من الأمور الأكثر غرابة في المجال الجيوسياسي الاستراتيجي، هو التساؤل المستوحى من دراسة الأحداث التاريخية؛ تساؤل مضمونه المختصر ينحصر في عبارة مفادها: كيف صمدت البشرية كل هذه المدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية من دون حرب عظمى، وكيف استطاعت، منذ سنة 1945 وحتى اليوم، أن تتجنب نشوب حرب عالمية ثالثة!

إنَّ طبيعة الحرب الكونية الثانية المدمرة لأوروبا بالأساس، والمؤثرة على جل دول العالم بنتائجها الكارثية، بشرياً واقتصادياً، ومدى بلورتها وتصورها الجديد للخريطة السياسية العالمية غير المستقرة، وطريقة تفصيل مسار جديد للعلاقات الدولية لما بعد الحرب بمقاس الدول المنتصرة، نكاية بدول المحور التي قادتها ألمانيا في عهد أدولف هتلر النازية، يعد أمراً بديهياً في سياسة الانتصارات الحربية. ولعل من أبرز النتائج التي أفرزتها تلك الحرب هي القوى التي أصبحت تتحكم بخيوط اللعبة السياسية العالمية، وهي قوى معدودة، لكنها فاعلة ومؤثرة في مجمل السياسات الاقتصادية والإعلامية والثقافية والعسكرية الخفية والمعلنة نسبياً، كالولايات المتحدة الأميركية والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا، وتتمتع كلها بحق النقض داخل مجلس الأمن، الذي أريد له ضمان استمرار السلم العالمي، حيت تمت صياغته وفق نموذج إصلاحي لتفادي الأخطاء التي أدت إلى فشل عصبة الأمم، ودفعت بالدول الديكتاتورية آنذاك إلى التمرد على مقررات مؤتمر فيينا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، خلافاً لدول كثيرة، صاعدة اقتصادياً وعلمياً وسياسياً، حُرمت لحد الآن من هذا الامتياز، أي امتياز الفيتو. وأمست القوى المتحكمة هي الناهية والآمرة في هذا العالم، الذي تحرك خيوطه مصالح متعددة الاتجاهات والمشارب، تلك المصالح قد تكون خفية، لكن قراراتها وأفكارها محورية في جل الصراعات العالمية والاقليمية والقطرية.

إقرأ أيضاً: جدلية النص السردي والفكر الصوفي

ولعل الأغرب في هذا العالم الذي أصبح مليئاً بالمآسي تارة، والصدمات الدورية طوراً، هو لم لم يندفع ساسة العالم، خصوصاً الدول العظمى، نحو إشعال حرب عالمية ثالثة، بالرغم من الظروف المواتية، القادرة على الدفع بلهيبها الحارق في أي لحظة، بالنظر إلى تشابك المصالح، وتناقضها في الكثير من الأحيان، حول العديد من القضايا الاستراتيجية الدولية، التي سالت فيها الكثير من القرارات والمواقف المتضاربة، والممزوجة بدم الأبرياء، والمنتعشة اقتصادياً ومالياً بتجارة الأسلحة، وتحقيق الأهداف الخفية من خلال تأييد طرف على آخر، في تشابه كبير للمسار الذي سارت عليه الحربين الباردتين الأولى والثانية، إذ تحولت البلدان الضعيفة سياسياً أو المنهزمة ثقافياً أو العاجزة اقتصادياً، كلوح للشطرنج، يتناوب على اللعب فوقه الكبار، في مقابل اكتفاء الدول التابعة بالمشاهدة، والاندهاش، والخوف من أن يقلب اللاعبون الطاولة، وتسقط اللعبة في مستنقع يجهل كيفية الخروج منه. هذه الألعاب والألاعيب الموظفة بذكاء براغماتي واستخباراتي، هدفها أساساً الوصول إلى الاطاحة بأكبر عدد من الركائز الحامية لمفهوم أطلق عليه ظلماً سيادة الدول، والشرعية الدولية، الممزوجة في بعض الأحيان بمفاهيم حقوقية كبيرة، كحقوق الانسان وفروعها المتعددة الأهداف.

إقرأ أيضاً: غاندي والفلسفة المناهضة للعنف

فها هي الصراعات مشتعلة في كثير من المناطق، ولعل أخطرها ما يدور في ساحة الحربين العالميتين الأولى والثانية، كما هو الحال في الحرب الأوكرانية الروسية، زد على ذلك أزمات سوريا والعراق وافغانستان وليبيا، يضاف إليها تأزم العلاقات المتكرر بين دول كبرى، تختلف جوهرياً في قراءتها للأوضاع، وتحويلها لخدمة أجندات تكون لصالحها، أو لصالح سياسة قادتها، الانتخابية أو القومية، أو في صالح حلفائها التاريخيين أو من له ارتباطات ثقافية بها أو مصالح اقتصادية أو منفعية بحتة!

