خواء الثقافة العراقية نتيجة لخواء روح المثقف والأمة
د. فاضل سوداني: لا يتذكر الجمهور العراقي واحد من أهم العروض المسرحية الذي أخرجه الفنان الرائد إبراهيم جلال وأعني دائرة الفحم البغدادية، لأنه منع من العرض في زمن النظام السابق بقرار من وزير الثقافة العراقي طارق عزيز آنذاك.
فرؤية إبراهيم جلال وكذلك مكونات فكره الإخراجي كانت تطمح أن تخلق مسرحا شعبيا بالمفهوم الواسع وليس مسرحا دعائيا مؤد لجا، واكتشف فناننا هذا الأمر عند برتولد برشت لكن النظام السابق وعى هذه الحقيقة فمنع الكثير من المسرحيات، وأهمها هذا العرض المعد عن مسرحية دائرة الطباشير القوقازية لبرشت وكان ألإعداد المسرحي للكاتب المسرحي المقتدر عادل كاظم.
إن المنهج الذي اتبعه جلال في تقريب مسرح برشت من وعي وتقاليد الإنسان والبيئة العراقية كان هدفه تعمق السعي لتكوين أسلوب ومنهج للمسرح الشعبي المثقف الذي يساهم في مناقشة الكثير من المشاكل بروح شعبية مقبولة من جميع فئات الجمهور، بدون السقوط في المباشرة او الدعاية السياسية الحزبية.
لقد كان هذا العرض متفرد ا حقا من خلال تمكن مخرجه من تطبيق منهج برشت في مجادلة عقل وعواطف الجمهور، اعتمادا على الحس الشعبي للإنسان العراقي.وكان يمكن أن يشكل علامة بارزة في تطوير المسرح العراقي و العربي لو قدر للجمهور مشاهدته.
لقد منع بحجج غير مقنعة حتى لممثلي الفرقة القومية أنفسهم. إلا أن سلوك بطل المسرحية (أزدك)(مثله الفنان القدير منذر حلمي) ذلك الصعلوك والسكير والمبتذل والسطحي والمستغل والشقاوة والمافيوي، الذي أصبح حاكما وقاضيا على المدينة نتيجة لظروف استثنائية هي ظروف الحرب، كان هو السبب الذي أدى إلى منع العرض، أي أن الخوف من أن يربط الجمهور بين وصول أزدك هذا لمنصبه مع الكيفية التي استلم بها صدام حسين السلطة في العراق في نهاية سبعينات القرن العشرين التي تعتبر ظروفا استثنائية واضطرابات مشابهة أيضا.
لكنهم نسوا بان بطل مسرحية برشت هذا حكم بالعدل وهو على كرسي الحكم حيث كان ضميره مرشده بالرغم من انه غير أهل لمنصبه. إن منع هذا العرض المسرحي من قبل النظام السابق اثبت خوف السلطة.وبهذا فإنهم سرقوا زمن الفنان والجمهور في آن واحد.
لقد سرق زمن الفنان والمثقف الإبداعي منذ أن بدأ التخطيط للويلات والحروب اللامجدية وبهذا غبن الفنان والمثقف العراقي لأنه عاش في زمن الجهالة كما غبن المسرح العراقي أيضا، بالرغم من ان بعضهم سخر وبإرادته للدعاية عن الحرب مشروعيتها.(لا اربد أن اذكر داخل العراق أو خارجه كما يحلوا للبعض الذي مازال يحلم بعودة الدكتاتورية ويهدد بان يديه طويلة).
ومن اجل مستقبل المسرح العراقي المبدع والإنساني يتحتم الآن بالتأكيد القيام بتطهير الفنان لذاته أولا، حتى يستطيع أن يكون المسرح أكثر إنسانية في واقع اقل عنفا كما كانت هي رسالة الرواد الذين بدأنا بفقدانهم وكان آخرهم شيخ المسرحيين الجليل جعفر السعدي.
مات إبراهيم جلال منفيا في وطنه غير أنه بالتأكيد لعن كما هي عادته تلك الهوة بين طموح الفنان وفقر عصره، مات الفنان غاصا بكلمته الأخيرة التي لم يستطع إطلاقها كإنسان وفنان؟
ألم تكن هذه الكلمة المكتومة هي صرختنا جميعا لأننا لم نستطع تحقيق مسرحنا العراقي الذي نبغي؟ والذي سرق زمنه.
