فيلم الخصم إنتاج سويدي دانماركي مشترك، ومرشح للأوسكار لهذا العام كفيلم غير ناطق بالإنجليزية، ولاقى استحساناً كبيراً من النقاد حين تم عرضه في مهرجان برلين، ونال جائزة أفضل دور نسائي في مهرجان "الخنفساء الذهبية " المقام في السويد، كما أن الفيلم لم يُعرض في إيران إلى الآن، وأغلب التقارير المنشورة حوله في الصحافة الإيرانية، تحاول مهاجمته على المستوى الفني أو الأخلاقي.

"لم يحمني صمتي ولن يحميك صمتك"؛ يبدأ فيلم الخصم بهذه المقولة لأودري لورد، الشاعرة الأميركية السمراء والناشطة في مجال حقوق المرأة والمدافعة عن حقوق الأقليات والمختلفين، سواء في اللون أو العرق أو حتى في الميول الجنسية.

وحيد كذئب
كالذئاب المنفردة،التي احترفت الوحدة بالرغم من حنينها إلى القطيع، ينطلق إيمان بطل فيلم الخِصم في رحلته إلى المنفى، هروباً من واقع لا تُحتمل رداءته في إيران بلده الأم، بعد تعرضه لوشاية قلبت حياته رأساً على عقب، وحولته مع بطل وطني في رياضة المصارعة الرومانية، وممثل لمنتخبه في الأولمبياد، إلى مطارد من المخابرات الإيرانية، وهارب بشكل غير شرعي إلى السويد، لتبدأ أشد فصول ملحمته التراجيدية قسوة.

الذئب عنصر أصيل في تكوين الحالة النفسية للفيلم، فأحياناً يظهر بشكل منفرد يحوم حول مكان إقامة اللاجئين في السويد، وسط الثلوج البيضاء التي تسيطر على أغلب مشاهد الفيلم، وأحياناً يقطع عواءه صمت الليل القاسي، خصوصاً حينما يتم نقل إيمان وأسرته من منزل إلى آخر بواسطة الحكومة السويدية، حتى يتم البت في طلب اللجوء. في رمزية توحد بين حالة الوحدة التي يعيشها الذئب المنبوذ من قطيعه، وبين حالة البطل الهارب من وطنه.

الخوف من الاضطهاد السياسي والاتهام بالمثلية
الأحداث تبدأ بهروب إيمان من صالة التدريب في إيران، بعد بحث عناصر أمنية عنه، وأثناء هروبه يعتدي على أحد زملائه بالضرب المبرح، بسبب محاولته الوشاية به، خصوصاً بعد معرفة إيمان أن زميله هذا هو من أشاع عنه أنه معارض للنظام الحاكم ومشارك في مظاهرات مهسا أميني، التي طالبت بإسقاط الولي الفقيه، مما يضطره إلى الهروب مع زوجته مريم مدرسة الموسيقى، وابنتيه عسل وسحر، عن طريق حدود كردستان وصولاً إلى السويد، وهناك ينفتح على مأساة جديدة للمهاجرين الإيرانيين، الذين يعيشون بين خوفهم من الترحيل القسري إلى بلادهم التي هجروها لأسباب عديدة، ورجائهم في الحصول على إقامة دائمة في المنفى، مما اضطر إيمان إلى أن يشارك في رياضة المصارعة لصالح أحد الأندية الكبرى، على أمل أن يحصل على نقاط أفضل أمام إدارة الهجرة تضمن له الاستقرار.


