في واحدة من أكثر ممارسات الفساد السياسي وأخطرها، نشوء بازار أو سوق لبيع وشراء المناصب الحكومية، وربما هي سابقة على مستوى الشرق الأوسط إن لم يكن العالم، حيث ظهرت مع بداية تشكيل الحكومة العراقية في 2005 إثر إسقاط الولايات المتحدة لنظام صدام حسين، وبقاء العراق تحت سيطرة حاكم أمريكي مدني منذ 2003 وحتى تشكيل حكومة نوري المالكي الأولى.
ومن أغرب الأمور في هذه القضية أن الكل يتحدث عن الفساد المستشري بين معظم مفاصل الدولة العراقية الحديثة دونما الحديث أو التركيز على أساسيات هذا الفساد وصناعته، ألا وهو بيع وشراء المناصب التي كانت حتى سنوات قبل سقوط النظام تكليف وليس تشريف، بل كانت حملاً ثقيلاً على المكلّف أيام العهد الملكي، وكثيراً ما كان المرشحين يعتذرون عن تولي تلك المناصب احتراماً لأنفسهم وللوظيفة، خاصة وأن الأخيرة لم تكن مغرية بامتيازاتها آنذاك كما هي الآن سواء في الحكومة أو البرلمان أو العسكر.
إن أهم أسباب نشوء هذا البازار الذي كاد أن يمحي أي شعور وطني أو إحساس بالمواطنة الرفيعة والانتماء الحر، هي تلك الامتيازات الفضيعة التي خلقت بيئة خصبة لا للتنافس بل للتقاتل من أجلها، وركن الوطن ومزايا الوظيفة العامة ومسؤوليتها في زاوية مظلمة لا موقع لها في أجندة المكلف، لأن عينه وعقله بالتأكيد على الامتيازات وعلى مساحات الثراء الفاحش والعمولات والسحت الحرام، حتى تحولت مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية إلى إقطاعيات وعمولات وأسواق للصفقات والشركات الوهمية التي تمتص ميزانية البلد إلى درجة تم تصنيفه واحد من أفشل بلدان العالم وأكثرها فساداً.
لم يكتفوا ببازار المناصب الوزارية والإدارية العامة في المركز والمحافظات، بل وصلت الأمور مؤخراً إلى أن يتهم رئيس الوزراء المكلف الجديد أطرافاً متنفذة في البرلمان والحكومة بدفع مبالغ لأعضاء مجلس النواب لعدم حضور الجلسة أو عدم الإدلاء بالصوت أو رفض منحه الثقة، وهذا يعني أن صفات أخرى تتبلور الآن لشراء أو بيع منصب رئيس الوزراء، في بلد لم تعد غالبية قواه السياسية المتنفذة تلتزم بما كتبته من وعود وتعهدات للأهالي، وخاصة الدستور الدائم للبلاد الذي لم يعد أكثر من كتاب مركون على رفوف مكاتب المسؤولين للتجمل به ليس إلا، ورحم الله من أخبرنا بالتراث القديم القائل إنهم كانوا يصنعون آلهتهم من التمر، وحينما يشتد بهم البرد أو الجوع يلتهمونها، وما أشبه أحفاد اليوم بأجدادهم في الأمس!
التعليقات