في ليلة من ليالي العام 1976 جمعتني سهرة نادرة مع الراحل حابس باشا المجالي قائد الجيش الأردني آنذاك، بحضور عدد من أقاربه، منهم الزميل الكبير نصوح المجالي وزير الإعلام ومدير عام الإذاعة سابقا، ورجل الأعمال الشهير عبد الحي المجالي وآخرون، وكانت الأنباء الواصلة من لبنان ذلك اليوم تهز الأبدان بما تتحدث عنه من تقتيل وتهديم وحرق وتبادل اتهامات بين زعماء الحرب الأهلية اللبنانية، سألت الباشا: لو كلفوك بوضع نهاية لما يجري في لبنان اليوم مثلما وضعت نهاية لما كان يجرى في الأردن في أيلول الذي سمي بالأسود، فماذا تفعل؟
وبكلمات قليلة وبلا تردد قال: أجمع 120 زعيما لبنانيا سياسيا ودينيا وعشائريا وتجاريا، وأضعهم جميعا في منزل منعزل على البحر الميت في الأردن، وأقول لهم: خلونا نشتغل. عدت فسألته: لماذا في البحر الميت في الأردن يا باشا؟ قال: لئلا يقوم أحد من أتباع أحدهم بتهريب الماء والزاد إليهم، إلى أن يموتوا جميعا من الجوع والعطش.
ذكرني بتلك الوصفة المجالية الغريبة ما جاءنا من أنباء عراقية بائسة تتحدث عن اتهامات متبادلة بين كبار المتحاصصين في المنطقة الخضراء، في أعقاب فضيحة ما أسموه بالأربعاء الدامية التي لا أبريء منها لا الجلس الأعلى ولا حزب الدعوة ولا البعثيين ولا الإيرانيين ولا الأمريكان ولا الأكراد ولا سوريا ولا دول اللجنة العربية السداسية المكلفة بالإشراف على العمل المخابرلاتي في العراق، وهي الأردن والإمارات والكويت والسعودية ومصر وتركيا.
فلم أعد أرى حلا للعراق وللعراقيين بعد المآزق التي أدخلنا فيها المالكي ورفاقه، سياسيا وأمنيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، غير العملية القيصرية التي اخترعها حابس باشا المجالي.
عندما غادرت العراق عام 1974 كانت بغداد خضراء، زاهية، آمنة، بسيطة، حميمة، تضج لياليها بالسهرانين الفرحين، وصباحاتـُها الباكرة بالخارجين من منازلهم إلى أشغاهم برضا عميق وقناعة هادئة وتفاؤل لا يتوقف عن الجريان في نفوسهم. فيتحلقون حول أباريق الشاي ورائحة المشاوي، أو يتزاحمون على دكاكين الكاهي والقيمر والباقلاء.
لم نكن نعرف السرقة ولا المخدرات بكل أنواعها. وحين كنا نسمع، في كل عشر سنوات مرّة، بحادثة سطو أو قتل كان العراقيون جميعهم يتعجبون من ذلك العراقي المنحرف الذي سرق أخاه العراقي أو قتله. وما كان يحصل في الانقلابات العسكرية، رغم دمويتها وهي قليلة، كان يحدث في أيام معدودة، ثم تعود الحياة العراقية بسرعة إلى هدوئها وانسيابها الهادئ الرزين، وكأن ما حدث كان غمامة صيف.
وبعد غياب تسعة وعشرين عاما دخلت الطائرة التي حملتني من عمان سماء الوطن في أول أيار/ مايس 2003، فرأيته، من الطائرة، أرضاً يابسة غبراء، وأنهاراً هرمة أنهكها النبات الطفيلي الذي نبت في مجاريها، ومنازلَ ألوانها متعبة وبلون التراب الأصفر الكئيب. أسواقها مقفرة من الزبائن والبضائع. الناس متخلّفون عن باقي الشعوب المجاورة أكثر مما توقعت بكثير. لم يعرفوا الهاتف الجوال، ولا الكمبيوتر المحمول، ولا الصحون اللاقطة التي تستقبل الفضائيات، ولا مكائن سحب النقود الآلية المتناثرة في الشوارع والدكاكين، من المحيط إلى الخليج، ولا ما يسمى بـquot;الكرِدِت كارتquot; الذي أصبح العالم كله يشتري ويبيع بواسطته بدل النقد الكاش، ولا السيارات الجديدة، ولا الملابس المتجددة مع كل فصل أو موسم أو موظة، ولا الطعام الصحي الخالي من السكريات والدهون، ولا أماكن الرياضة وتنمية العضلات، ولا ساحات الجري وممارسة رياضة المشي أو رياضة الدراجات، ولا السفر إلى الخارج للراحة والاستجمام، ولا الطب الحديث وما يستجد من أجهزته وأدواته وأدويته بالأسابيع والأيام والساعات. ماذا حلّ بأهلنا في العراق العزيز؟
لم نكن نعرف هذا التدافع الأناني الخشن في الشوارع، ولم نكن نركب الأرصفة ونحتل الشوارع لنجعلها دكاكين ومعارض. لقد اختفت عبارة quot;تفضل أغاتيquot;. كنت إذا أردت أن تدفع لأحد ثمن بضاعة أو خدمة يرفض في البداية، ويحلف عليك ويقول لك: quot;خليها علينا هالمرة أغاتيquot;، وهو أحوج ما يكون إليها.