حاول مخرج الفيلم أن يلمح أكثر من مرة للميول المثلية لدى بطل الفيلم

نلاحظ طوال الفيلم صراع البطل، ليس فقط مع واقعه المعقد، ولكن كذلك مع ذاته، فقد حاول مخرج الفيلم أن يلمح أكثر من مرة للميول المثلية لدى بطل الفيلم، خصوصاً في علاقته مع زميله السويدي في التدريب توماس، فنلاحظ التقارب الجسدي القوي بينهما، خصوصاً أثناء المباريات، بالرغم من عدم التصريح بتلك الميول بشكل واضح، ولكن إيمان وأثناء حديثة مع ممثلة إدارة الهجرة، وبعد يأسه من نيل الإقامة، قرر أن يخوض مغامرة شديدة الخطورة، فصرح أن سبب تركه لوطنه إيران، هو ميوله الجنسية المغايرة مع أحد زملائه في التدريب في إيران، والذي قرر فضح الأمر، ما عرضه للخطر، فالمثلية تُعد جريمة تستحق الإعدام في إيران. وبالرغم من محاولته التبرير أمام زوجته أن الأمر برمته مجرد كذبة اضطر إليها على أمل عدم الترحيل إلى إيران، إلا أنها، وبسبب شعورها الأنثوي الخاص تجاه زوجها، تقرر العودة إلى وطنها مع ابنتيها بالرغم مما يلاحق هذه العودة من مخاطر، خصوصاً أنها اكتشفت حملها في بداية وصولهم إلى السويد.

وتعد المثلية من الأمور التي نالت اهتماماً خصوصاً في المراكز البحثية الإيرانية خلال السنوات السابقة، مما يعكس أهمية رصد هذا الإتجاه في المجتمع. فتبعاً لتقرير منشور عن دراسة قام بها مركز الأبحاث التابع لمجلس الشورى الإسلامي (البرلمان)، فإن نسبة الممارسات المثلية 17 بالمئة بين طلاب المدارس الثانوية، طبقاً لعينة الدراسة التي وصلت إلى 140 ألف طالب. كما أشار نفس التقرير إلى أن 80 بالمئة من عينة الفتيات ـ قيد الدراسة ـ قمن بتجربة علاقة جنسية مع الجنس الآخر ولو لمرة واحدة. وبالرغم من إنكار رموز النظام الإيراني وعلى رأسهم أحمدي نجاد رئيس الجمهورية الأسبق وجود مثليين في إيران، وكذلك العديد من رجال الدين المحافظين، لكن أثار التقرير الأخير الجدل داخل البرلمان.


ملصق الفيلم

الفيلم يحاول أن يطرح فكرة المثلية داخل المجتمع الإيراني، في إطار من التناقض، فكافة أشكال المصارعة في إيران لها مكانة خاصة في المجتمع، وتُعد امتداداً طبيعياً لفكرة "الفتوة" والفتيان، المأخوذة من المذهب الشيعي، كما أن لها امتداداً قومياً منسحب على رياضة "الزورخانه" (بيوت القوة) وهي من الرياضات الشعبية في إيران، لتأتي شخصية بطل مصارعة له ميول جنسية مغايرة، لينسحب هذا التناقض على كل أشكال الحياة في إيران، فقد خلق النظام الحاكم في إيران بعد الثورة، حالة من التناقض الشديد داخل المجتمع، بين ضرورة الإلتزام بالإطار الديني / المذهبي، الذي تفرضه الدولة على الحياة الشخصية للأفراد، خصوصاً مع هيمنة رجال الدين على الحكم، وبين تطلع نسبة كبيرة داخل المجتمع ذاته إلى الحرية العامة والخاصة، مما أفرز تناقضات كثيرة داخل السياق الاجتماعي.

قام بدور إيمان الممثل الإيراني المعروف بيمان معادي، أحد أشهر الممثلين الإيرانيين في العقد الأخير، وله حضور جيد في السينما الأجنبية كذلك، ومن أشهر أفلامه الفيلم الإيراني "انفصال" (جدائى)، من إخراج أصغر فرهادى، والذي نال أفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية من جميعة الأوسكار 2012. وبيمان إيراني أميركي، هاجر والداه إلى أميركا قبل الثورة الإيرانية، وولد هناك وعاد إلى إيران في عمر الخمس سنوات، وأكمل دراسته في إيران، وله في الآونة الأخيرة مواقف سياسية وفنية مغايرة لبعض توجهات الحكم في إيران، وقد هاجر نهائياً منذ حوالى ست سنوات، واستقر في السويد.

