بفضل الشبكة الدولية، لم يعد النشر حكرا على فئة دون أخرى من الكتاب، ولم تعد الثقافة أسيرة بيد بعض القائمين عليها يوجهونها الوجهة التي يريدون لخدمة هذا السلطان أو ذاك، أو لمحاباة هذه الجهة أو تلك، أو ليستخدمونها مطية دعائية رخيصة للدفع باتجاه فكري أو عقائدي ما دون آخر. هذه فضيلة من فضائلها العديدة، إلا إن من مساوئها، وهي قليلة، إن النشر فيها متاح للغث والسمين على حد سواء، ولكن لا ضير في ذلك على أية حال، لأن فرص النقد والتصدي للغث وتمييزه عن السمين متاحة للجميع ولا حصانة لأحد في ذلك، مما سيزيد من قدرة العملة الجيدة على طرد العملة الرديئة والمزيفة.
ليس خافيا على أحد إن الترجمة الأدبية فن صعب وإنها علم لا يؤتى لطالبه بسهولة ويسر ولا يناله كل من هب ودب، وان كل مراكبها صعب إلا إن أصعبها مركب الشعر. فترجمة الشعر عملية يكتنفها الكثير من الخلق والإبداع شأنها شأن الإبداع الشعري ذاته. لذلك فكلما ازداد نفاذ المترجم إلى أعماق النص لفك مغاليقه، كلما اتسعت مساحات الإبداع أمامه وكبر هامشه بين يديه وكلما تضاءل بالتالي خوفه، ولا أقول تخوفه أو تهيبه، من النص الشعري.
لا يكفي لمن يتصدى لترجمة الشعر امتلاك بعض المؤهلات الأكاديمية كالشهادة العليا أو التمتع ببعض الامتيازات الحياتية كالعيش في بلد أجنبي، ذلك لأن الترجمة بوصفها فنا وعلما في آن واحد تتطلب مهارات وقدرات إضافية أخرى يعرفها من خاض غمارها وركب مركبها الصعب، فمنها ما يتعلق بالجانب العلمي، وهو جانب ينبغي أن يكون التحصيل العلمي فيه قد وفر للمترجم فرصة امتلاك ناصية اللغة، بل اللغتين معا، إلا انه وحده لا يمكن أن يكون بديلا عن الجانب الفني والذوقي، أو ما اصطلح عليه بالموهبة، أي تلك القدرات والملكات التي ينبغي أن يتوافر عليها المترجم لكي يستطيع بوساطتها توظيف علمه وخبرته ومؤهلاته توظيفا يصب في النهاية في صالح عملية الترجمة لكي تكون بذلك عملا إبداعيا يطمح إلى مضاهاة الأصل.
إن عدم الإحاطة التامة والمعرفة الكاملة بالنص الشعري من حيث طبيعة لغته ومعانيه السياقية المستنبطة من النص نفسه، لا من القواميس، ومن حيث دلالات صوره ورموزه وتناصاته وإحالاته الثقافية المختلفة، ومن حيث بناه النحوية السطحية والعميقة، وأخيرا وليس آخرا من حيث نظامه الصوتي الوزني والإيقاعي والتقفوي وغير ذلكmdash;كل هذه سوف تؤدي بالتأكيد إلى ترجمة النص الشعري ترجمة حـَرْفية لا روح فيها يكون المترجم قد انتزع من خلالها الحياة من القصيدة الأصل ليعطينا جثة هامدة باللغة الأخرى.
ثمة أسباب عديدة تكمن وراء ذلك، منها ما هو ناتج عن بعض الأفكار الخاطئة عن ماهية الترجمة الأدبية وطبيعتها. من هذه الأفكار مثلا الاعتقاد السائد بأن الترجمة الجيدة الممكنة الوحيدة هي ترجمة الأفكار، أو المضامين، وليس الكلمات. قد يصح هذا الاعتقاد في ترجمة النصوص التي هي أقرب للعلمية منها إلى الأدبية، نصوص ليس للأسلوب والصياغة اللغوية دور مهم فيها، نصوص يهتم كتابها بإيصال الأفكار أكثر من اهتمامهم بطريقة إيصالها. أما في ترجمة الشعر، فالأمر بكل تأكيد مختلف تماما.
إن القصيدة، أية قصيدة، تخلق واقعا مختلفا عن الواقع الحقيقي حتى لو كانت صادقة كل الصدق في محاكاة هذا الواقع. وإلا لما كان الشعر خلقا وإبداعا. القصيدة تخلق واقعا ينبغي على المترجم أن يتعامل معه وفق قوانينه هو، وليس وفق قوانين تفرض عليه من خارجه حتى لو كانت تلك القوانين صارمة صرامة قواعد اللغة ونحوها وإلا لما خرج شعراء كبار مثل شكسبير على قواعد اللغة أحيانا وبالأخص عندما تقف اللغة في بعض جوانبها عاجزة عن تلبية حاجاته الإبداعية، وهذا الخروج هو في حقيقة الأمر ليس إلا خروجا مجازيا لا يتم إلا من داخل هذه اللغة ووفقا لقوانينها لا كما يراه بعض النحاة المتزمتين مثلا على انه خروج على لغة الأسلاف، والشواهد كثيرة في أدبنا العربي كما في آداب الأمم الأخرى. إن الشعراء الكبار من أمثال المتنبي وشكسبير هم الذين أثروا لغاتهم ونفخوا فيه الحياة على مر العصور من خلال قدرتهم على الخلق والإبداع في لغة شعرهم. ومثلما يؤدي الشعراء الكبار هذا الدور في لغاتهم الأم كذلك ينبغي أن يكون في حسبان المترجم انه يلعب الدور ذاته فيما يخص لغته التي يترجم إليها، دورا لا يقل أهمية عن سابقه في الخلق والابداع. من هنا فان مسؤولية المترجم كبيرة وخطيرة، يضاف إليها انك تستطيع التعبير عن أفكارك على قدر كبير من الترابط المنطقي والوضوح، أما التعبير عن أفكار غيرك بالقدر نفسه من الترابط والوضوح فليس بالأمر الهين على الإطلاق.
