية وحلف شمال الأطلسي التي لم تثر قلق ستالين كما أسهبنا ربما أعلاه كيما نؤكد دون أدنى اشتباه أنه لم يكن في العالم أي سباق للتسلح. ولنا أن نعلم في هذا السياق أن النظام الرأسمالي لا يتحمل سباقاً للتسلح حيث الأسلحة ليست من الإنتاج البضاعي وهو الأمر الذي يحتاج من الماركسيين تحديدا النظر فيه وفق التحليل الماركسي للنظام الرأسمالي.

(يتبع)&