الشتات الإيراني مأساة الدولة والمجتمع
يناقش الفيلم قضية غاية في الأهمية داخل المجتمع الإيراني، وهي قضية الهجرة، فإيران مصنفة دولياً من أعلى الدول في معدل الهجرة، فقد بلغ عدد المهاجرين حسب آخر الإحصائيات الرسمية حوالى أربعة ملايين إيراني، أغلبهم في الولايات المتحدة وكندا وألمانيا، بالإضافة إلى السويد وفرنسا، كما توجهت بعض الهجرات إلى الإمارات وتركيا، فقد وصل عدد المهاجرين سنوياً حوالى 200 ألف مواطن إيراني، واحتلت إيران التصنيف الأول في الهجرة غير الشرعية، بعدد 18 ألف مهاجر عبر الخليج العربي في العام الأخير، حسب الإحصائيات الرسمية التي أعلنها "مرصد الهجرة الإيراني"، ويتم أغلب حالات الهجرة بسبب الحالة الاقتصادية المتردية والاختلاف السياسي، وتمت موجهات الهجرة بشكلها المكثف منذ بداية الثورة الإيرانية التي تعاملت مع كل مخالف لها بوصفه يستحق النفي أو الإعدام، مروراً بالتجنيد الإجباري في مرحلة الحرب العراقية الإيرانية، وصولاً للخلافات السياسية التي امتدت بين النظام وجيل الشباب حتى الآن.


يصور الفيلم الشتات الإيراني بصورة المجتمع المحافظ على تراثه الاجتماعي وموروثه التقليدي

وقد شكلت أزمة الهجرة ثقلاً شديداً على المجتمع، خصوصاً على مستوى الأمن القومي الإيراني. ولا ينحصر المهاجرون في فئة اجتماعية بعينها، بل تشمل الهجرة كل الفئات والوظائف، خصوصاً أصحاب الشهادات العليا من الطلاب، وكذلك هجرة الأطباء التي شكلت أزمة حقيقية في الحياة الاجتماعية في إيران، بل أن البرلمان الإيراني ناقش منذ عدة أسابيع أزمة هجرة أطقم التمريض التي بلغت فقط خلال العام الماضي حوالى 3000 ممرضة، وهذا يتم بشكل سنوي، مما ينذر بانهيار الجهاز الطبي في إيران. وهناك كذلك هجرة الحرفيين إلى دول مثل تركيا والعراق، وهجرة الكتاب والمثقفين. وبالرغم من محاولات الدولة الإيرانية خلال العقد السابق تدارك أزمة المهاجرين، وتشجيع إيرانيي المهجر على العودة، إلا أن نزيف المهاجرين ما زال مستمراً.

يُجسد الفيلم تلك الأزمة في شخصية عباس جار إيمان في سكن اللاجئين، الذي باع إحدى كليتيه حتى يتمكن من تحصيل المبلغ المناسب للهجرة، وتعلم اللغة السويدية، وعمل كمترجم مع إدارة الهجرة، واستمر به الحال على هذا المنوال على أمل أن ينال موافقة الحكومة السويدية للإقامة وعدم الترحيل، وحينما تفشل كل تلك المحاولات، يقرر إضرام النار في نفسه، والانتحار في مشهد شديد المأساوية، يجسده الفيلم وسط حالة من ذهول الجميع، وكأنه المصير المنتظر.

يظهر الشتات الإيراني بوضوح أثناء أحداث الفيلم في محاولة إيرانيي المهجر استعادة تراثهم القومي أحياناً، عن طريق تجمعهم أو الغناء والعزف لبعض المقطوعات الإيرانية الشعبية، في إشارة واضحة إلى أن أزمة المهاجرين ليست الرغبة في التغريب ونسيان الهوية الإيرانية، وإنما هي أزمة مرتبطة بشروط حياة أفضل بعيداً على طبيعة النظام الحاكم في إيران.


