د. شاكر النابلسي
&

&
-1-
قضيت فترة في قراءة تاريخ العراق في القرن العشرين بإمعان شديد من خلال عدة كتب لكتاب مختلفين من العرب والعجم. وخرجت من هذه القراءة بنتائج أريد من الأصدقاء العراقيين أن يشاركونني التأمل فيها، عساهم ينقلونها إلى الآخرين داخل العراق، وهي النتائج التي لم نعتد نحن القراء العرب على قراءتها في تاريخ العراق الذي كتب معظمه حتى الآن من قبل مؤرخين مؤدلجين، سواء كانوا من اليمين المتدين، أو من اليمين القومي، أو من اليسار القومي.
سوف أدخل في الموضوع مباشرة، وأقول مذكراً العراقيين بأن ما تقوم به المؤسسات الدينية العراقية بالتضامن مع العشائر العراقية في فرض سيطرتها وقرارها السياسي على مستقبل العراق بما يشبه ثورة دينية عشائرية مشتركة في وجه ما يجري التخطيط له من تسلّم للسلطة وانتخابات نيابية عامة والشروع في استعداد الشيعة لمقاومة قوات التحالف في العراق التي لم تأت غازية، وانما جاءت محررة والدليل أنها حددت أزمنة تسليم السلطة للسيادة العراقية في وقت أقصر مما كان مخطط له في البداية، وذلك تحت ضغط رجال المؤسسات الدينية العراقية الذين أصبحوا هم الزعماء السياسيين الحقيقيين في العراق، وليس مجلس الحكم أو الحكومة المعينة. وهو ما عارضناه في السابق لأنه يحرق المراحل ويسلق الديمقراطية كسلق البض السريع وتكون النتيجة التعثر والوقوع وعدم تحقيق الآمال المرجوة.
&
-2-
المؤسسات الدينية العراقية& - يا معشر العراقيين - تقوم الآن بما قامت به في عام 1920. لقد اندلعت الثورة في 1920 في جنوب العراق ليس ضد المحتلين الانجليز فقط ولكنها كانت بفضل عوامل كثيرة منها ما قام به الشريف حسين في الحجاز 1916 وثورته على الأتراك، وما قام به المصريون في 1919 في ثورتهم ضد الاحتلال البريطاني، وانتشار مبادئ الرئيس ولسن في الحرية والديمقراطية وتأرجح السياسة البريطانية تجاه الهند نتيجة لتضارب آراء الخارجية البريطانية وتعليمات حكومة الهند البريطانية التي كان العراق تابعاً لها. واليوم تتغير الظروف وتتبدل وتعلن المؤسسات الدينية بأنها سوف تعلن الثورة والعصيان في وجه قوات التحالف فيما إذا لم تجر الانتخابات اليوم وليس غداً. وما موضوع الانتخابات في ظني واعتقادي إلا حُجة تمثل "قميص عثمان" وحقاً أُريد به باطل، يرفعه أشياخ الدين لكي يبرروا خروجهم إلى الشارع، وبدء معركتهم من أجل الاستيلاء على الكراسي والقبض على المراسي.
&
-3-
المثقفون العراقيون يعرفون اسم "الخاتون" جيرترود بيل (1868- 1926) "ملكة الصحراء" و "ملكة العراق غير المتوجة" و "الأسطورة" و "العقل المدبر للورانس العرب" و "سيدة قصر الملك فيصل الأول" .. الخ، التي كانت تعمل في العراق لحساب المخابرات والحكومة البريطانية، وكان لها دور فعال في تولية الهاشميين على العراق. لقد شهدت الخاتون بيل في العراق في العشرينات ما نشهده الآن من قيام المرجعيات الدينية عموماً بالاضافة إلى زعماء العشائر العراقية بفرض هيمنتهم السياسية وخطابهم السياسي على الشارع العراقي والمطالبة باجراء انتخابات سريعة في وضع فوضوي غير آمن وغير مستقر في العراق.
فماذا كان جواب الخاتون بيل على ذلك في العشرينات من هذا القرن؟
قالت في رسالة لها في عام 1920 بشأن وضع الشيعة في العراق وكونهم جبهة معارضة دائمة، وحين سألها في ذلك الوقت عبد المجيد الشاوي:
-&& ماذا تفعلين إذا أصدر المجتهد الأكبر الذي يكون صوته صوت الله فتوى مآلها أن لا يجلس شيعي في الجمعية التشريعية، حين تكون خاضعة للانتداب البريطاني؟ أو إذا نوقش قانون فاصدر المجتهد الأكبر فتوى بأنه مخالف للشرع وينبغي رفضه دون النظر إلى اعتبار آخر؟
فردت الخاتون بيل:
-&&&&&&&& لم نبلغ بعد مبلغ اعتبار ما يقال هراء، وكلاماً في الهواء، تطلقه مجموعات من العجائز الذين بلغوا من العمر عتياً، من حوزات أشبه بالأبراج العاجية، ولم يدركوا بعد ما تم تغييره على أرض الواقع.
فانظروا يا أهل العراق كيف يُعيد التاريخ نفسه، واتعظوا!
&
-4-
كان لزعماء الشيعة اليد الطولى في ثورة 1920 ولم يشترك في هذه الثورة غير قلة قليلة من رجال الدين السنيين، لأنهم اعتادوا منذ العهد العثماني على تأييد الدولة وتولي وظائفها، ولكن ظهر في ذلك التاريخ كما يظهر اليوم شيوخ دين من السنة كيوسف السويدي وأحمد الداوود من اشترك في هذه الثورة في حين كان الشيوخ الآخرون كعبد الرحمن النقيب ومحمود شكري الآلوسي وعلي علاء الدين وغيرهم، لا يرون الخروج على السلطة حتى ولو كانت كافرة. ولنا اليوم من أمثال أولئك وهؤلاء في العراق الجديد الكثير.
