يصر بعض الباحثين على عد الفلسفة إبداع إغريقي بحت منطلقين في ذلك من عدم وجود مدونات فلسفية يمكن أن ترقى لمستوى مدونات الإغريق في هذا المجال هذا بالإضافة لعدم وجود فلاسفة معروفين يناظرون فلاسفة الإغريق من أمثال بارميندس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم وبالتأكيد فان هؤلاء يجانبون الحقيقة لان الأبحاث والدراسات الحديثة أثبتت بما لا يقبل الشك خطا هذا الرأي وبالتالي لم يعد هناك إلا القليل من الشك حول أصل الفلسفة التي لم يعد بالإمكان إحالتها إلى الأصل الإغريقي كما يحلوا للبعض أن يفعل لان الكثير من الحضارات القديمة كانت تملك إبداعاتها الفلسفية المرتبطة ببيئتها وظروفها الخاصة لكن يمكن عد الإغريق أول شعب حاول بناء فلسفة مستقلة عن الواقع الإغريقي انطلاقا من الطابع التجاري للحضارة الإغريقية فالإنسان في الحضارات القديمة كان يتساءل كما نفعل الآن عن معنى الحياة ومصير الكون والإنسان وحدود المعرفة أي تناول معظم جوانب الفلسفة كما نعرفها الآن لكن الفرق أن أجوبته لم تكن بذات الاتساع والتطور نظرا لقلة خبرته وبساطة تجاربه وتأملاته التي استقت معظم معطياتها وشواهدها من الواقع الذي عاش فيه إذ لم يكن بإمكانه آنذاك الاطلاع على الواقع في مجتمعات أخرى ليعزز به خبرته ومعلوماته أو يثري أفكاره وتجاربه لكن الأمر تغير بعد مجيء الحقبة التجارية التي خلفت حقبة الحضارات الزراعية حيث تحول الوضع بشكل جذري وأخذت الأفكار والتجارب تنتقل من مكان إلى أخر لتتعزز وتتعقد مفاهيم ورؤى العقل البشري الذي أصبح أكثر مرونة وخبرة في التعاطي مع تلك الأسئلة ولذلك لايمكننا فصل فلسفة الإغريق عن ما قبلها من فلسفات مثلت بالتأكيد منابع مهمة لتلك الفلسفة العظيمة ولعل فلسفة حضارة وادي الرافدين هي أهم تلك الفلسفات وأكثرها تأثيرا في الفكر الإغريقي بشهادة الفيلسوف اليوناني (ذيو جانس اللا ارسي ) وآخرين غيره وقد أدرك بعض مؤرخي الفلسفة المحدثين هذه الحقيقة ولكن للأسف هناك محاولات لطمس هذا الأمر لأسباب مختلفة ففضل حضارة بلاد الرافدين وغيرها من الحضارات القديمة لم يقتصر على جانب واحد بل شمل ذلك الكثير من الجوانب المختلفة سواء كانت تلك الجوانب مادية أم ثقافية وبالنسبة للفلسفة يلاحظ القرب المكاني التعاصر الزمني بين عهد أول فيلسوف إغريقي وهو طاليس الملطي وأخر سلالة بابلية حاكمة وهي سلالة بابل الكلدانية فالتشابه بين رؤية ذلك الفيلسوف لأصل الوجود ورؤية الحضارة العراقية له ( اعتبار الماء مصدرا للوجود ) لايمكن أن يكون مجرد صدفة إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار وجود ملطية ضمن حدود الحضارة الحثية السابقة وهي بحسب المؤرخين وأبرزهم توينبي حضارة فرعية من حضارة وادي الرافدين وربما اعتمد الفيلسوف الملطي على معلومات الكهنة والفلاسفة الكلدان سواء بشكل مباشر من خلال زيارته لبلاد بابل أو غير مباشر من خلال الحضارة الحثية المجاورة الأمر الذي أدى إلى نشوء علم الفلسفة الذي تطور بعد ذلك على يد تلميذ طاليس ( انكسمندر) الذي غير في طرح أستاذه لمبدأ الوجود مبينا أن هذا المبدأ يجب أن يكون مادة هيولية تمثل جميعة لكل الأشياء في الكون ومن خلال هذه المعطيات نستطيع أن نستشف شيئا مهما وهو أن الفلسفة لم تكن وليدة التأمل المحض وإنما تجذرت من خلال التجارب اليومية وماقدمته من خبرة تخزنت في الذهن لتنشا من خلالها رؤى فكرية ساهمت في الارتقاء بمستوى العقل ليغدوا أكثر مرونة في التعاطي مع الحياة.


لقد عرف اليونانيون بأنهم مستوردين ممتازين إلى جانب كونهم مبتكرين ومخترعين ومن ابرز الأدلة على ذلك استيرادهم للكثير من المعارف الفلكية والمفاهيم الرياضية التي لم يكونوا بارعين بها جدا ولعل أفضل مثال على ذلك الاكتشاف المثير عن معرفة العراقيين بنظرية المثلث القائم الزاوية قبل فيثاغورس الذي نسبت النظرية إليه حيث عثر على لوح مسماري يحوي منطوق النظرية مكتوب بالخط المسماري مع رسم توضيحي لها وإذا صح هذا على نظرية مشهورة كنظرية فيثاغورس فكيف بسواها من الأفكار والمفاهيم الأقل شهرة ومن الجدير بالذكر إن الكثير من المفاهيم الفكرية بدت وكأنها دخيلة على فكر الإغريق كمفهوم القضاء والقدر ومفهوم العدالة الأمر الذي قد يشير إلى استيرادها من بلاد الرافدين المتعاطية مع هذه الأفكار منذ وقت طويل.


لقد عرفت بلاد الرافدين بكونها موطن للكثير من المدارس الفلسفية القديمة وإنها عرفت العديد من المذاهب الفكرية بما في ذلك مذهب الشك ومذهب الحلول ومارست الإلحاد وعرفت شكلا قديما من المنطق يسبق المنطق الارسطوي بعدة قرون وان منطق بلاد وادي الرافدين كان يتسم بنموذج المفاضلة الشكلية أكثر من ارتباطه بمفهوم القبح والحسن الذي برز عند الإغريق تطابقا مع طابعهم التجاري ومما يؤكد الفضل العراقي القديم وصول الكثير من الإبداعات العراقية القديمة إلى بلاد الهند التي شهدت هي الأخرى حضارة مزدهرة حيث أبانت التحريات الأثرية عن وجود اتصالات مهمة بين الحضارتين مهدت لتطور الحضارة في تلك البلاد الكبيرة. وبالتالي لابد أن نبدد تلك الأوهام التي ترسخت لدى البعض بان التطور والرقي هو حكر لشعوب دون أخرى وان الحضارة ظهرت في الغرب وبقت فيه وليس بالإمكان وصولها ألينا بنفس الحجم والكثافة.


إن هذا الرأي الذي يتبناه البعض هو بالتأكيد رأي خاطئ وعلينا إذا أردنا أن نفنده من النظر إلى الماضي سنجد حينها أن الغرب لم يكن متطورا كما هو الآن ونحن لم نكن متأخرين كما نحن الآن فتطورهم وتأخرنا ناجم بالتأكيد من أسباب خارجية وليس أسباب بنيوية عقلية كما يعتقد البعض. إذن علينا أن لا نستسلم فإننا قادرون على تخطي ما نحن فيه ببعض الجهد والمثابرة والنجاح كما يقولون حليف كل مثابر ومجتهد.

باسم محمد حبيب