ثمة رمزية توحد بين حالة الوحدة التي يعيشها الذئب المنبوذ من قطيعه وبين حالة البطل الهارب من وطنه

النموذج الأوضح لتلك الفكرة كانت في شخصية الزوجة مريم، التي رفضت كل ما يتعلق بحالة الشتات، فهي قررت العودة، بالرغم من اضطهاد الأجهزة الأمنية لها حين عودتها، وحرمان بناتها من الالتحاق بالتعليم إلى حين الانتهاء من التحقيق، إلا أنها وبعد تجربة مريرة قررت أن تضع مولودها الذكر في إيران، بعيداً عن حالة التشوه النفسي التي يعبر بها زوجها إيمان، أو النهاية المأساوية لعباس، فقد اختارت الوطن بكل ما فيه من عيوب.

قامت بدور الزوجة مريم الممثلة الإيرانية المقيمة في السويد مارال نصيري (43 عاماً)، وهي من الناشطات السياسيات المعارضات للنظام الإيراني في الخارج، وكانت والدتها من المعارضات للثورة الإسلامية، وتم اعتقالها بعد الثورة، في سجن أوين سيْ السمعة، وطبقاً لتصريحات مارال، فهي وُلدت في سجن أوين، قبل الافراج عن والدتها مع العديد من السجينات في ذلك التوقيت، بعد إضرابهن عن الطعام ثم هاجرت من إيران إلى السويد.

الخصم و نهاية البطل التراجيدي
الفيلم من إخراج ميلاد عالمي، الذي وُلد في إيران وتخرج من المدرسة الوطنية للسينما في الدنمارك في عام 2011، ويُعتبر فيلم الخصم ثاني فيلم طويل بالنسبة له، وهو من المخرجين الواعدين في الخارج الإيراني. وللمخرج عالمي موقف مناقض للنظام في إيران، فقد صرح أكثر من مرة أنه لن يصمت ضد ممارسات النظام، وأنه يشجع كل الفنانين الإيرانيين في الداخل على كشف أزمات المجتمع، بالرغم من صعوبة التعبير الحر في إيران، وأنه يتمنى تغير نظام الحكم في إيران، فبتغيره ستتغير خارطة الشرق الأوسط بأكمله.


تثير نهاية الفيلم المزيد من المخاوف على أجيال المستقبل في ظل النظام الإيراني البوليسي الحالي

وقد انسحبت آراء عاملي بوضوح على نهاية الفيلم. بشكل يليق بمأساة المصارع إيمان، الذي قرر العودة إلى إيران بشكل مفاجئ، ليلحق بزوجته وأسرته، خصوصاً بعد معرفته بوضع زوجته لولده، ليتم القبض عليه في يوم وصوله ومن منزله بواسطة الأجهزة الأمنية، التي لا تظهر إلا في إطار أصوات غاضبة أو منذرة، وليس لممثليها حضور واضح، فالفيلم تعامل مع النظام وأجهزته الأمنية كفكرة أشمل وأوسع من مجرد تجسيد لشخصيات واضحة. فيختفي إيمان دون حتى علم أسرته باختفائه، أو بمعنى أدق دون إكتراث أحد بهذا الاختفاء، فقد جاءت نهاية البطل الذي صارع ذاته ومجتمعه، والأجهزة الأمنية التي قررت القضاء عليه لمجرد شائعة حتى وإن صحت فهي حرية شخصية، ليُنسى كأنه لم يكن، ليأتي آخر مشهد في الفيلم على وجه الطفل حديث الوجود في الحياة، في محاولة لإثارة المزيد من المخاوف على المستقبل الوليد.

قد يكون الخصم الحقيقي في الفيلم هي الدولة التي تواجه المجتمع وتضعه دائماً على حافة الخطر، وقد يكون الصراع والتناقض الداخلي الذي تسبب فيه النظام الحاكم داخل المجتمع خلال العقود السابقة، فالمجتمع الإيراني ما زال يعاني من صراعات كثيرة ومتداخلة سواء على المستوى العرقي أو الديني أو الثقافي أو السياسي. فالخصم هو كل صراع يضع المجتمع في حالة حيرة أو خوف.