كيف يمكن للفنان العراقي آن يتطهر؟
أن يتطهر بالنور الإبداعي القدسي يعني هذا، أن يتخلص من تكيفه مع تلك المفاهيم التي درج عليها واتقنها بعضهم في زمن النظام السابق لدرجة صعوبة التخلص منها الا بمواجهة الذات والاعتراف ذاتيا بالأخطاء التي مورست وكشف تلك الاساليب التي كان يخطط لها في الأقبية السرية لتخريب وتشويه إنسانية الثقافة العراقية، وبعني هذا وضع المرآة أمام الذات بدون خجل او مكابرة. أقول هذا لانني اعرف بان الكثيرين كانوا أما أصحاب القرارات أو قريبين من تلك المؤسسات المتنفذة.
ومن جانب آخر أن ويتخلص يعض الفانين من أنانيتهم الضيقة وخاصة أولئك الذين استغلوا منفاهم الأوربي أو العربي وسخروا من الجرح العراقي أمام منظمات الدعم الإنسانية، وكان هدفهم هو إشباع الجشع لجمع الأموال والمتاجرة بالبيوت التي اشتروها بعد أن استقطعوها من أموال الدعم باسم العراق سواء في البلدان التي يعشون فيها في أوربا أو في سوريا ولبنان وغيرها، فأساءوا لهدف هذه المنظمات كونه تشجيع وإشاعة الثقافة والفن العراقي في المنفى، واستخدام هذه الأموال للتحكم فيا ذاتيا لدرجة أن بعضهم حولها لطباعة كتبه ودواوينه وترجمتها إلى لغات مختلفة ـ ونسى هذا البعض بان الدعم الثقافي يقدم عادة للمشاريع الثقافية ذات الطابع الجمعوي ليشمل عددا كبيرا للأستفادة منه.ولهذا فان البعض يضطر الى درج العديد من أسماء المثقفين العراقيين (بدون استشارتهم بدرج أسمائهم حتى وان كان على خلاف شخصي معهم) من أجل الحصول على شرعية الدعم عند تأسيس فرقة مسرحية او تجمع ثقافي او مجلة ما، وحتى يستقطع حصة الأسد له ستخرج المسرحية ضعيفة كمسرحيات الهواة، والمجلة كمجلات الحائط.
لكن بعض الفنانين لسجذاتهم وفهمهم الخاطئ للمنفى والاستشراق يسيئون للثقافة والفن العراقي. إذ بدلا من أن يكون المنفى جزيرة لبناء الذات من جديد،وبدلا من أن يفهموا الاستشراق في علاقتنا في مجتمع المنفى الأوربي، على انه فهم ديالكتيكي متشذب من النظرة الضيقة للوطن والهوية المتحجرة التي لا تنسجم مع كوننا نعيش في قرية كبيرة والذي يحتم ضرورة التركيز على أن تكون النظرة الإنسانية الكسموبولوتية هي شفيعنا في فهم تراثنا وتراث الآخر، إلا أنهم أساءوا من جديد عندما استخدموا التراث العراقي القديم مثل كلكامش أو ألف ليلة وليلة وغيرها وقدموها بوعي ساذج، حيث ملأ أحد المخرجين المسرح بالراقصات اللواتي تعلمن رقص هز البطن، ضنا منه بأنه يقدم التراث العراقي أمام الجمهور الأوربي، وذات المخرج حول كلكامش إلى رقص وجنس مبتذل وبشكل سياحي وسطحي.
وحتى نقدم تراثنا العراقي سواء في المنفى أو في الدول العربية علينا أن نتخلص من نظرتنا الصفراء المملوءة حقدا بتأثير الانتماء السياسي والاديولوجي أو من الأنانية الضيقة باستخدام جرح العراق لجمع المال ـ والاستيلاء عليه ـ من تبرعات الدعم الإنساني الذي يمنح باسم الجرح العراقي الذي مازال ينزف وهم يسبحون بدمائه حتى اللحظة مبتهجين.