فها هي الحروب التجارية الاقتصادية تتوسع هوتها يوماً بعد يوم بين بعض القوى الكبرى كالولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوربي والصين وروسيا والهند، وها هي صراعات جديدة مؤثرة جيوسياسياً على مصالح الكثيرين، كما هو الشأن في الصراع المحتمل أن ينفجر في المناطق المطلة على نهر النيل كمصر والسودان وإثيوبيا، أو الصراع حول خيرات الاحتياطي الكبير للنفط والغاز في حوض البحر المتوسط، والذي بدأ يسيل لعاب دول كثيرة كتركيا ومصر واليونان وإيطاليا وقبرص وإسرائيل... زد على ذلك مشاكل الشرق الأوسط القديمة الحديثة، كالقضية الفلسطينية، وأزمة اليمن والحرب العبثية فيها، ومشاكل إيران المتعددة، ومشاكل العراق وبروز القوميات والمطالب العرقية المقيتة المدمرة لوحدة الدول، كالقضية الكردية، والطوائف الدينية الراغبة في إنشاء كيانات خاصة بها، بعدما أدركت ضعف السلطة المركزية لبعض دولها.

إقرأ أيضاً: هل يمكن للذكاء الاصطناعي توقع الموت... حقاً؟

ولعل تواتر تلك الأحداث، وتوالي الأزمات، لا يقل أهمية عن الأسباب غير المباشرة التي أدت إلى اندلاع حربين عالميتين في 1914 و1939.

بيد أن الأوضاع الحالية، أو السالفة كانت أكثر خطورة، لكن لم تصل لدرجة دفع العالم نحو حرب عالمية ثالثة. تلك الأحداث كانت شديدة الحساسية الإقليمية والدولية، كالحرب العراقية، وتدمير نظام صدام حسين، أو ما تعرضت له الولايات المتحدة من هجمات غريبة وحزينة على العالم في 11 أيلول (سبتمبر)، أو ما تعرض له الشعب السوري من تشريد من قبل أياد تلاعبت بعقول الجميع، واستعملت المفاهيم الديمقراطية لتمزيق الأنظمة السياسية، وفق مقاربة دقيقة اسمها الفوضى الخلاقة، أو... أو... كل هذه الوقائع جنبت ولم تسقط بالرغم من تأثيرها الكبير، العالم في دمار كبير، لسبب بسيط، هو أن الدخول في حرب عالمية ثالثة، يعني قطعاً فناء العالم، وتدمير الحياة على الكرة الأرضية، بالنظر لتوافر الأسلحة النووية، والهيدروجينية، والجرثومية البيولوجية، وغيرها من آليات الدمار التي لم يفصح عنها بعد، والقادرة على تدمير البشرية وإبادتها بأسرها، وهو ما يفيد تحاشي الدول النووية وغيرها توسيع الصراع، وتجنب المواجة، والاقتصار على الحروب بالوكالة خارج الحدود الأصلية لتلك الدول.

ولعل الكثير من الدول فطنت هذا المعطى وأدركته، وبدأت تفكر في امتلاك أسلحة نووية مدمرة، كما هو الشأن بالنسبة إلى بعض الدول، كالهند وباكستان وكوريا الشمالية ومحاولات إيران ذلك، ناهيك عن دول غير معلنة ربما امتلكت أسلحة نووية بطرق ما.

إقرأ أيضاً: إقليم كوردستان: نجاح أثار حفيظتهم

كما أنَّ الخطر يزداد كلما تم التنصل من الاتفاقيات المتعلقة بالحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل. وهو ما يزيد الأمر تعقيداً، في عالم على حافة الإفلاس القيمي الأخلاقي أولاً والبيئي ثانياً. وأمام هذا وذاك، لا زال أهل العقل منهمكون في الاتجاه السلبي للعلم المصلحي، المرتبط بالقوميات عوض السهر على خدمة الإنسانية جمعاء، وعوض التفكير بروح نقية تقي العالم من مخاطر تهور قائد ما، أو سياسة مندفعة وعمياء، قد تساهم في قلب كل الموازين، وتورط العالم في حرب عالمية ثالثة، قد ينتج عنها فناء الإنسان والحيوان فوق هذا الكوكب الجميل المشترك، الذي وجد لكي يعيش فيه الجميع، لا لكي تندلع فيه حرب تقضي على أمل الجميع بحياة هادئة، مسالمة، تحترم الإنسان، مهما كان، ومن أي كان، وكيفما كان!

لذا، فنشوب حرب عالمية ثالثة، هو بمثابة دمار مرعب! دمار مدفون داخل ثابوت! بيد أن هذا الثابوت للأسف به ثقب ينبعث منه غاز رهيب قادر على الانفجار في أية لحظة.