يتعامل بعض المترجمين مع النص الشعري بحـَرْفية مبالغ فيها تصل حد التقديس حتى لكأن النص متحجرة من متحجرات ما قبل التاريخ وليس عملا إبداعيا ينبض بالحياة ويقبل أن يتنفس حياة جديدة إذا ما نفخت فيه بلغة جديدة؛ وهناك من المترجمين من يستسهل الترجمة الأدبية حتى كأنها تصريف عملة؛ وهناك منهم من لا يستطيعون سبر أغوار النص فتراهم يحومون حوله ويطوفون طوافهم حول المحراب فلا يستطيعون كسر قشرته والنفاذ إلى داخله فيترجمون قشرته فتأتي ترجمتهم ركيكة في لغتها وصياغاتها وأسلوبها وبعيدة كل البعد عن روح النص الأصلي. وهم يفعلون ذلك بحجة الأمانة للنص. إن الأمانة للنص وهم لا يصدقه إلا العاجزون عن فهم الشعر ولغة الشعر والعاجزون بالنتيجة عن ترجمته كما ينبغي أن يترجم. ومن يظن انه يكون أمينا للنص بنقله كلمات القصيدة نقلا مطابقا لمعانيها المعجمية هو في الحقيقة ليس أمينا إلا لقشرة النص.
إن تقديس النص علة من علل الترجمة الرديئة لأنه ببساطة ليس تقديسا حقيقيا نابعا من احترام حقيقي للنص الشعري ومن شعور بالرهبة المشروعة تجاهه، وهو أيضا لا ينبع من الحرص على النقل بأكبر قدر من الموضوعية والأمانة، بل هو في حقيقة الأمر خوف من النص. وماذا تعني الأمانة حقا؟ أتعني فقط انك تكون أمينا للمضمون فحسب؟ ألا ينبغي لمن يدعي ترجمة الشعر ترجمة quot;أمينةquot; أن لا يكتفي بنقل المعنى المعجمي الحرفي فحسب بل عليه أيضا أن ينقل الوزن والإيقاع والقافية والنبرة واللهجة والأسلوب وحتى جرس الكلمات؟ الأمانة الحقة تعني أن عليك أن تنقل كل شيء في النص بدء بالمعنى ومرورا بكل ما يختزنه النص من صور وإشارات ورموز وتناصات وانتهاء بالوزن والإيقاع وحتى القافية. إلا إن المترجم الذي يعاني من علة تقديس النص هو في واقع الحال لا يقدس إلا المعاني المعجمية فقط فتراه يقطـّع جسد القصيدة إلى أوصال يجدها في القاموس وكثيرا ما يقع، نتيجة لذلك، في فخ المفردات أو العبارات أو الجمل التي تلبس النص المترجم لباسا ليس على مقاسه وذلك لأنه يبحث عن القصيدة في القاموس وليس في النص الشعري.
لغرض توضيح ما ذهبت إليه سأتناول بالنقد والتحليل أحدى ترجمات الدكتور بهجت عباس لقصيدة تعد من عيون الشعر الانكليزي الرومانسي، وهي قصيدة الشاعر صموئيل تيلور كولرج بعنوان quot;قبلاي خانquot; (قبلاي خان.. للشاعر الإنكليزي ساموئيل تايلور كُولَـرِيج (1772-1834).. ترجمة ) وبعنوان ثانوي مهم جدا بشقيه هو quot;رؤيا في حلم: مقطوعة.quot; نشرت القصيدة عام 1816 وكان الشاعر قد كتبها عام 1797 في ظروف quot;رومانسيةquot; شيقة وبالغة الأهمية والدلالة لا مجال لذكرها هنا.
لقد وقع اختياري على المترجم الدكتور بهجت عباس لأسباب عديدة تطرقت إلى بعضها آنفا. ولن أخفي على القارئ إن أحد أسباب اختياري إياه هو انه تناول إحدى ترجماتي الشعرية بالنقد وبشيء من التجريح(انظر مقاله المنشور في موقع إيلاف: )مقارنة بين ترجمتين ) الذي ربما يكون قد أزعجني قليلا، إلا إنني في الواقع ممتن له شديد الامتنان لأنه نبهني إلى أغلاط في ترجمتي فتداركتها بالتصحيح وقمت بنشر النسخة المنقحة في بعض المواقع الالكترونية. لذلك أرجو أن يتسع صدر الدكتور بهجت عباس وهو يقرأ مقالي هذا لأنه سوف يجد الكثير من الأخطاء التي سيشعر بكل تأكيد إن عليه إعادة النظر فيها، ليس تصحيحها فحسب، وإنما عليه أن يقوم بالبحث الجدي عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراءها لكي يتمكن من تلافي الوقوع فيها في ترجماته القادمة.
تقع القصيدة في 54 بيتا التزم المترجم بعددها في ترجمته وأشهد انه كان أمينا للنص في ذلك. إلا انه في ما عدا ذلك لم يكن على القدر نفسه من الأمانة، إن لم يكن عدمها، كما سنوضع في مقالنا هذا. لقد أحصينا في القصيدة المترجمة أخطاء تزيد على عدد الأبيات التي تناولناها، وسوف يجد القارئ أخطاء من أنواع وأشكال شتى: سيجد أخطاء تدل على افتقار المترجم إلى العديد من الأدوات الترجمية التي ينبغي على المترجم الجيد امتلاكها؛ سيجد أخطاء تظهر عدم قدرة المترجم على تمييز نوع وطبيعة لغة القصيدة؛ سيجد أخطاء تدل على أن المترجم يترجم الشعر من القاموس لا من القصيدة نفسها؛ وسيجد الكثير من الشواهد على عدم امتلاكه أية حساسية تجاه المفردة الشعرية من حيث تعدد دلالاتها وجرسها وإيحاءاتها وغير ذلك مما تكتنز به المفردة الشعرية عادة من شحنات على مستويات عدة. (لغرض تسهيل مهمة القارئ والتخفيف من عنائه، سأرقم الأبيات وفق تسلسلها في القصيدة بنصيها الأصلي والمترجم):
1-2 في البيتين الأول والثاني يستخدم المترجم الفعل quot;صنع قرارquot; وهو فعل دخل حديثا في الاستخدامات المتعلقة بالسياسة الدولية الحديثة (من عبارة decision makers quot;صناع القرارquot;)مما يثير إيحاءات بعيدة كل البعد عن جو القصيدة، ولا حاجة لاستخدامه لأن الفعل decree يعني بكل بساطة quot;قضىquot; أو quot;أمرquot;.
