باسم الأنصار: منذ القدم، قيل الكثير عن الرؤيا، وقيل الكثير أيضاً عن المجهول. ومنذ القدم أيضاً ارتبط كلاً من مفهومي الرؤيا والمجهول بالشعر. ولكن الغريب، هو انّ الكثير من الشعراء ربط هذين المفهومين بتصورات الشاعر الفرنسي (رامبو) حولهما، وكأن هذا الشاعر هو الأوحد من تحدث عنهما من الشعراء والرائيين على مرّ التأريخ. ناسين بأن (النفّري)، ومنذ زمن بعيد يسبق زمن (رامبو)، طرح عبارته الشهيرة (كلما اتسعت الرؤيا، ضاقت العبارة)، وناسين أيضاً بأن الشعراء منذ القدم كانوا يلهثون خلف المجهول، عسى أن يفتح لهم أبوابه التي تحجز الاشارات والعلامات الشعرية الأولى عنهم!
***
رآى (رامبو) في رسالتيه (الرائي)، انّ الشاعر الرائي، هو من يخلق خللاً مدروساً للحواس، ولكنه لم يحدّثنا كثيراً بشكلٍ طويلٍ ومفصل عن المناخات المطلوبة لخلق هذا الخلل المدروس، أو لنقل بأنه لم يحدثنا سوى بشكلٍ محدود عن الكيفية التي يستفز بها الشاعر ينابيع الرؤيا الكامنة في أعماقه.
فكل ما وصلنا من (رامبو) في هذا المجال، هو انّ على الشاعر انْ يلتحم بالحياة إلتحاماً تاماً، من خلال خرق الأخلاق والمحرمات. وقد قام هذا الشاعر فعلياً، بتجسيد هذا الخرق من خلال أشكال عدة، منها (تعاطي الحشيشة والمخدرات، الشذوذ الجنسي، العبث، الصعلكة، الجري خلف المجهول، والاطلاع على التراث الشعري والمعرفي طبعاً). اعتقاداً منه، بأن هذه الأشكال ستؤدي بالشاعر الى القبض على الحرية الحرة، ومن ثم على الرؤيا التي كثيراً ما نادى بها في الوسط الثقافي الفرنسي حينذاك.
وبعيداً عن تقييمنا لهذه المناخات التعبيرية، وبعيداً عن اتفاقنا أو اختلافنا مع بعضها، فأننا يجب انْ نحترم مسعى هذا الشاعر الفرنسي ومناخاته التي طرحها لنا في بداياته الشعرية، مهما كانت طبيعتها. ولكننا نود هنا انْ نضيف لهذه المناخات، مناخات أخرى تعين الشاعر (أو تعيننا نحن على الأقل) على امساك الرؤيا الشعرية، من خلال مواجهة المجهول. وهي كما نرى مناخات تكمّل ولا تناقض المناخات التي عبّر عنها (رامبو). لذا يمكننا ان نحدد هذه المناخات هنا بالآتي:
1. التأمل بمفهومه البوذي (وسأعود لاحقاً لشرح هذا التأمل).
2. التوحد تماماً مع أرقى أنواع الموسيقى المستفزة للذهن وللوجدان معاً. والجميع يعلم مدى أهمية الموسيقى للانسان، بل وحتى للانسان المريض نفسياً.
3. تأمل الغابات والبحار والصحراء والجبال، وكل مظاهر الطبيعة الثرية.
4. الانغماس في مظاهر اللذة الحسية المتعارف عليها، ولكن بحذر شديد، وذلك لأن الكثير من هذه المظاهر اللّذوية، غالباً ما تسحق الشاعر إن أفرط في استخدامها، وهو السبب الذي جعل (رامبو) كما نرى يهجر الكثير منها بسرعة، بعد ادراكه لمخاطرها الحقيقية على مشروعه الشعري.
5. المثابرة في الاطلاع على المنجز الشعري والمعرفي، وممارسة الكتابة بلهفة تشبه لهفة الانسان البدائي خلف اكتشاف نفسه والطبيعة والحياة والعالم، وبسعي محموم يشبه سعي من يريد خلق النار من حكّ الأحجار بكفّيه. (وهذه النقطة من البديهيات طبعاً).
فهذه المناخات برأينا هي من المناخات المهمة التي تستفز ينابيع الرؤيا الشعرية، ومن السبل المهمة التي تعين الشاعر على المزج بين حرارة الفطرة وطراوة المعرفة والوعي. وهي ما نتأمل من الشاعر انْ يجمع بينهما في اللحظة التي يدوّن بها لحظاته الشعرية الخاطفة.

