طلحة جبريل من الرياض: كان ذلك اليوم هو يوم الاقتراع في الانتخابات البلدية في الرياض . قلت لزميلنا سلطان القحطاني نزور منطقتين لنرى كيف تسير الامور . مركز انتخابي في منطقة يقطنها ناخبون ميسورون . ومنطقة اخرى للشرائح الفقيرة او محدودة الدخل .
كانت البداية من شمال الرياض في أحد الاحياء الراقية . مركز اقتراع "مدرسة الفرزدق" . عدد الناخبين لم يكن كبيراً لكن من الواضح انهم يعرفون ما يريدون . يتأملون اسماء المرشحين في كل دائرة من الدوائر السبع ثم يدخلون الى المكان المخصص لكتابة الاسماء التي يرغبون فيها ...ومن ثم الى حيث توجد صناديق الاقتراع .
لم يكن هناك ما يستدعي البقاء طويلا في هذا المركز ، خصوصا أن احد المشرفين سألنا " هل انتم إعلاميين " وحين ردينا بالايجاب طلب منا الابتعاد عن صناديق الاقتراع . فابتعدنا .
كانت وجهتنا الثانية هي "منفوحة ". سبق وان تحدثت عن تجربة مثيرة في هذا الحي الشعبي ولا اود ان أكرر . بيد انني تمنيت ان اعود الى "منفوحة" مرة اخرى للكتابة عن منطقة تشكل الآن قاع الرياض في حين كانت هي المنطقة التي سكنتها الطبقة المتوسطة في زمن مضى . هكذا قيل لي .

كان ختام أيام الرياض زيارة القرية التراثية " العذرية" التي شيدها الامير عبدالعزيز بن فهد في قلب الصحراء خارج الرياض .
وهي محاولة مثيرة لاسترجاع الماضي حياً يمشي على أرجل .
قيل لنا ان العشاء في " العاذرية " ... والى الحافلات يا شباب . لم أدر ما هي الحكاية ، المهم الى الحافلة .
وصلنا الى القرية التي شيدت كما كانت تشيد المباني منتصف القرن الماضي . مع المدخل وجدنا " الجمالة" رجال مكلفون برعاية الابل . إبل فوقها السروج تماماً كما كان الحال في بادية نجد منذ عقود بل ربما منذ قرون .
كانت مفاجأة لطيفة أن أجد جميع رعاة الابل من السودان ، من قبيلتي "الرشايدة" و "الكواهلة" . "الرشايدة" قبيلة عربية حديثة الهجرة من نجد الى شرق السودان ، بدأت هجراتهم في آواخر القرن الثامن عشر واستمرت في القرن التاسع عشر. يحتفظون حتى الآن في لغتهم المحكية ببعض المفردات الفصيحة التي انقرضت . يقولون على سبيل المثال عن الماء البارد العذب " الماء الزعريط " . والماء الزعريط في لسان العرب يعني " الماء القراح البارد العذب " . لكنها ولا شك قبيلة سيئة الحظ . هاجرت من الجزيرة العربية الى السودان قبل ان ترفل الجزيرة العربية في الثراء مع منتصف القرن الماضي ، ثم جذبتهم الجزيرة مرة اخرى مع سبعينات القرن الماضي حيث عادوا للاشراف على تربية ورعاية الابل في الخليج . معظمهم يشار اليهم في خانة المهنة في جوازاتهم السودانية بلفظة " راعي " . وكانوا يجدون تسهيلات كبيرة من السفارات الخليجية في الخرطوم للانتقال الى الخليج .
وهاهو النفط يكتشف في السودان ويتطلع السودانيون أن تصبح بلدهم دولة نفطية تنضم للاوبيك العام المقبل ، لكن معظم " الرشايدة "هاجروا كعمالة مطلوبة ومرغوبة في منطقة الخليج . تركوا الجزيرة العربية بدون نفط ثم هاهم يتركون بلدهم السودان وقد تفجرت فيه آبار النفط . يا لتعاسة هذه القبيلة .
حين عرفوا انني من هناك رحبوا ترحيباً حاراً . سالني أحدهم : ماذا تعمل ؟ ... أجبت "راعي كلمات" .
اعتقدت لسذاجتي انه لن يفهم ، لكنه اجابني ضاحكا بالعامية " الكلام ...بيرعوه " . اقترح علينا جولة على راحلته ، كنت اريد ان اتمشى على الاقدام في العاذرية . لكن زميلنا احمد نجيم راقته الفكرة .
طلب " الجمال" من جمله ان ينهض ...ففعل كما قال امرؤ القيس :...تمطى بصلبه وأردف إعجازًا وناء بكلكل " . رحنا نضحك من منظر نجيم بزيه العصري وهندامه الذي يعتني به كثيراً وهو يتارجح فوق سنام جمل يقوده رجل من بادية السودان في بادية نجد .
تجولنا كثيراً في " المصمك" الذي شيد على غرار " مصمك" الملك عبدالعزيز في الرياض ، وهي بناية تجمع بين القصر والقلعة .
بداخلها تشعر انك عدت فعلاً تسير في دروب تاريخ مضى .
وفي جانب آخر من القرية هناك السوق التقليدي بجميع طقوسه واجوائها وأناسه والصناعات اليدوية التي كانت قائمة آنذاك، ثم لوحات حية لبعض مناحي الحياة في نجد قديما بما في ذلك النشاط الزراعي والتعليم والبناء . لوحات نابضة صممت بكيفية ملفتة ، جميلة، وبدون تصنع .
بعد جولة في القرية عدنا الى ساحة نصبت في وسطها الخيام وقدمت فرقتان واحدة من جنوب السعودية رقصة من رقصات المنطقة ثم فرقة اخرى " العرضة النجدية" .
بعدها كان الموائد تطفح بالطعام .
أكلنا ثم أكلنا .