2-كلمة quot;مرحquot; ترجمة خاطئة لكلمة pleasure التي أراد الشاعر بها الإيحاء بالمتعة والأنس بالمعنى الحسي المادي لكي يقابلها في القسم الثاني من القصيدة بمعان وصور توحي بتطلع الشاعر ndash;شخصية الشاعر الذي يرتدي قناعها كولرج في القصيدةmdash;إلى خلق عوالم روحية متخيلة ترمز لها قبة من نوع آخر ذات جمال آخر يحلم الشاعر بخلقها quot;في الهواءquot; كما يقول في أواخر القصيدة ( البيت 46).
3-ترجم الفعل ran down to إلى quot;جرى أسفل إلىquot; وهي ترجمة حرفية لا معنى لها وتدل على إن المترجم، ككثير غيره، يترجم الشعر من القاموس لا من القصيدة نفسها.
4-ترجم كلمة through إلى quot;خلالquot; بمعناها الزماني لا المكاني الذي يتطلب ترجمتها إلى quot;عبرquot;، ولو كان ترجمها إلى quot;خللquot; مثلا لكان أهون. و ترجم measureless to man إلى quot;لا يستطيع إنسان تحديدهاquot; وكلمة quot;تحديدهاquot; غير محددة المعنى فقد تعني إن الإنسان لا يستطيع تحديد مكانها أو زمانها أو حجمها أو شكلها أو لونها...الخ، في حين إن العبارة تدل على العمق بمعنى إن الإنسان لا يستطيع أن quot;يسبر غورهاquot;.
5-quot;لهquot; في quot;لا شمس لهquot; توحي بعائدية الشمس إلى البحر والأولى ترجمتها إلى quot;فيهquot; أو quot;فوقهquot; وما شابه ذلك.
6-ترجم كلمة so إلى quot;لذاquot; وهي تعني في القصيدة quot;حواليquot; أو quot;نيفquot; أو quot;تقريباquot; لأن الشاعر استعملها مع عدد(So twice five mileshellip; )وهو، أي الشاعر، لا يقصد بالرقم معناه الحرفي طبعا ولكنه أراد به الإيحاء بطول المسافة. كذلك كلمة quot;سوّرquot; كمقابل لكلمة girdle وهي طبعا تعني quot;أحاط بحزامquot; وأراد الشاعر بها الإيحاء بهذا المعنى فاستخدمها كاستعارة.
7-انظر (10) في ما يأتي.
8-انظر (10) في ما يأتي كذلك.
9- حدد الشاعر نوع الأشجار بكلمة incense أي بخور لكي يوحي بأجواء الشرق البعيدة الخيالية الساحرة، فحولها المترجم بكل بساطة إلى quot;أشجار عطر ذاكيةquot;.
10-كلمة quot;جداquot; غير موجودة في البيت وما قصده الشاعر هو quot;قديمة قدم التلالquot; أي صيغة المقارنة في التشبيه، إلا إن المترجم لم يدرك تلك الصيغة في البيت. كذلك لم يظهر المترجم ما يدل على إدراكه إن استعمال الشاعر كلمة quot;هنا quot; في هذا البيت هو إرداف لاستعماله كلمة quot;هناكquot; في البيت رقم (7) في أعلاه لكي يوحي بذلك انه يريد القول quot;هنا وهناكquot; أي في كل مكان أو على مساحة واسعة من المكان الموصوف.
11-لا داعي لذكر كلمة quot;نباتquot; في الترجمة لأنها غير موجودة في الأصل ولا حاجة لمزيد من الإيحاءات التي تزيد من تشويه المعاني. الشاعر قصد ببساطة: بقعا مشمسة خضراء.
12-quot;ولكن آهquot;: ألا توجد كلمة أو عبارة في اللغة العربية تدل على التعجب أو الدهشة لتقابل oh! غير quot;آهquot; التي تعبر عن الألم أو التوجع...؟ كان على المترجم ترجمتها بــquot;عجباquot; أو ما شابه.
13-ومع تصاعد الوصف نحو الذروة في القسم الأول من القصيدة تتصاعد أغلاط المترجم وكأنه بذلك يستجيب لما تتطلبه القصيدة من شحنات انفعال ولكن بالاتجاه المعاكس! لا أدري من أين أتى المترجم بكلمة quot;غابةquot; مقابل كلمة cover التي أراد بها الشاعر في الصورة أن تلك الفجوة أو الهوة غارت أو غاصت في انحدارها نحو أسفل أشجار الأرز حتى لكأن تلك الأشجار أصبحت بمثابة مخبأ لها.
14-عبارة quot;موحش قاسquot; لا تؤدي، بل تشوه، ما أراد الشاعر لكلمة savage من معان وإيحاءات، إذ لا يخفى على دارس الحركة الرومانسية الانكليزية والأوربية ما للطبيعة البكر، بما توحيه من بدائية وهمجية ووحشية (لا وحشة، كما توحي الترجمة)، من أهمية في الفكر الرومانسي، ولا يخفى أيضا ما لمفهوم الهمجي النبيل noble savage الذي ارتبط بفكر جان جاك روسو من تأثير على الشعراء الرومانسيين الانكليز وغيرهم ومنهم كولرج.
إن عبارة quot;آخذ في المحاقquot; التي تصف القمر ركيكة وغير شعرية رغم أنها أحدى معاني كلمة waning. إلا أن الشاعر أراد بها شحوب ورمادية القمر الآخذ في الأفول، من أجل أن يوحي بجو مسكون بالأشباح وهي الصورة التي يرسمها الشاعر في البيت الذي يلي هذا البيت.