***
من جهة أخرى، رآى الشاعر الفرنسي نفسه، بأنّ المجهول، هو من يجب على الشاعر أنْ يسعى اليه دائماً. ولكنه في رسالتي الرائي، لم يشرح لنا ما هو المقصود بالمجهول؟!
وبما انّه لم يشرح لنا هذا الأمر، فأننا من الطبيعي، إنْ أردنا اكتشاف مقصده، سنلجأ الى المفهوم المتعارف على هذه المفردة تأريخياً، سواء كان ذلك في زمنه أو قبله أو بعده.
والمفهوم المتعارف تأريخياً عن مفردة المجهول، هو ذلك الذي يقول، بأنه الشئ الذي لم يكتشف بعد. أو بتعبير آخر، هو ذلك الشئ الحسي أو الفيزيقي المختفي والبعيد عن أدوات الاكتشاف في زمنٍ ما. ولكننا نرى انّ هذا المجهول ليس أبدياً وانما مؤقتاً، وذلك لأنه ما أن يُكتشف حتى يصبح شيئاً معلوماً، وبالتالي تنتفي عنه صفة المجهولية، كأن يكون كوكباً، نبتة، حيواناً، أثراً، مكاناً بعيداً ومجهولاً، أو أي شئٍ آخر يثير فكرة ما لدى الشاعر.
***
أما نحن، فنرى بأن المجهول، هو ذلك الشئ الميتافزيقي المحايث والمتوحد مع الفيزيقي. أو هو ذلك الكائن الذي أصبح مجهولاً الى الأبد بفعل امتلاكه لصفات مختلفة عن الصفات المعروفة عن الشئ الفيزيقي.
بتعبير آخر، المجهول، يسكن في داخل وخارج الانسان، ويسكن في كل شئ في العالم. فهو ليس ذلك المجرد عن الانسان والعالم والمحمّل بالكثير من الصفات البشرية. كلا، لأن هذا المجرد هو نتاج الفكر الميتافيزيقي القديم. ونحن لا ننتمي لهذا الفكر ولا نتبنى مفهومه عن المجهول ابداً، مع اعتزازنا واحترامنا بكل تأكيد لمن ينتمي لهذا الفكر ولمفاهيمه. نحن نرى انّ المجهول، هو متصل ومنفصل بالوقت نفسه مع الانسان والعالم. أي انّه محايث له ومتوحد معه، وليس متعالياً عليه، ونعتقد أيضاً، بأنه يمثل الوجه الآخر من الوجود. أي أن المجهول والمادة، يمثلان وجهي الوجود منذ الأزل والى الأبد وهما متلازمان ومتوحدان دائماً وأبداً، لذا نحن نؤمن بأن للمجهول كيان وهوية مثلما للعالم كيان وهوية، بل أن المجهول هو احد سمات العالم، ولكن كل ما في الأمر، هو أن هوية المجهول تختلف عن هوية العالم، بفعل تكونها من خصائص اخرى جعلتنا نجهل جوهرها تماماً، ولكننا نعرف بعضاّ من ملامح مظهرها مثل (الغموض والسرّانية).
فهذان الملمحان، يمثلان اهم ملامح المجهول، لذا نحن نؤمن بأن النص الشعري، هو من يمتلك الغموض والسرّانية في بعض جوانبه (وليس كله طبعاً).
وبرأينا انّ الشاعر الحقيقي او الرائي الحقيقي، هو من القلائل القادرين على الوصول الى هذا المجهول والامساك به. فهذا الشئ برأينا هو المصدر الحقيقي للشعر ولكل تأمل فلسفي مهم، بل ولكل ابتكار علمي عظيم.
***
ليس المقصود بالقبض على المجهول أو معرفته، هو الاحاطة به تماماً أو الهيمنة عليه معرفياً. كلا، لأن المجهول لا يمكن انْ يرضخ لنا تماماً، وإلاّ فقدَ نشوته وجماله الأبدي.
ما نعنيه بمعرفتنا بالمجهول هنا، هو رؤيتنا له عبر القلب، وامساكنا له بواسطة أكفّ المشاعر. ومن هنا يأتي، الايمان به، وبوجوده، وبحرارته، وبإشاراته، وبأهمية وجوده للشاعر بشكل خاص، وللانسان بشكل عام.

