متى يستيقظ العراق من سباته العميق وهو غارق في أحلامه، وحمم البراكين تجري من تحت أقدامه وهو لا يعلم؟ إنه كالماشي في منامه لا يعلم متى سيسقط في الهوة. فالبلد يعيش حالة من الانسداد السياسي والثقافي والاقتصادي ومع ذلك يردد قادته بدون وعي الشعارات الدعائية ويصدقونها وكأن بلدهم خرج من دائرة الخطر. هنالك في الأفق أجندات ومخططات ومشاريع، سرية وعلنية، وتحديات تتربص به وقادته يرددون ما تمليه عليهم الماكينة الإعلامية وكأنها حقائق منزلة.
ما هي الحلول الناجعة والعملية التي أعدتها الحكومة العراقية لإنهاء مشكلة النازحين والمهجرين والمنفيين في الداخل والخارج؟، وأزمة السكن والفقر والبطالة وتفشي الأمية والتضخم وارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية وانخفاض القدرة الشرائية ونقص الحصة التموينية، ومعاناة المواطنين التي لم ولن تنتهي من جراء شحة وانعدام أو انقطاع التيار الكهربائي لأكثر من عشرين ساعة في اليوم في جحيم العراق اللاهب في فصل الصيف القاتل حيث وصلت درجات الحرارة إلى أكثر من خمسين في الظل؟ ألا يخاف حكام العراق من انفجار الشعب وغضبته العارمة التي يمكن أن تطيح بكل شيء؟.
ألم يتعظوا ويتعلموا الدرس من عكوف وعزوف المواطنين عن تسجيل أسمائهم على لوائح الانتخابات بالرغم من مناشدة المرجعية لهم بالقيام بذلك؟ هنالك قوانين مهمة تمس حياة المواطن ومستقبله ما زالت الخلافات السياسية الضيقة والأنانية البعيدة عن هم الوطن ومصلحته العليا، تعيق التفاهم حولها والموافقة على إصدارها، وفي مقدمتها تلك المتعلقة بانتخابات مجالس المحافظات التي قد تكشف عورة كل التنظيمات السياسية وتفضح حقيقتها وحجمها الجماهيري الحقيقي.وهناك الملف الذي يخص محافظة كركوك، القنبلة الموقوتة التي قد تفتت العراق برمته لا سمح الله، وهناك الإتفاقية الإستراتيجية العراقية الأميركية الطويلة الأمد المنتظرة التي قد تكبل العراق لعقود طويلة إذا أغفل حكامه حماية سيادة بلدهم واستقلاله، بالإضافة إلى قانون النفط والغاز وقانون الاستثمارات الأجنبية، وموازنة العام المقبل 2009 والخلافات بين الحكومتين المركزية والكردستانية الأمر الذي سيقود حتماً إلى تحالفات وتكتلات جديدة نظرا إلى تباعد المواقف بين القوى السياسية المتصارعة على النفوذ. لا يمكن الركون إلى الحلول الجزئية لهذه المشكلة أو تلك لأنها تبقى مجرد ترقيعات مؤقتة لا تلبث أن تنفجر وتخلق بدورها مشاكل أخرى غيرها بمختلف المظاهر والتداعيات على حد تعبير الشيخ المرجع محمد اليعقوبي المرشد الروحي لحزب الفضيلة في مقابلة له مع ممثل الأمم المتحدة دي مستورا. لذلك لابد من إيجاد حلول جذرية وعملية قابلة للتطبيق لمجمل الوضع الخانق والمزري الذي يسود العراق اليوم.
إن الخلاف الذي شهده البرلمان حول قانون انتخابات مجالس المحافظات يبين عمق الشرخ بين الكتل الحاكمة المستفردة بالسلطة وبين الكتل المقصاة إلى حد التصفية أو التجاهل والتهميش، وما نشهده ونلمسه اليوم من ركود وجمود ليس سوى عينة من المشاكل والأزمات التي تعاني منها العملية السياسية الوليدة في العراق. ليس هناك خيار آخر أمام السياسيين في العراق سوى تحقيق (المصالحة الوطنية) الحقيقية و أن تجلس الكتل السياسية مع بعضها في لقاء مصارحة وشفافية وتتناقش فيما بينها لحل كافة المشاكل التي لن تنتهي من دون إعادة بناء جسور الثقة المقطوعة في الوقت الحاضر، والشاهد على عمق هذا الشرخ وانه هو السبب الحقيقي لهذه الأزمات إن بعض الكتل التي صوتت على المادة (24) ليس لها قرار أو موقف من هذه المادة بالذات أو من الفريق العارض أو المعارض لها وإنما الذي دفعهم إلى ذلك هو شعورهم بالإقصاء ووجودهم في غير خندق الحكومة، فتجد هذه الكتل انه من الطبيعي أن لا تصوت على مشاريع الحكومة التي لا تنظر فيها الأحزاب الحاكمة إلا إلى مصالحها كما قال الشيخ اليعقوبي.
إن العملية السياسية برمتها تحتاج إلى استقلالية القرار الوطني عن تدخلات وضغوط وتأثيرات المحيط الخارجي، الدولي والإقليمي، لاسيما تدخلات دول الجوار، والحد من النفوذ الأمريكي اللامحدود الذي يتلاعب بمصير العراق ومستقبله كما تحتاج العملية السياسية إلى عاملين أساسيين، عامل مساعد، وهو وجود الأمم المتحدة ووساطتها الايجابية في حل المشاكل وتقريب وجهات النظر، وعامل ضاغط وهو التغيير المستمر في اصطفافات الكتل السياسية لتشكيل ثقل سياسي وجماهيري موازي مؤثر على الساحة وعلى المجتمع، لكي يرغم من يخرج عن الإرادة الوطنية أو يتحداها، على الرجوع إلى الصف الوطني وأخذ دوره الذي يستحقه في إطار المشاركة الوطنية الحقيقية، بيد أن ما يعيقنا عن تحقيق ذلك هو الإرادة الأمريكية التي ترى من مصلحتها أن يبقى الوضع السياسي كما هو عليه في توازناته الحالية لحسابات انتخابية واقتصادية وعسكرية وإستراتيجية أمريكية بحتة، لذلك تحول واشنطن دون تشكيل أي تحالف أو تكتل سياسي عراقي جديد يعمل على تغيير الوضع الحالي وإصلاحه.
جميع القوى السياسية العراقية ترغب بالمشاركة الحقيقية المنصفة في العملية السياسية وتأخذ دورها الطبيعي بغية أن يبدو كل كيان سياسي بحجمه الحقيقي من خلال صناديق الاقتراع وتصويت الناخبين واختياراتهم الحرة، فالعراق قادر على قيادة نفسه بنفسه، وهو ليس قاصر عن أداء هذه المهمة ميدانياً وعسكرياً وسياسياً واقتصادياً بالضد مما تريد أمريكا تسويقه ونشر وترسيخ فكرة عدم جاهزية العراق في أوساط المجتمع الدولي لإدامة بقائها فيه وبغطاء قانوني دولي.
د. جواد بشارة
باريس
التعليقات