15-يترجم العبارة as holy and enchanted/As e'er beneath a waning moon was haunted إلى quot;كمقدس/وجذاب دوما، تنتابه امرأة نادبة حبيبها الشرير!quot; وهي ترجمة تنم عن جهل باللغتين معا. فقد أضاف الكاف إلى quot;مقدسquot; وهي صفة، واستعمل quot;جذابquot;، وهي اسم فاعل، للدلالة على شيء وقع عليه الفعل، وهو فعل السحر هنا كما تدل عليه كلمة enchanted في صيغة المبني للمجهول الواضحة في البيت التالي بقرينة by. واستعمل quot;دوماquot; محل quot;أبداquot; مقابل ever بمعناها المستخدم في صيغ النفي (كقولك: لم أره أبدا)، واستعمل quot;تنتابهquot; للدلالة على quot;تسكنهquot; (أي الأشباح كما أراد الشاعر لصورته أن توحي) ثم استعملquot;شريرquot; لوصف الحبيب في حين إن كلمة daemon، حتى وان أخبرتنا القواميس والميثولوجيات وموروثاتنا الثقافية وغيرها بأنها تدل بشكل أو بآخر على كائن شرير، فان الشاعر لم يرد هذا المعنى إطلاقا بل أراد الإيحاء بأن هذا الحبيب هو كائن ينتمي إلى عالم الجن والعفاريت، عالم الخيال الساحر، وهو عنصر حيوي ومهم من عناصر جو القصيدة.
16-كلمة quot;مستمرةquot; في لغة الشعر تختلف بكل تأكيد عن quot;متواصلةquot; أو quot;غير منقطعةquot; وإلا لكان الشاعر استعمل continuous ولم يستعمل ceaseless مثلا.
17-ثم يترجم pants ترجمة تؤكد جهله تأكيدا لا يقبل الشك. إن ترجمة هذه الكلمة إلى quot;سراويلquot; غلط مفجع حقا! وهو يدل دلالة واضحة على إن مترجمنا لا يترجم من القواميس فقط (وهو حتى في هذا لم يوفق) وإنما يترجم قصيدة كتبت قبل مائتي عام بلغة الشارع الأميركي الحالي الذي يحول، باستعماله اللغة استعمالا عاميا يوميا، كلمات مثل pantie, panty, pantalets, pantaloon (سروال، بنطلون، سروال تحتي..الخ) إلى pants. فظن إن الأرض quot;تتنفس في سروال سميك محكمquot;! أية سراويل هذه؟ أهي أنابيب التصريف الصحي لمدينة نيويورك؟
البيت طبعا يصف الشاعر فيه حالة الأرض المتخيلة عند انبثاق أو تفجر ينبوع هائل من تلك الهوة أومن باطن الأرض وكأن الأرض حبلى في حالة طلق وولادة فهي تتنفس بنفثات لهاث متسارعة ومتحشرجة وهذا هو معنى كلمة pants. إلا إن مترجمنا الذي يبحث عن القصيدة في القاموس لم يستطع أن يجد معنى لكلمة thick يتناسب مع كلمة pants فاستسهل الترجمة بهذا الشكل الذي نتج عنه استغفال وخداع للقارئ واستخفاف بقدراته العقلية والذوقية.
18-ما معنى quot;نصبت بقسرquot;؟ إن كانت النافورة quot;نصبتquot; فكيف quot;بغتةquot;؟ ألم يتطلب نصبها وقتا؟ ما يقصده الشاعر في هذا البيت هو إن ينبوعا جبارا تفجر فجأة وكأنه انبجس عن الأرض وهي في حالة الطلق تلك.
ليس خافيا على أحد إن الترجمة الأدبية فن صعب وإنها علم لا يؤتى لطالبه بسهولة ويسر ولا يناله كل من هب ودب، وان كل مراكبها صعب إلا إن أصعبها مركب الشعر. فترجمة الشعر عملية يكتنفها الكثير من الخلق والإبداع شأنها شأن الإبداع الشعري ذاته. لذلك فكلما ازداد نفاذ المترجم إلى أعماق النص لفك مغاليقه، كلما اتسعت مساحات الإبداع أمامه وكبر هامشه بين يديه وكلما تضاءل بالتالي خوفه، ولا أقول تخوفه أو تهيبه، من النص الشعري.
لا يكفي لمن يتصدى لترجمة الشعر امتلاك بعض المؤهلات الأكاديمية كالشهادة العليا أو التمتع ببعض الامتيازات الحياتية كالعيش في بلد أجنبي، ذلك لأن الترجمة بوصفها فنا وعلما في آن واحد تتطلب مهارات وقدرات إضافية أخرى يعرفها من خاض غمارها وركب مركبها الصعب، فمنها ما يتعلق بالجانب العلمي، وهو جانب ينبغي أن يكون التحصيل العلمي فيه قد وفر للمترجم فرصة امتلاك ناصية اللغة، بل اللغتين معا، إلا انه وحده لا يمكن أن يكون بديلا عن الجانب الفني والذوقي، أو ما اصطلح عليه بالموهبة، أي تلك القدرات والملكات التي ينبغي أن يتوافر عليها المترجم لكي يستطيع بوساطتها توظيف علمه وخبرته ومؤهلاته توظيفا يصب في النهاية في صالح عملية الترجمة لكي تكون بذلك عملا إبداعيا يطمح إلى مضاهاة الأصل.
إن عدم الإحاطة التامة والمعرفة الكاملة بالنص الشعري من حيث طبيعة لغته ومعانيه السياقية المستنبطة من النص نفسه، لا من القواميس، ومن حيث دلالات صوره ورموزه وتناصاته وإحالاته الثقافية المختلفة، ومن حيث بناه النحوية السطحية والعميقة، وأخيرا وليس آخرا من حيث نظامه الصوتي الوزني والإيقاعي والتقفوي وغير ذلكmdash;كل هذه سوف تؤدي بالتأكيد إلى ترجمة النص الشعري ترجمة حـَرْفية لا روح فيها يكون المترجم قد انتزع من خلالها الحياة من القصيدة الأصل ليعطينا جثة هامدة باللغة الأخرى.
ثمة أسباب عديدة تكمن وراء ذلك، منها ما هو ناتج عن بعض الأفكار الخاطئة عن ماهية الترجمة الأدبية وطبيعتها. من هذه الأفكار مثلا الاعتقاد السائد بأن الترجمة الجيدة الممكنة الوحيدة هي ترجمة الأفكار، أو المضامين، وليس الكلمات. قد يصح هذا الاعتقاد في ترجمة النصوص التي هي أقرب للعلمية منها إلى الأدبية، نصوص ليس للأسلوب والصياغة اللغوية دور مهم فيها، نصوص يهتم كتابها بإيصال الأفكار أكثر من اهتمامهم بطريقة إيصالها. أما في ترجمة الشعر، فالأمر بكل تأكيد مختلف تماما.
