محمد الحمامصي من القاهرة: على الرغم من كون هذا الكتاب quot;هجرة الشوام.. الهجرة اللبنانية الى مصرquot; للدكتور مسعود ضاهر دراسة علمية منهجية، إلا أن أسلوب سردها البسيط والعميق غير المتعال، جعل قرأتها أمرا ممتعا، وبالطبع هذا بخلاف الموضوع الذي تتبعته بالرصد والتأريخ والتحليل، والذي هو بالفعل موضوع على درجة كبيرة من الأهمية ولم يلق عناية كافية من الباحثين، فكلنا يعرف بشكل عام ـ ليس معرفة علمية موثقة ـ الدور المتميز الذي لعبه المهاجرون الشوام في الثقافة والفن والاقتصاد والسياسة في مصر أواخر القرن الثامن عشر وخلال النصف الأول من القرن التاسع عشر.
هذا الكتاب الذي صدر عن دار الشروق هذا الأسبوع في 492 صفحة يمثل لوحة مكثفة حول هجرة الشوام إلي مصر منذ أواسط القرن التاسع عشر حتى أواسط القرن العشرين، فمنذ أواسط القرن التاسع عشر ازداد سيل المهاجرة إلي مصر بشكل عمودي حتى ناهز مائة ألف في أواسط القرن العشرين، وذلك من مختلف الطوائف والمناطق في بلاد الشام.
ويلقي الكتاب الضوء على تاريخ عائلات شامية كان لها دورا بارزا على الساحة المصرية، وكان رجالاتها يحتلون مواقع مهمة في الصحافة والسياسة والاقتصاد والثقافة والفن مثل: آل كنعان، آل زيدان، آل صروف، آل نمر، آل صابات، آل سكاكيني، وغيرهم.
تقتصر دلالة تعبير الشوام كما حددها د.مسعود في الدراسة علي مساحة جغرافية وفد منها المهاجرون إلى مصر، وكانت لهم سمات متقاربة في المأكل والملبس واللهجة والعادات والتقاليد وسواها، فأطلق عليهم المصريون تسمية الشوام لتمايزهم عن جاليات أخري كثيرة سكنت مختلف أرجاء مصر، وتفاعلت مع شعبها، فالشوام بهذا المعني تعبير اصطلاحي يطلقه سكان البلد الذي يؤمه المهاجرون، فيتقبلونه طوعا دونما حاجة إلي رفضه أو الاحتياج عليه ولا يشكل أية إساءة لهم، وكانت للمصريين أيضا تسميات كثيرة لتحديد الوافدين إلي أرضهم، فعرب المشرق هم الشوام وعرب المغرب هم المغاربة، والأوروبيون هم الأجانب، وبقايا الأتراك والشركس هم المماليك، وأوروبيو شرق أوربا هم في الغالب يونان، واتسعت التسمية لتضم فئات متعددة من سكان وادي النيل نفسه الذين يرمز إليهم بعبارات أهل الصعيد وأهل النوبة والأحباش وغيرهم، وغني عن التوضيح أن تلك التسميات ليست دقيقة بل تعبير يطلقه الشعب المستقر، ويسمي به المجموعات البشرية الوافدة للسكن علي أرضه.
ويضيف د.مسعود ليس المقصود بالشوام في الدراسة طائفة أو منطقة أو دولة بعينها في المشرق العربي قبل الحرب العالمية الأولي وبعدها، بل جميع من قدم مصر من المنطقة الممتدة ما بين بادية الشام والاسكندرونة وجبال اليمن وهي الحزام الساحلي الشرقي للبحر المتوسط، متوغلا نحو دمشق وحلب والقدس، ونظرا لاتساع هذه الرقعة الجغرافية فإن مشكلة التوثيق والمصادر تصبح ضربا من المستحيل، فهل يمكن إحصاء مهاجري تلك المناطق إلي مصر خلال أكثر من قرنين من الزمن تبدأ بالهجرة إلي دمياط وتنتهي بقرارات التأميم؟
الأعداد كبيرة جدا والمسافة الزمنية شديدة الاتساع، أضف إلي ذلك أن هناك صعوبات منهجية كثيرة لا يمكن تجاوزها في إطار دراسة فردية أو جماعية في هذا المجال، وهي تنبع من طبيعة المهاجر حيث التنقل السريع وعدم الاستقرار من السمات الأساسية لشخصية وسلوكه، وليست هناك سجلات قادرة علي ضبط ذلك التنقل مهما بالغت الدولة في الحرص والدقة والرقابة، فالمهاجر في حركه دائمة انتقال من مدينة إلى أخري وإلى فروع جديدة تجارة جديدة، أعمال متنوعة، سفر إلى الخارج للحصول علي وكالات وسلع جديد،ة أو للتخصص وإتقان اللغات والخبرة، هناك إذا صعوبات جمة في تتبع سيرة شخصية لعائلة مهاجر واحد علي امتداد جيلين أو ثلاثة أجيال من الجد إلي الأب فالابن.