فانظروا يا أهل العراق كيف يُعيد التاريخ نفسه، واتعظوا!
&
-5-
في 1920 كان كثير من زعماء العراق يحنّون إلى الحكم التركي (وهو نظام صدام الآن) ويقول التاريخ أن فريقاً من هؤلاء الزعماء لم يقبلوا بما عُرض عليهم من مناصب في العهد الجديد، عهد الهاشميين والاحتلال الانجليزي (وهو مجلس الحكم الآن والاحتلال الانجلو أمريكي) أملاً في عودة الحكم التركي (حكم صدام الآن) إلى ربوع العراق وكان الشيخ مهدي الخالصي - كما ذكر علي الوردي في كتابة "لمحات اجتماعية" - يفضل حكم الأتراك المسلمين الطغاة على حكم الانجليز الكفار العادلين (يوجد كثير من الشيوخ الآن في العراق يفضلون حكم الطاغية صدام على حكم الكفار) . وكان هؤلاء يمثلون رجال الدين وشيوخ القبائل بينما النخب الشابة المتفتحة كانت ترى اللعب بالنار والتمرد على الانجليز هو من المحاذير المُهلكة باعتبار أن الانجليز في ذلك الوقت كانوا هم أمل العرب كما يقول مير بصري في كتابه "أعلام السياسة في العراق الحديث".
فانظروا يا أهل العراق كيف يُعيد التاريخ نفسه، واتعظوا!
&
-6-
عندما تقررت عودة أرنولد ولسن وكيل المندوب الملكي البريطاني العام في العراق واستبداله بببرسي كوكس لإصلاح الأمور (وهو الآن بريمر باشا) وتأليف حكومة وطنية برئاسة عبد الرحمن النقيب، وقف مزاحم الباجه جي (والد عدنان الباجه جي رئيس مجلس الحكم العراقي لشهر يناير 2004) في حفل وداع السير ولسن الذي أقامه عبد اللطيف باشا المنديل في البصرة، وأبدى أسفه الشديد من أعمال التخريب الذي قام بها المرتزقة العرب في العراق (وهم الآن الغُربان من العُربان) وأدّت إلى خيبة بريطانيا في التزاماتها المشرّفة وعزا ذلك إلى مصالح مادية نفعية. وقال مزاحم الباجة جي في ذلك الوقت أن اعتبار ثورة 1920 ثورة وطنية، فيه الكثير من الحذر وهي تمثل بعض القبائل البدوية (فلول صدام الآن) ولا تمثل شعور المجتمع كله. وأن هذه الثورة ("المقاومة" الآن) ليس عراقية خالصة، وفيها عناصر اجنبية لاستغلال الثروة وسفك الدماء لمنفعتها الخاصة.
هذا كلام أيها السادة - قيل في ثورة 1920 التي يتغنّى بها المشرق والمغرب من القوميين والمتأسلمين!
فانظروا يا أهل العراق كيف يُعيد التاريخ نفسه، واتعظوا!
&
-7-
ماذا فعل الانجليز في العراق طيلة أربعة عشر عاماً (1918-1932 ) ؟
حكم الإنجليز العراق نفس المدة (14 سنة) التي حكمها الجـلاد المملوكي داوود باشا (1817-1831) حكماً مطلقاً مستبداً. وكان داوود باشا هذا (وأصله من جورجيا) عبداً رقيقاً اشتراه طفلاً سليمان الكبير، ثم أصبح مُلاّ (رجل دين) في أحد جوامع بغداد. وكوّن لنفسه اتباعاً من المماليك الذين نصبوه باشا عليهم!
يجمع المؤرخون على أن الانجليز خلال فترة الانتداب التي انتهت بدخول العراق في عضوية "عصبة الأمم" عام 1932 حرروا العراق من القبضة التركية (نظام صدام الآن)، واقاموا حكومة وطنية (مجلس الحكم الآن) برئاسة الشيخ عبد الرحمن الكيلاني تمهيداُ لانشاء الحكم الملكي (النظام الجمهوري الديمقراطي الآن) . وأيدوا ترشيح العراق كعضو في "عصبة الأمم"، (اعادة العراق إلى الحظيرة الدولية الآن) قبل أربع سنوات من انضمام مصر (الشقيقة الكبرى) إلى "عصبة الأمم"، ونقّبوا عن البترول واستخرجوه. وأخذوا بيد العراقيين نحو النهضة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية (معظم الكوادر السياسية والاقتصادية والعلمية العراقية تخرجت من المعاهد البريطانية). وضمنوا وحدة العراق، وقضوا على حركات التمرد في الشمال، وساعدوا على تفاهم العراق مع جيرانه وتحديد الحدود معهم، (إعفاء العراق من ديونه الدولية والعربية الآن) والحقوا ولاية الموصل بالعراق، وقاموا بتسوية الخلافات بين العراق وجيرانه (تركيا، السعودية، ايران) ( وهو ما تقوم به أمريكا الآن) وبين الغرب كذلك (فرنسا). ولم يفرطوا في عهد الانتداب بأي إقليم من العراق كما فعلت فرنسا بسوريا حين فرطت بالاسكندرون في 1938 وأعطته لتركيا. وأصدروا دستور 1925 كضمان للحريات بعد مناقشته في المجلس التأسيس مناقشة دقيقة ( كما يفعل بريمر باشا الآن) واقاموا نظاماً تعليمياُ واقتصاديا متقدماً استطاع العراق من خلاله أن يكون في طليعة البلدان العربية تقدماً وانتاجاً.
فانظروا يا أهل العراق كيف يُعيد التاريخ نفسه، واتعظوا!