إن القصيدة، أية قصيدة، تخلق واقعا مختلفا عن الواقع الحقيقي حتى لو كانت صادقة كل الصدق في محاكاة هذا الواقع. وإلا لما كان الشعر خلقا وإبداعا. القصيدة تخلق واقعا ينبغي على المترجم أن يتعامل معه وفق قوانينه هو، وليس وفق قوانين تفرض عليه من خارجه حتى لو كانت تلك القوانين صارمة صرامة قواعد اللغة ونحوها وإلا لما خرج شعراء كبار مثل شكسبير على قواعد اللغة أحيانا وبالأخص عندما تقف اللغة في بعض جوانبها عاجزة عن تلبية حاجاته الإبداعية، وهذا الخروج هو في حقيقة الأمر ليس إلا خروجا مجازيا لا يتم إلا من داخل هذه اللغة ووفقا لقوانينها لا كما يراه بعض النحاة المتزمتين مثلا على انه خروج على لغة الأسلاف، والشواهد كثيرة في أدبنا العربي كما في آداب الأمم الأخرى. إن الشعراء الكبار من أمثال المتنبي وشكسبير هم الذين أثروا لغاتهم ونفخوا فيه الحياة على مر العصور من خلال قدرتهم على الخلق والإبداع في لغة شعرهم. ومثلما يؤدي الشعراء الكبار هذا الدور في لغاتهم الأم كذلك ينبغي أن يكون في حسبان المترجم انه يلعب الدور ذاته فيما يخص لغته التي يترجم إليها، دورا لا يقل أهمية عن سابقه في الخلق والابداع. من هنا فان مسؤولية المترجم كبيرة وخطيرة، يضاف إليها انك تستطيع التعبير عن أفكارك على قدر كبير من الترابط المنطقي والوضوح، أما التعبير عن أفكار غيرك بالقدر نفسه من الترابط والوضوح فليس بالأمر الهين على الإطلاق.
يتعامل بعض المترجمين مع النص الشعري بحـَرْفية مبالغ فيها تصل حد التقديس حتى لكأن النص متحجرة من متحجرات ما قبل التاريخ وليس عملا إبداعيا ينبض بالحياة ويقبل أن يتنفس حياة جديدة إذا ما نفخت فيه بلغة جديدة؛ وهناك من المترجمين من يستسهل الترجمة الأدبية حتى كأنها تصريف عملة؛ وهناك منهم من لا يستطيعون سبر أغوار النص فتراهم يحومون حوله ويطوفون طوافهم حول المحراب فلا يستطيعون كسر قشرته والنفاذ إلى داخله فيترجمون قشرته فتأتي ترجمتهم ركيكة في لغتها وصياغاتها وأسلوبها وبعيدة كل البعد عن روح النص الأصلي. وهم يفعلون ذلك بحجة الأمانة للنص. إن الأمانة للنص وهم لا يصدقه إلا العاجزون عن فهم الشعر ولغة الشعر والعاجزون بالنتيجة عن ترجمته كما ينبغي أن يترجم. ومن يظن انه يكون أمينا للنص بنقله كلمات القصيدة نقلا مطابقا لمعانيها المعجمية هو في الحقيقة ليس أمينا إلا لقشرة النص.
إن تقديس النص علة من علل الترجمة الرديئة لأنه ببساطة ليس تقديسا حقيقيا نابعا من احترام حقيقي للنص الشعري ومن شعور بالرهبة المشروعة تجاهه، وهو أيضا لا ينبع من الحرص على النقل بأكبر قدر من الموضوعية والأمانة، بل هو في حقيقة الأمر خوف من النص. وماذا تعني الأمانة حقا؟ أتعني فقط انك تكون أمينا للمضمون فحسب؟ ألا ينبغي لمن يدعي ترجمة الشعر ترجمة quot;أمينةquot; أن لا يكتفي بنقل المعنى المعجمي الحرفي فحسب بل عليه أيضا أن ينقل الوزن والإيقاع والقافية والنبرة واللهجة والأسلوب وحتى جرس الكلمات؟ الأمانة الحقة تعني أن عليك أن تنقل كل شيء في النص بدء بالمعنى ومرورا بكل ما يختزنه النص من صور وإشارات ورموز وتناصات وانتهاء بالوزن والإيقاع وحتى القافية. إلا إن المترجم الذي يعاني من علة تقديس النص هو في واقع الحال لا يقدس إلا المعاني المعجمية فقط فتراه يقطـّع جسد القصيدة إلى أوصال يجدها في القاموس وكثيرا ما يقع، نتيجة لذلك، في فخ المفردات أو العبارات أو الجمل التي تلبس النص المترجم لباسا ليس على مقاسه وذلك لأنه يبحث عن القصيدة في القاموس وليس في النص الشعري.
لغرض توضيح ما ذهبت إليه سأتناول بالنقد والتحليل أحدى ترجمات الدكتور بهجت عباس لقصيدة تعد من عيون الشعر الانكليزي الرومانسي، وهي قصيدة الشاعر صموئيل تيلور كولرج بعنوان quot;قبلاي خانquot; (قبلاي خان.. للشاعر الإنكليزي ساموئيل تايلور كُولَـرِيج (1772-1834).. ترجمة ) وبعنوان ثانوي مهم جدا بشقيه هو quot;رؤيا في حلم: مقطوعة.quot; نشرت القصيدة عام 1816 وكان الشاعر قد كتبها عام 1797 في ظروف quot;رومانسيةquot; شيقة وبالغة الأهمية والدلالة لا مجال لذكرها هنا.
لقد وقع اختياري على المترجم الدكتور بهجت عباس لأسباب عديدة تطرقت إلى بعضها آنفا. ولن أخفي على القارئ إن أحد أسباب اختياري إياه هو انه تناول إحدى ترجماتي الشعرية بالنقد وبشيء من التجريح(انظر مقاله المنشور في موقع إيلاف: )مقارنة بين ترجمتين ) الذي ربما يكون قد أزعجني قليلا، إلا إنني في الواقع ممتن له شديد الامتنان لأنه نبهني إلى أغلاط في ترجمتي فتداركتها بالتصحيح وقمت بنشر النسخة المنقحة في بعض المواقع الالكترونية. لذلك أرجو أن يتسع صدر الدكتور بهجت عباس وهو يقرأ مقالي هذا لأنه سوف يجد الكثير من الأخطاء التي سيشعر بكل تأكيد إن عليه إعادة النظر فيها، ليس تصحيحها فحسب، وإنما عليه أن يقوم بالبحث الجدي عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراءها لكي يتمكن من تلافي الوقوع فيها في ترجماته القادمة.