ويقول قد رصدنا نماذج معبرة لبعض الأسر من خلال ذاكرة الأبناء والأحفاد، ولا ندعي القدرة علي تقديم دراسة شاملة لجميع أسر الشوام في مصر منابتها أسباب هجرتها أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية قبل الهجرة وبعدها، تركيبتها العائلية والطائفية سلوكياتها الاجتماعية في مصر بين الاندماج والتوقع، علاقتها بالقوي الفاعلة في المجتمع المصري، أو السيطرة على مصادر ثرواتها ونفوذها، أسباب نقمة المصريين علي الجاليات الأجنبية وموقفهم من الشوام المدلول الحقيقي لشعار مصر للمصريين الهجرة مجددا إلي الخارج بعد انتصار الثورة المصرية، هذه الأسئلة المنهجية والكثير من الأسئلة المشابهة والمتممة لها كانت في صلب دراستنا لهجرة الشوام إلي مصر، وكان لابد من الانتقاء بين المصادر والوثائق في محاولة لتسليط الضوء علي جوانب منها بحيث تنفتح آفاق جديدة ومستمرة لدراسة الجوانب الأخرى فليس بالإمكان أن تلم دراسة واحدة أو عدة دراسات بتاريخ أكثر من مائة ألف مهاجر جاءوا مناطق متباعدة في بلاد الشام، واستقروا في أرجاء مصر الواسعة، وتنقلوا هناك باستمرار.
ويشير د.مسعود ضاهر إلي أن هناك صعوبات توثيقية لا يمكن تجاوزها إذ لا توجد إحصاءات دقيقة أو تقريبية حول جميع الشوام الذين تقاطروا إلي مصر خاصة في القرن التاسع عشر، وما حصلنا عليه أحيانا من إشارات في بعض الوثائق لا تحدد بدقة المصادر الجغرافية للمهاجرين، فكانت السجلات الأساسية تكتفي بذكر المهاجر مع إشارة إلي المنطقة التي قدم منها، فيقال طنوس الأسمر من جبل لبنان أو الياس الفلسطيني أو جبرائيل السوري، المسألة في غاية التعقيد، فكان لابد من الانتقاء هكذا تم اختيارنا للمصادر والوثائق علي أساس دلالتها الواضحة فيما تتضمنه من معلومات وكانت السجلات ووثائق جزئية ومتحيزة وتطال فئة واحدة لتهمل فئات كثيرة.
كانت هناك صعوبة في تحديد المنابت الجغرافية للشوام، فهناك أعداد كبيرة من حلب ودمشق وحمص وحماه والقدس وحيفا وبيروت وطرابلس وصيدا وجبل لبنان واللاذقية وغيرها، ونظرا لغياب الأوراق الشخصية الثبوتية من تذاكر هوية وسواها، جميع المهاجرين يعتبرون كالمصريين تماما من رعايا السلطنة العثمانية، فتدامج البعض منهم مع الشعب المصري خاصة مسلمي الشوام، وتمايز البعض الآخر وحافظ علي تمايزه حتى تاريخ تحديد الهوية الحقوقية المعترف بها بقانون الجنسية، حسب معاهدة لوزان لعام 1924، والتي أعطت الحق لجميع رعايا السلطنة العثمانية السابقين باختيار الجنسية التي يرغبون، وكانت غالبية مهاجري هذا التيار من المسيحيين الشوام الذين احتفظوا بسجلات خاصة بهم في كنائسهم وأديرتهم ونواديهم وجمعياتهم ومدارسهم وسواها، وقد استندنا بشكل واسع إلي هذه السجلات لأنها تقدم أرقاما ثابتة وأسماء واضحة تساهم في تحديد جوانب أساسية من هجرة الشوام إلي مصر خاصة اللبنانيين منهم أي الشريحة الأساسية من مهاجري الشوام التي اخترناها للدراسة في هذا البحث.
إن قراءة متعمقة لوثائق الدراسة ـ كما يشير المؤلف ـ تبرز بالملموس أنها تناولت مناطق جبل لبنان وزحلة وبيروت وصيدا وصور وطرابلس مع نماذج قليلة من حلب ودمشق والقدس وحيفا واللاذقية وسواها من مدن الداخل السوري، وعلي الرغم من العنوان الواسع هجرة الشوام إلي مصر تقتصر وثائقنا في مصادرها الشفوية والمكتوبة معا علي إبراز الهجرة اللبنانية إلي وادي النيل، مع إشارات إلي هجرة بعض الحلبيين والدمشقيين وقلة من سكان المدن الفلسطينية وتجدر الإشارة إلى أن عدد ا كبيرا من الحلبيين والدمشقيين والفلسطينيين المسيحيين منهم بشكل خاص قد اختاروا الجنسية اللبنانية فيما بعد، لذلك آثرنا أن يكون عنوان بحثنا الهجرة اللبنانية إلي مصر وهي الهجرة التي تندرج في الإطار الواسع لهجرة الشوام أي دراسة الجزء في ظروف موضوعية تحد من قدرتنا علي القيام بدارسة شمولية لها.