ومن جانب آخر اطرح السؤال التالي: ما هو التطور الفكري و السياسي الذي ابتلى به المثقف والفنان العراقي المتكيف؟ وهل يمكن للفنان أن يتكيف مع الفكر الفاشي أو ألظلامي (بشكل عام بما فيها الأنظمة الظلامية الشمولية) ويدعوا من على خشبة المسرح لتبرير الفكر الرجعي ألظلامي المتخلف (اذ بعد التغيير انبرى يعض الفنانين لطرح ما يسمى بالمسرح الديني) أو تبرير دموية الدكتاتور وحروبه المجانية باعتبارها حروب وطنية؟، فيكون مستعدا لتهيئة الظروف التي تخلق عدمية الثقافة والفن، و تعميم مجانية العنف لدرجة يصبح سلوكا،وعندما يتحول النظام من الدكتاتورية أو الشموليةـ ألظلامية إلى الفاشية فانه يكون الآلة المنفذة للمشاريع والفكر الفاشي.
إن المثقف المتكيف هو المتلون دائما، أنه الحرباء، والنزق، والأناني المتلفلف الذي ينفذ بين المسامات.
خواء المثقف وأمته
لكن خواء الأمة وأية ثقافة وعدم فعاليتها متأتية من خواء روح المثقف أو المفكر بالدرجة الأولى وعدم تطور الظروف الموضوعية. ولكنبدأ أين كان يكمن مأزق الفنان و المثقف العراقي في زمن النظام السابق وبعد التغيير؟ وهل نحن حقا أولئك الذين زرعنا الجيفة في حدائقنا العراقية الفارهة منذ زمن بعيد؟
إن الفنان و المثقف المتكيف بالرغم من انه كان مجبرا وبالرغم من دموية النظام إلا أن المشكلة كانت تكمن في سيكولوجية مثل هذا المثقف وخواء روحه وعدم إيمانه بهدفه الأسمى مهما كان قريبا أم بعيدا وتسليم الأمر للدكتاتور أن يفكر بدلا منه، ولهذا فان الكثيرين من المثقفين أسبغ على دكتاتوره أو طاغيته صفات الرسل والقديسين والأنبياء. وهذا هو جوهر الخطورة التي فرضها النظام على فنانيه ومثقفيه المتكيفين بشكل مطلق. وكلنا شاهدنا من على شاشة CNN بعض من المديح الأخير للدكتاتور في المقاهي وكذلك شاهدنا أخر تمثيلية ساذجة لمديح الطاغية قدمت على ساحل دجلة من قبل إحدى الفنانات ـ التي تطالب الآن بتعويض من الحكومة الحالية!! ـ قبل دخول الأمريكان بغداد بليلة واحدة. هل هذا هو عبودية؟ أم تبعية الضحية للجلاد أم تفان؟ أم هي سيكولوجية المثقف المتكيف؟؟
فاذا كان الامر أن تخدع ذاتك بهذه السهولة، إذن لماذا فضل مئات المثقفين والفنانين العراقيين الهجرة الى المنفى، ولماذا قتل البعض في الأقبية السرية ولماذا اغتيل الكيثرون سواء في خارج العراق ام داخله ومنهم الفنان ماهر كاظم.
إذن ما يفرضه التطهير الواعي هو الشجاعة في مواجهة الذات لأخطائها وأشناتها من اجل التخلص من ازدواجية ومرض التكيــــف.
ومن اجل المسرح العراقي المسروق على الفنان أن يضع أمامه مرآة الماضي عندها سيكتشف سبب تكيفه مع ثقافة وفن لم تكن تتناسب معه في الماضي وإنما كان مجبرا لأسباب عديدة، وأيضا أن يتخلى عن تكيف المنفى عندما يحوله إلى خزين لحيل التجارة في الفن، لأن هذا أيضا يبعده عن جوهر مسرحه ووطنه، وكل هذا سيؤدى في النتيجة إلى خراب المسرح العراقي وتخلفه.
ما يحتاجه الفتان العراقي الآن هو تحويل المنفي الأوربي و العراقي ـ العراقي والعربي ساحة لبناء الوعي الذاتي والفني الإنساني الجديد وليس لاستغلال الجرح العراقي لإشباع غريزة المال.
ولا يمكن أن يتم هذا إلا من خلال ثقافة حرة بعيدا عن الآديولوجيات المتحجرة والتابوهات الدينية ـ الطائفية، وتحتاج إلى فنان ومثقف حر متفاعل بعيدا عن مشكلة تعليب الوعي، حتى نستطيع إنقاذ ثقافة ومسرح الأمة العراقية وبهذا نستطيع أن نحترم دورنا الإبداعي والفني والتاريخي.


fasoudani6@ hotmail.com