تقع القصيدة في 54 بيتا التزم المترجم بعددها في ترجمته وأشهد انه كان أمينا للنص في ذلك. إلا انه في ما عدا ذلك لم يكن على القدر نفسه من الأمانة، إن لم يكن عدمها، كما سنوضع في مقالنا هذا. لقد أحصينا في القصيدة المترجمة أخطاء تزيد على عدد الأبيات التي تناولناها، وسوف يجد القارئ أخطاء من أنواع وأشكال شتى: سيجد أخطاء تدل على افتقار المترجم إلى العديد من الأدوات الترجمية التي ينبغي على المترجم الجيد امتلاكها؛ سيجد أخطاء تظهر عدم قدرة المترجم على تمييز نوع وطبيعة لغة القصيدة؛ سيجد أخطاء تدل على أن المترجم يترجم الشعر من القاموس لا من القصيدة نفسها؛ وسيجد الكثير من الشواهد على عدم امتلاكه أية حساسية تجاه المفردة الشعرية من حيث تعدد دلالاتها وجرسها وإيحاءاتها وغير ذلك مما تكتنز به المفردة الشعرية عادة من شحنات على مستويات عدة. (لغرض تسهيل مهمة القارئ والتخفيف من عنائه، سأرقم الأبيات وفق تسلسلها في القصيدة بنصيها الأصلي والمترجم):
1-2 في البيتين الأول والثاني يستخدم المترجم الفعل quot;صنع قرارquot; وهو فعل دخل حديثا في الاستخدامات المتعلقة بالسياسة الدولية الحديثة (من عبارة decision makers quot;صناع القرارquot;)مما يثير إيحاءات بعيدة كل البعد عن جو القصيدة، ولا حاجة لاستخدامه لأن الفعل decree يعني بكل بساطة quot;قضىquot; أو quot;أمرquot;.
2-كلمة quot;مرحquot; ترجمة خاطئة لكلمة pleasure التي أراد الشاعر بها الإيحاء بالمتعة والأنس بالمعنى الحسي المادي لكي يقابلها في القسم الثاني من القصيدة بمعان وصور توحي بتطلع الشاعر ndash;شخصية الشاعر الذي يرتدي قناعها كولرج في القصيدةmdash;إلى خلق عوالم روحية متخيلة ترمز لها قبة من نوع آخر ذات جمال آخر يحلم الشاعر بخلقها quot;في الهواءquot; كما يقول في أواخر القصيدة ( البيت 46).
3-ترجم الفعل ran down to إلى quot;جرى أسفل إلىquot; وهي ترجمة حرفية لا معنى لها وتدل على إن المترجم، ككثير غيره، يترجم الشعر من القاموس لا من القصيدة نفسها.
4-ترجم كلمة through إلى quot;خلالquot; بمعناها الزماني لا المكاني الذي يتطلب ترجمتها إلى quot;عبرquot;، ولو كان ترجمها إلى quot;خللquot; مثلا لكان أهون. و ترجم measureless to man إلى quot;لا يستطيع إنسان تحديدهاquot; وكلمة quot;تحديدهاquot; غير محددة المعنى فقد تعني إن الإنسان لا يستطيع تحديد مكانها أو زمانها أو حجمها أو شكلها أو لونها...الخ، في حين إن العبارة تدل على العمق بمعنى إن الإنسان لا يستطيع أن quot;يسبر غورهاquot;.
5-quot;لهquot; في quot;لا شمس لهquot; توحي بعائدية الشمس إلى البحر والأولى ترجمتها إلى quot;فيهquot; أو quot;فوقهquot; وما شابه ذلك.
6-ترجم كلمة so إلى quot;لذاquot; وهي تعني في القصيدة quot;حواليquot; أو quot;نيفquot; أو quot;تقريباquot; لأن الشاعر استعملها مع عدد(So twice five mileshellip; )وهو، أي الشاعر، لا يقصد بالرقم معناه الحرفي طبعا ولكنه أراد به الإيحاء بطول المسافة. كذلك كلمة quot;سوّرquot; كمقابل لكلمة girdle وهي طبعا تعني quot;أحاط بحزامquot; وأراد الشاعر بها الإيحاء بهذا المعنى فاستخدمها كاستعارة.
7-انظر (10) في ما يأتي.
8-انظر (10) في ما يأتي كذلك.
9- حدد الشاعر نوع الأشجار بكلمة incense أي بخور لكي يوحي بأجواء الشرق البعيدة الخيالية الساحرة، فحولها المترجم بكل بساطة إلى quot;أشجار عطر ذاكيةquot;.
10-كلمة quot;جداquot; غير موجودة في البيت وما قصده الشاعر هو quot;قديمة قدم التلالquot; أي صيغة المقارنة في التشبيه، إلا إن المترجم لم يدرك تلك الصيغة في البيت. كذلك لم يظهر المترجم ما يدل على إدراكه إن استعمال الشاعر كلمة quot;هنا quot; في هذا البيت هو إرداف لاستعماله كلمة quot;هناكquot; في البيت رقم (7) في أعلاه لكي يوحي بذلك انه يريد القول quot;هنا وهناكquot; أي في كل مكان أو على مساحة واسعة من المكان الموصوف.
11-لا داعي لذكر كلمة quot;نباتquot; في الترجمة لأنها غير موجودة في الأصل ولا حاجة لمزيد من الإيحاءات التي تزيد من تشويه المعاني. الشاعر قصد ببساطة: بقعا مشمسة خضراء.
12-quot;ولكن آهquot;: ألا توجد كلمة أو عبارة في اللغة العربية تدل على التعجب أو الدهشة لتقابل oh! غير quot;آهquot; التي تعبر عن الألم أو التوجع...؟ كان على المترجم ترجمتها بــquot;عجباquot; أو ما شابه.
13-ومع تصاعد الوصف نحو الذروة في القسم الأول من القصيدة تتصاعد أغلاط المترجم وكأنه بذلك يستجيب لما تتطلبه القصيدة من شحنات انفعال ولكن بالاتجاه المعاكس! لا أدري من أين أتى المترجم بكلمة quot;غابةquot; مقابل كلمة cover التي أراد بها الشاعر في الصورة أن تلك الفجوة أو الهوة غارت أو غاصت في انحدارها نحو أسفل أشجار الأرز حتى لكأن تلك الأشجار أصبحت بمثابة مخبأ لها.
