منذ سقوط شاه إيران في 11 شباط من عام 1979، بدأت الاوساط الفکرية و الثقافية تتحدث عن کثب بخصوص ما سمي حينه بالصحوة الاسلامية و ما تلتها من نشوء تنظيمات و حرکات إسلامية ذات طابع حرکي يميل الى إستخدام العنف و جعل فلسفة المواجهة و تغيير الواقع بالقوة بديلا للفلسفة التي کانت قائمة وقتها، مع ملاحظة أن ذلك الحدث الاستثنائي الذي وقع في طهران قد صادف أيضا نشوء فکر إسلامي حرکي في إفغانستان لمواجهة الاحتلال السوفياتي حينها لذلك البلد.

والامر المهم الذي يجب علينا الانتباه إليه جيدا هو أن هناك ثمة ترابط غريب بين الامرين و مع أوجه التباين الفقهية و المذهبية بين الاتجاهين، لکن الذي يشدهما و يجمعهما الى بعضهما قد کان أقوى من الذي يفرق بينهما کما أن الوضع الدولي و واقع النفوذ و نوع و طبيعة المصالح الامريکية المتداخلة في المنطقة بوجه خاص کان يدعم بقوة نشوء و بلورة مثل هذه الاتجاهات الاسلامية التي قد تخدم مصالحها على المدى البعيد. وقد کان لوقع إغتيال الرئيس المصري أنور السادات عام 1980 على يد عسکري مصري متشدد و ذلك الصعود الملفت للنظر للتيار الاسلامي في الجزائر و إندلاع الحرب العراقية ـ الايرانية و تلك المقاومة القوية التي أبدتها الفصائل الاسلامية بوجه الاحتلال السوفياتي، ردود فعل قوية على الشارع العربي و الاسلامي ساهم في بلورة رؤية محددة لم يکن فيها من السهل الفصل بين جوهر الاسلام الواقعي الذي تربت عليه الاجيال العربية المسلمة طوال قرون طويلة و بين هذا الاسلام الجديد المتسم بطابع من العنف و المواجهة و رفض کل الحلول و الخيارات السلمية و البديلة و جعل خيار القوة هو الاساس و المرتکز الوحيد للعمل الحرکي.

وقطعا فإن الحديث عن أيادي و مصالح أجنبية منتفعة من وراء نشوء و إنتشار هکذا حرکات متطرفة لم و لن يکون حديثا إعتباطيا و عرضيا وإنما هو واقع ليس بالامکان إنکاره أو عدم وضعه في الحسبان، لکن الامر الهم الذي يجب وضعه تحت المجهر هو حقيقة و ماهية أهداف و برامج هذه الحرکات المتطرفة و صيغة عداءها غير المنطقي و الغريب من نوعه مع کل مخالف لهم کما ان سعيهم المميت لفرض آرائهم و توجهاتهم على الاطراف الاخرى و عدم إيمانهم بالرأي الآخر و بالتالي السعي لتحجيمه وصولا الى إنهائه و حتى تصفيته، لکن نظرة موضوعية و واقعية لنوعية دور و تعامل النظام الاسلامي بشکليه الحاکم و الشعبي مع الآخر سيما المختلفين دينيا و عقائديا يبين واقعا متباينا بالمرة مع تلك الصيغة المجحفة من التعامل الفوقي الرافض لکل نوع من أنواع القبول و المساومة و إبداء الليونة.


اليوم، وفي ظل تکالب غير مسبوق على الاسلام و السعي لتصويره على أنه يجسد نفس القيم و المفاهيم التي تدعو إليها تلك الحرکات و التجمعات المتطرفة، فإن الحاجة تزداد لتوضيح ماهية و جوهر الاسلام من حيث کونه بالاساس دينا إعتداليا مرنا بإمکانه ملائمة و معاصرة کل الازمنة و مواکبة متطلبات و إحتياجات مختلف الاجيال. ونحن نرى ان الدعوة لإسلام إعتدالي ليس ببدعة أو إختراع من عندياتنا بقدر ماهو واقع و حقيقة الاسلام المحمدي الاصيل ذاته وأن علماء و مفکري الغرب يدرکون هذه الحقيقة تماما لکنهم وفي خضم عدم وجود تيارات فکرية إسلامية تدعم فکرة الاعتدال و تدعو إليه بقوة فقد يتراجع هؤلاء أيضا عن مواقفهم شيئا فشيئا، من هنا فإننا نرى الحاجة ماسة و ملحة لعقد الاجتماعات و الندوات الفکرية المختلفة بهذا الصدد و طرح حقيقة هذا الامر للمجتمعات الاسلامية اولا ومن ثم إيصالها بالشفافية اللازمة للعالم. و إننا في المجلس الاسلامي العربي نؤسس لمشروع إسلامي عربي وسطي معتدل يتسم بروحه الاصيلة المستمدة أساسا من عمق أصالتنا و تراثنا ومن أعماق وجدان الفرد و الامة وهو مشروع تداف فيه قيم التسامح و المحبة و الإيثار الموغلة قدما في تأريخنا الاسلامي مع مبادئ و أفکار العصر الحديث الخاصة بحقوق الانسان و حرية معتقده. وکما کان لبنان منبرا للحرية و العطاء الفکري و الثقافي أبان عقود من القرن المنصرم و کان مثال لمشروع سياسي و فکري يشار له بالبنان، فإننا نعود من لبنان ذاته لندعو لإسلام إعتدالي وسطي يتسامى على زنخ و صدأ المذهبية و الطائفية البغيضة و يجسد المعاني الحقيقية و معدن و جوهر و روح الاصالة في الاسلام ونعتقد بقوة أننا سنثبت حضورنا و نؤکد أهمية دورنا في بناء فجر جديد مشرق لأجيالنا القادمة.

محمد علي الحسيني
* الامين العام للمجلس الاسلامي العربي في لبنان