***
المجهول هو، مجموع المعاني والاشارات والايحاءات التي يلتقطها الشاعر، قبل انْ يحولها الى لغة شعرية يكون مصيرها في النهاية، في أحضان المتلقي. أي انّ الشاعر هنا صار مترجماً للغة المجهول الى المتلقي. بالاضافة الى ذلك نرى، انّ المجهول مصدر الحرارة الشعرية للشاعر، بينما الشاعر يغطي هذه الحرارة برداء الصنعة الشعرية. لذا نحن نرى بأنه، يمثل الحضن الأهم للشعراء. وبإمكانه انْ يكون حضناً لكل انسان، إنْ عرف هذا الانسان كيفية النظر الى أعماق روحه في لحظة عزلته وتأمله مع ذاته، غير انّ الفرق بين هذا الانسان وبين الشاعر، هو انّ الأول يعكس نتائج ما حصل عليه من هذه العملية على سلوكه الحياتي وربما العملي أيضاً، بينما الشاعر يعكس هذه النتائج على نصه الشعري بالأساس.

***
كيف يمكن للشاعر الوصول الى المجهول، ومن ثم الايمان به؟
نرى انّ ذلك يتم عبر عدة طرق، ولكننا نعتقد بأن الطريقة المثلى للوصول اليه (على الأقل بالنسبة لنا مرة اخرى)، هو التأمل بطريقته البوذية المعروفة، سواء كان ذلك التأمل متأتياً عبر مظهره أو جوهره.
فمظهر التأمل، هو التركيز على الشئ، ومن ثم النظر اليه وفحصه من كل الجهات والزوايا لغرض الوصول الى فهمه. أما جوهر التأمل، وهو الأهم والأخطر (حسبما نرى) لصعوبته الشديدة، هو موت الذاكرة، أو السكون المطلق، أو الازالة الكاملة لكل المرجعيات الشعرية ولكل المرجعيات المعرفية التي يتبناها الشاعر قبل لحظة ممارسته الكتابة الشعرية من ذاكرته تماماً. أي انّ على الشاعر، طرد التراث الشعري والمعرفي من مخيلته وذاكرته في اللحظة الشعرية المشرقة في أعماقه. أي انّ الوصول الى المجهول ومن ثم امساك الرؤيا، لا يتم عبر مرجعية علمية، أو دينية أو منطقية، أو فلسفية، وانما يتم عبر مرجعية التأمل الذي يعبّر عنه كما أسلفنا بنسيان جميع المرجعيات الشعرية والمعرفية من الذاكرة الى أن تصل هذه الذاكرة الى مرحلة الموت، أو الى نقطة الصفر.
فكلما طرد الشاعر احدى صور المعرفة المخزنّة في رأسه، يبزغ بدلاً عنها شعاعٌ من أشعة المجهول على الشاعر، وبالتالي، يشرق وجهٌ من وجوه الرؤيا أمامه. ومن هنا نستطيع القول، انّ الرؤيا هي اعادة قراءة الشئ المعلوم، قراءة جذرية. هي الغوص في جوهر الشئ من خلال طرد صورته المتعارف عليها في لحظات التأمل، الى أنْ يظهر هذا الشئ بشكل آخر ومختلف، ولكن بعد انتهاء التأمل يظهر هذا الشئ على صورته الأولى.
فالبوذي يقول بما معناه: حينما أرى الشجرة لأول وهلة، فأنني أراها شجرة، ولكن بعد تأملي لها جذرياً أراها شيئاً آخر، ولكن بعد نهاية التأمل، أراها على هيئة شجرة مجدداً.
لذا نحن نعتقد، إنْ مارس الشاعر هذا النوع من التأمل فأنه سيرى ما لا يراه الآخرون!

***
وبما اننا استعرنا تأمل البوذي للوصول الى المجهول، ومن ثم الى الرؤيا، فأننا مضطرين الى توضيح الفرق بين غايات استخدام هذه الوسيلة بين البوذي والشاعر.
فالبوذي، يهدف عبر استخدامه لهذه الوسيلة، الى صياغة تصوره عن العالم من أجل خلق الأخلاق له. بينما الشاعر، يهدف عبرها الى صياغة تصوره أيضاً عن العالم، ولكن من أجل خلق الشعر له.
***
وفي النهاية، نود القول بأننا نرى بأنّ من يخلق التوازن السليم بين الجانب المادي وبين المجهول في حياته، ومن يصنع التكامل بين الزمن المحيط به وبين زمن الرؤيا الكامن فيه، ومن يوّحد بمهارة بين الحرارة الشعرية والصنعة الشعرية في نصه الشعري، هو الشاعر الذي سيجعل من المجهول رفيقاً أبدياً له، وهو من سيجعل الرؤيا تتحكم في نصه الشعري دائماً وأبداً.