14-عبارة quot;موحش قاسquot; لا تؤدي، بل تشوه، ما أراد الشاعر لكلمة savage من معان وإيحاءات، إذ لا يخفى على دارس الحركة الرومانسية الانكليزية والأوربية ما للطبيعة البكر، بما توحيه من بدائية وهمجية ووحشية (لا وحشة، كما توحي الترجمة)، من أهمية في الفكر الرومانسي، ولا يخفى أيضا ما لمفهوم الهمجي النبيل noble savage الذي ارتبط بفكر جان جاك روسو من تأثير على الشعراء الرومانسيين الانكليز وغيرهم ومنهم كولرج.
إن عبارة quot;آخذ في المحاقquot; التي تصف القمر ركيكة وغير شعرية رغم أنها أحدى معاني كلمة waning. إلا أن الشاعر أراد بها شحوب ورمادية القمر الآخذ في الأفول، من أجل أن يوحي بجو مسكون بالأشباح وهي الصورة التي يرسمها الشاعر في البيت الذي يلي هذا البيت.
15-يترجم العبارة as holy and enchanted/As e'er beneath a waning moon was haunted إلى quot;كمقدس/وجذاب دوما، تنتابه امرأة نادبة حبيبها الشرير!quot; وهي ترجمة تنم عن جهل باللغتين معا. فقد أضاف الكاف إلى quot;مقدسquot; وهي صفة، واستعمل quot;جذابquot;، وهي اسم فاعل، للدلالة على شيء وقع عليه الفعل، وهو فعل السحر هنا كما تدل عليه كلمة enchanted في صيغة المبني للمجهول الواضحة في البيت التالي بقرينة by. واستعمل quot;دوماquot; محل quot;أبداquot; مقابل ever بمعناها المستخدم في صيغ النفي (كقولك: لم أره أبدا)، واستعمل quot;تنتابهquot; للدلالة على quot;تسكنهquot; (أي الأشباح كما أراد الشاعر لصورته أن توحي) ثم استعملquot;شريرquot; لوصف الحبيب في حين إن كلمة daemon، حتى وان أخبرتنا القواميس والميثولوجيات وموروثاتنا الثقافية وغيرها بأنها تدل بشكل أو بآخر على كائن شرير، فان الشاعر لم يرد هذا المعنى إطلاقا بل أراد الإيحاء بأن هذا الحبيب هو كائن ينتمي إلى عالم الجن والعفاريت، عالم الخيال الساحر، وهو عنصر حيوي ومهم من عناصر جو القصيدة.
16-كلمة quot;مستمرةquot; في لغة الشعر تختلف بكل تأكيد عن quot;متواصلةquot; أو quot;غير منقطعةquot; وإلا لكان الشاعر استعمل continuous ولم يستعمل ceaseless مثلا.
17-ثم يترجم pants ترجمة تؤكد جهله تأكيدا لا يقبل الشك. إن ترجمة هذه الكلمة إلى quot;سراويلquot; غلط مفجع حقا! وهو يدل دلالة واضحة على إن مترجمنا لا يترجم من القواميس فقط (وهو حتى في هذا لم يوفق) وإنما يترجم قصيدة كتبت قبل مائتي عام بلغة الشارع الأميركي الحالي الذي يحول، باستعماله اللغة استعمالا عاميا يوميا، كلمات مثل pantie, panty, pantalets, pantaloon (سروال، بنطلون، سروال تحتي..الخ) إلى pants. فظن إن الأرض quot;تتنفس في سروال سميك محكمquot;! أية سراويل هذه؟ أهي أنابيب التصريف الصحي لمدينة نيويورك؟
البيت طبعا يصف الشاعر فيه حالة الأرض المتخيلة عند انبثاق أو تفجر ينبوع هائل من تلك الهوة أومن باطن الأرض وكأن الأرض حبلى في حالة طلق وولادة فهي تتنفس بنفثات لهاث متسارعة ومتحشرجة وهذا هو معنى كلمة pants. إلا إن مترجمنا الذي يبحث عن القصيدة في القاموس لم يستطع أن يجد معنى لكلمة thick يتناسب مع كلمة pants فاستسهل الترجمة بهذا الشكل الذي نتج عنه استغفال وخداع للقارئ واستخفاف بقدراته العقلية والذوقية.
18-ما معنى quot;نصبت بقسرquot;؟ إن كانت النافورة quot;نصبتquot; فكيف quot;بغتةquot;؟ ألم يتطلب نصبها وقتا؟ ما يقصده الشاعر في هذا البيت هو إن ينبوعا جبارا تفجر فجأة وكأنه انبجس عن الأرض وهي في حالة الطلق تلك.
22-ما معنى quot;فورا ودوماquot; انه ببساطة ترجم كلمات العبارة at once and ever كلا على حدة دون أن يفهم الصلة فيما بينها، وهو غالبا ما يبحث في القاموس عن معاني الكلمات كلمة كلمة على طريقة المترجم الآلي!
23-ما الذي قذف النهرَ فجأة؟ أي ما فاعل الفعل quot;قذفquot;؟
25-لم يفهم المترجم إن ثمة صيغا في اللغة الانكليزية( كما في العربية) تدل على الجمع وهي في حالة المفرد فترجم البيت ترجمة ركيكة لا تدل على مضمونه. كما انه يصر على استعمال quot;خلالquot; الزمانية للدلالة على through المكانية كما هو واضح في السياق.
26-كان المترجم قد ترجم عبارة measureless to man في البيت 4 آنفا بعبارة quot;لا يستطيع إنسان تحديدهاquot; وقد أشرنا إلى غلط الترجمة. والآن يترجمها بعبارة quot;لا يعرف إنسان مداهاquot;، مرتكبا الغلط نفسه طبعا، ناسيا شعار الأمانة للنص الذي يرفعه دائما.
27-انظر ملاحظتنا حول البيت 5 في أعلاه ولاحظ تكرار الأغلاط ذاتها مما يدل على جهل المترجم بأدواته اللغوية.
