ليس هناك أي شك أن ما يجري في سوريا من معارك وسيطرة جبهة النصرة "فرع القاعدة" وفصائل الجيش الوطني المعارض الموالية لتركيا على حلب وإدلب وحماة، هو مخطط تركي جديد لخلط الأوراق، وتغيير خارطة النزاع ومناطق السيطرة بما يضمن المصالح الجيوسياسية والأمنية لتركيا، وذلك بعد أحداث غزة ولبنان، وتورط طهران فيها، وكذلك انشغال موسكو بحربها على أوكرانيا، وفوز دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية.

رغم أنَّ الحكومة التركية تدّعي أنها فوجئت بما حدث ولا علاقة لها بما يجري، إلا أنَّ الواقع والحقائق تثبت أنَّ كافة الفصائل والجماعات السورية المتطرفة والمسلحة تعمل بتوجيهات وخطط الاستخبارات التركية، حيث تقدم لهم الدعم اللوجستي والسياسي منذ عام 2012، وتستخدمها كأدوات ضغط على النظام السوري، وعلى جميع الأطراف المنخرطة في النزاع السوري، لتحقيق مصالحها وطموحاتها في الهيمنة على سوريا وخاصة المدن المتاخمة للحدود مع تركيا، وقمع الطموحات الكردية السياسية في سوريا.

عوامل وأسباب عدَّة دفعت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للجوء إلى ورقة الفصائل السورية المعارضة وإشعال فتيل النزاع في هذا التوقيت:

أولاً: أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر) في غزة، ومن ثم انتقالها إلى لبنان لتتحول إلى حرب دموية دفعت إسرائيل وعلى لسان رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو إلى الإعلان عن مشروع شرق أوسط جديد، وتصريحات المسؤولين الإسرائيليين أنهم بصدد دعم الكورد في المنطقة كاستراتيجية مضادة للضغط على طهران وأنقرة ونظام دمشق لحماية أمن اسرائيل من سياسات تلك الأنظمة ودعمهم لحركة حماس وحزب الله.

فكرة التعاون الإسرائيلي - الكردي، ولو كانت نظرية بالطبع، ستثير جنون وقلق أردوغان، وإمكانية أن تساهم في استهداف الداخل التركي، حيث هناك حوالى 35 مليون كردي في تركيا، وقضية كردية تقمعها تركيا منذ عقود، وبالتالي احتمالات مساهمة إسرائيل وواشنطن في إقامة إقليم كردي في شمال شرقي سوريا، كنموذج مشابه لنموذج كردستان العراق؛ إقليم كردي غني بموارد النفط والغاز والقوة العسكرية، والموقع الجيوسياسي والاستراتيجي، سيشكل عقبة أمام تحركات طهران ومليشياتها الشيعية في المنطقة، ويستخدم كورقة ضغط ضد تركيا وإيران، وكذلك كمشروع "الأقاليم الفيدرالية في سوريا" كأحد الحلول السياسية للنزاع السوري.

ثانياً: فوز ترامب في الانتخابات واختياره فريقاً من المتشددين تجاه سياسات تركيا وإيران وروسيا، ودعمهم الكورد في المنطقة، مثل ماركو روبيو المتشدد، وصداقته وعلاقاته مع الكورد، ورفضه لمواقف تركيا العدائية تجاه سياسات واشنطن في الشرق الأوسط، والذي سيستلم وزارة الخارجية. أيضاً المرشح لتولي مستشار الأمن القومي مايكل والتز، وشعور أردوغان أن ترامب وفريقه سيسعون إلى وضع استراتيجية متشددة وجديدة في الشرق الأوسط لكبح جموح تدخلات طهران الشيطانية في العراق وسوريا ولبنان، والتعامل بشكل جديد مع مطامع أردوغان في المنطقة والتي تساهم في زعزعة الاستقرار، وتشكل خطراً على مصالح الولايات المتحدة وحلفائها أمن اسرائيل، وبالتالي قلق أردوغان من أن تعزز أميركا وجودها العسكري في سوريا، وزيادة الدعم للكورد في سوريا والعراق، وهذا سيشكل خطراً على تركيا ومصالحها.