واحد فقط من أبنائه المجانين والأنانيين، ممّن تربّوا على العنف والقتل والاغتيال والسطو وانتزاع حقوق quot;الغيرquot;، فعل كل هذا بالعراق والعراقيين في تسعو وعشرين عاما هي فترة غيابي عن الوطن، وهي نفس المساحة الزمنية القصيرة التي جعلت اليابان أقوى قوى المال العالمية المعاصرة، وأجمل بلدان الكرة الأرضية دون منازع.
ومن يوم سقوط ذلك المختل عقليا وروحيا، واحتلال رفاقنا المعارضين السابقين لشوارع المنطقة الخضراء وقصورها، ونحن نمني النفس بعودة الأصالة إلى العراقي الأصيل، وعودة العقل إلى المواطن العاقل، وعودة العدل إلى الشعب العادل. ومع كل انتخابات خنفشارية نـُرحّـل آمالنا إلى التي بعدها، ومن هذه الحكومة إلى التي ستعقبها، ومن هذا البرلمان الملفق إلى آخر قد يكون أكثر رجولة وشهامة، دون أن نرى لغضب الله علينا من نهاية.
هذا هو الوطن المحرر الجديد. من حريق إلى آخر، ومن فضيحة إلى أخرى، ومن جوع إلى جوع، ومن سرقة إلى سرقة أكبر، ومن محاصصة إلى محاصصة، ومن خراب إلى خراب؟.
وأصدقاؤنا الذين كانوا بالأمس، وهم مفلسون يتسكعون في مقاهي دمشق وطهران ولندن وعمان والرياض، طيبين متواضعين يتباكون على العراق، ويلحون في طلب العدل والنزاهة والشرف، تغيروا حين أمسكوا برقابنا وركبوا على ظهورنا. فقد فسدت نفوسهم وتوسخت ضمائرهم، وأصبحوا لا يجيدون غير الكذب والتزوير والتلفيق ومضاعفة الرواتب والأجور والمكافآت والحراسات ولا شيء غير ذلك. فهل هي كانت ملوثة وفاسدة، بالولادة، لكنهم ستروها بمعارضة الظلم وفساد الزمن المقبور، أم إن بريق المال والسلطة أعمى بصائرهم وأبصارهم، وشوه نفوسهم الطيبة وأنساهم الفضيلة والنخوة والشرف، وحولهم من ملائكة خيرة إلى ذئاب جائعة لا تشبع ولا ترتوي من دمائنا ودموعنا، والعياذ بالله؟
كيف تحولوا هكذا ببساطة من تلك الوداعة إلى كل هذه الشراسة؟ ومن تلك الوطنية الصارخة إلى كل هذه العمالة الذليلة لهذه الدولة وتلك، ولهذا الممول وذاك؟ كيف تفجرت في قلوبهم كل هذه الغرائز الشريرة، بهذه السعة وبهذا العمق والتنوع؟ وكيف أصبحت خشونة القول والفعل، في العمل والمنزل والطريق، عاهة متفشية مستديمة في أبدانهم وأرواحهم؟
لم يفسدوا نفوسهم وحدها، بل أفسدوا كل شيء عراقي جميل. الأرض والهواء والماء والمواطن. حتى أصبح العراق أكثر بلدان العالم فساداً، إدارياً وماليا،ً باعتراف الأمم المتحدة، وصارت أجساد النساء العراقيات أرخص البضائع المعروضة في أسواق دمشق وبيروت ودبي، والسرقة شطارة، والتهريب مهنة غير معيبة، والغش ذكاء.
فهل من العقل والفطنة والعدل أن نواصل الحلم بولادة وطن حي من وطن ميت، عاقل من مجنون، وعادل من ظالم، وآمن من محترق، نزوره من حين إلى حين، فلا نكفر به وبأهله، ولا بأمسه وحاضره وغده، ولا نهاجر منه ونحن نحمد الله فقط على أننا تسللنا منه إلى منافينا سالمين؟؟