28-ويتكرر الغلط نفسه في الخلط بين ظروف الزمان والمكان. لا أدري ما معنى quot;بين الفوضىquot;؟ هنا.
29-ترجم كلمة ancestral بعبارة quot;غارقة في القدمquot;، في حين إن الكلمة تدل بكل وضوح عن الأسلاف أو الأجداد وما يتعلق بهمmdash;وهي دلالة مهمة في سياقها بالقصيدة. أقول للمترجم هنا إن القاموس، على الرغم مما كل ما قلته أنا عن مترجمي القواميس، يبقى أداة مهمة من أدوات المترجم، ولكن بشرط استخدامه استخداما صحيحا ومثمرا وبشي من الخيال الإبداعي. وقبلها في البيت استعمل المترجم كلمة quot;خيالquot; للدلالة على الظل، فسلب خيال الظل دلالتيه!
30-مرة أخرى لا أفهم عبارة quot;منتصف الأمواجquot; لأنني لا أستطيع أن أرى من الأمواج منتصفها حتى وان كان لها منتصف!
31-إني أتساءل ما الذي يمكن أن يختلط من النافورة ومن الكهوف؟ مع ذلك لنسلم بأن اختلاطهما ممكن، ولكن ما الذي يمكن أن quot;نسمعهquot; من هذا الاختلاط؟ عجبا! يبدو أن المترجم مثلما لم يفهم معاني كلمة measureless كما أوضحنا فيما سبق، كذلك لم يفهم أن من معاني كلمة measure هو اللحن الموسيقي، وهو معنى يمكن أن يجده في أي قاموس بقليل من الجهد!
سأكتفي بهذا القدر وأختتم مناقشتي بالإشارة إلى غلط أخير وليس آخرا يقع في البيت ما قبل الأخير من القصيدة:
53- ترجم كلمة honey-dew بعبارة quot;ندى رائق عذبquot; وفاته أن كلمة quot;منّ quot;، التي هي معناها الصحيح، كلمة بالغة الأهمية في القصيدة لما لها من إيحاءات دينية فضلا عن ورودها مباشرة قبل البيت quot;وشرب حليب الفردوسquot; الذي تختتم به القصيدة.
رحم الله الجاحظ الذي كان يقول إن الشعر quot;لا يستطاع أن يترجم ولا يجوز عليه النقلquot; وكأنه كان يعلم أن سينبري في قابل الأيام من المترجمين من إذا تصدى للشعر فانهmdash;وسأستعير هنا عبارات الجاحظ في السياق ذاتهmdash;سوف يقطـّع نظمه، ويُبطل وزنه، ويذهب بحسنه، ويُسقط موضع التعجب فيه.
23-ما الذي قذف النهرَ فجأة؟ أي ما فاعل الفعل quot;قذفquot;؟
25-لم يفهم المترجم إن ثمة صيغا في اللغة الانكليزية( كما في العربية) تدل على الجمع وهي في حالة المفرد فترجم البيت ترجمة ركيكة لا تدل على مضمونه. كما انه يصر على استعمال quot;خلالquot; الزمانية للدلالة على through المكانية كما هو واضح في السياق.
26-كان المترجم قد ترجم عبارة measureless to man في البيت 4 آنفا بعبارة quot;لا يستطيع إنسان تحديدهاquot; وقد أشرنا إلى غلط الترجمة. والآن يترجمها بعبارة quot;لا يعرف إنسان مداهاquot;، مرتكبا الغلط نفسه طبعا، ناسيا شعار الأمانة للنص الذي يرفعه دائما.
27-انظر ملاحظتنا حول البيت 5 في أعلاه ولاحظ تكرار الأغلاط ذاتها مما يدل على جهل المترجم بأدواته اللغوية.
28-ويتكرر الغلط نفسه في الخلط بين ظروف الزمان والمكان. لا أدري ما معنى quot;بين الفوضىquot;؟ هنا.
29-ترجم كلمة ancestral بعبارة quot;غارقة في القدمquot;، في حين إن الكلمة تدل بكل وضوح عن الأسلاف أو الأجداد وما يتعلق بهمmdash;وهي دلالة مهمة في سياقها بالقصيدة. أقول للمترجم هنا إن القاموس، على الرغم مما كل ما قلته أنا عن مترجمي القواميس، يبقى أداة مهمة من أدوات المترجم، ولكن بشرط استخدامه استخداما صحيحا ومثمرا وبشي من الخيال الإبداعي. وقبلها في البيت استعمل المترجم كلمة quot;خيالquot; للدلالة على الظل، فسلب خيال الظل دلالتيه!
30-مرة أخرى لا أفهم عبارة quot;منتصف الأمواجquot; لأنني لا أستطيع أن أرى من الأمواج منتصفها حتى وان كان لها منتصف!
31-إني أتساءل ما الذي يمكن أن يختلط من النافورة ومن الكهوف؟ مع ذلك لنسلم بأن اختلاطهما ممكن، ولكن ما الذي يمكن أن quot;نسمعهquot; من هذا الاختلاط؟ عجبا! يبدو أن المترجم مثلما لم يفهم معاني كلمة measureless كما أوضحنا فيما سبق، كذلك لم يفهم أن من معاني كلمة measure هو اللحن الموسيقي، وهو معنى يمكن أن يجده في أي قاموس بقليل من الجهد!
سأكتفي بهذا القدر وأختتم مناقشتي بالإشارة إلى غلط أخير وليس آخرا يقع في البيت ما قبل الأخير من القصيدة:
53- ترجم كلمة honey-dew بعبارة quot;ندى رائق عذبquot; وفاته أن كلمة quot;منّ quot;، التي هي معناها الصحيح، كلمة بالغة الأهمية في القصيدة لما لها من إيحاءات دينية فضلا عن ورودها مباشرة قبل البيت quot;وشرب حليب الفردوسquot; الذي تختتم به القصيدة.
رحم الله الجاحظ الذي كان يقول إن الشعر quot;لا يستطاع أن يترجم ولا يجوز عليه النقلquot; وكأنه كان يعلم أن سينبري في قابل الأيام من المترجمين من إذا تصدى للشعر فانهmdash;وسأستعير هنا عبارات الجاحظ في السياق ذاتهmdash;سوف يقطـّع نظمه، ويُبطل وزنه، ويذهب بحسنه، ويُسقط موضع التعجب فيه.
التعليقات