ثالثاً: محاولات أردوغان الانفتاح على الرئيس السوري بشار الأسد بعد الانفتاح العربي والأوروبي بهدف إعادة تطبيع العلاقات، ودفع الأسد للوصول معاً إلى حل سياسي في سوريا، بما يتوافق مع مصلحة الطرفين، ولو كانت على حساب بعض أطراف المعارضة التي تتحكم بها تركيا، شرط عمل نظام الأسد مع تركيا أمنياً وعسكرياً لمحاربة الكورد في سوريا، ومنع تحقيقهم أي طموحات سياسية، والضغط عليهم ليكونوا تحت سلطة النظام السوري. لكنَّ رفض الأسد العروض التركية وبضغط من إيران، واشتراطه إنهاء تركيا احتلالها للأراضي السورية، ووقف دعم الجماعات الإرهابية السورية، كانت السبب في غضب أردوغان من موقف الأسد وطهران.

ما الذي ستحققه تركيا من مصالح من وراء هجوم النصرة والفصائل في سوريا؟

سيسعى أردوغان لعقد صفقات مقايضة مع الأطراف المهيمنة على سوريا، أو التي لها مصلحة من هذا النزاع بين الفصائل المعارضة والنظام وروسيا والمليشيات الشيعية الإيرانية. فهذا النزاع فيه مصلحة تركية - أميركية - إسرائيلية ضد الوجود الإيراني والروسي، ويساهم في إضعاف النظام وطهران وحزب الله، وقد يكون سبباً في قطع الإمدادات العسكرية عن حزب الله في لبنان، فضلاً عن الضغط على نظام الأسد للابتعاد عن محور المقاومة والقبول بالإملاءات التركية.

ولأجل تحقيق كل هذا، سيطلب أردوغان من إسرائيل عدم التعاون مع الكورد، وكذلك من واشنطن الانسحاب من سوريا، ووقف دعم الكورد في سوريا، وتسليم سوريا لتركيا وجيشها لترتيب ملفات النزاع السوري بما يتوافق مع المصالح المشتركة بين أنقرة وواشنطن وتل أبيب.

في الضفة الأخرى، سيضغط أردوغان على موسكو وطهران لجرهما إلى جانبه في العمل معاً ضد الكورد، وإفشال أيّ مخططات أميركية في دعم حكم ذاتي كردي، أو إقامة إقليم كوردي فيدرالي في شمال شرقي سوريا، وبالتالي أن يضغطا على الأسد للتنازل لتركيا، والعمل مع تركيا ضد الطموحات الكوردية، وسيكون ثمن الصفقة سحب تركيا للفصائل من المدن السورية، وكذلك القيام بترتيبات الحوار السياسي بين النظام والمعارضة، حتى لو كان الثمن التخلي عن تلك الفصائل، ما دام فيه إنهاء للهيمنة الكوردية على شمالي شرقي سوريا.

بالنتيجة، نجح أردوغان في تسخير النزاع السوري من جديد لمصالحه وإشعال النزاع للضغط على جميع الأطراف ذات النفوذ في سوريا، وفرض ما يريده في مستقبل سوريا، ومنها منع الكورد من تحقيق أيّ مكاسب سياسية في سوريا، وتأسيس حل سياسي في سوريا يحقق مصالح أنقرة الجيوسياسية. وبالنهاية، حتى لو لم يستطيع أردوغان تحقيق طموحاته في سوريا، سيكفيه أنه سيطر على حلب التي تمثل أحد أطماع تركيا التاريخية منذ عهد العثمانيين لضمها لتركيا لتصبح الولاية رقم 82، حيث تم رفع العلم التركي على قلعة حلب الأثرية. ولو تعرّضت سوريا للتقسيم، فستكون تركيا قد حصلت على جزء كبير من الجغرافية السورية.