كامل الشيرازي من الجزائر: يذهب الناقد المسرحي الجزائري quot;بوبكر سكينيquot; إلى أنّ العالم الافتراضي بات يهدد بشكل جدي المسرح، ويلح على أنّ التحديث مرتبط باستعمال عقلاني وواقعي وفعال لأدوات المعلوماتية.
وفي هذا الحديث الخاص بـquot;إيلافquot;، يقول سكيني إنّ الملحمة كفيلة بالتعبير عما يصبو إليه الإنسان العربي، ملاحظا أنّ الساحة الفنية الجزائرية موبوءة ببعض المفاهيم الخاطئة، على نحو جعل المسرح الجزائري في المهجر أكثر ديناميكية من نظيره في الداخل.

bull;تنشطون في ميدان النقد المسرحي منذ أكثر من عشرية، أي قراءة تجرونها لممارسة حاضرة/غائبة في أدبيات الفن الرابع الجزائري، وأين هم النقاد مما يجري؟
bull;للتَّكيف مع سؤالكم، علينا أن نتفق على مفهوم وآلية النقد المسرحي أولاً، برأيي أنّ تقدير السؤال: كيف هي الممارسة النقدية في الجزائر في غياب الوسائل الإعلامية المختصة في النقد الفني؟ وعليه أؤكد أنّ التجربة النقدية في الجزائر لا تخرج عن التغطية الإعلامية السطحية للفعل المسرحي، في حين أن العملية النقدية أوسع من هذا المجال الضيق، إذ أنها عملية إبداعية ثانية تحاول أن تستجلي ما هو مرسل عبر العرض المسرحي لتضعه في قالب جمالي ضمن نسق تواصلي لغاية الإقناع الجمالي.. والنقد عملية فكرية تقوم على التفسير والتأويل وتتعدى أحيانا إلى تعديل الرسالة المُبَّثة للمتلقي، فالناقد له معرفة دقيقة بمكونات المسرحية وقدرة على رصد مكونات الخطاب الدرامي المشخّص في العرض.
نحن نأسف أنّ حظ النُقاد المسرحيين في الجزائر في عدم تمتعهم بالاهتمام الإعلامي والرعاية من الوصاية بالقدر ذاته من الاهتمام والامتياز الذي يتمتع به -نسبيا- الكتاب والمخرجون، فالعارف بشؤون المسرح يدرك أن العلاقة بينهم كالرابطة بين quot;سيزيف والصخرةquot; فعلى الرغم من معرفته المسبقة بأنها ستسقط ثانية يصر كل منهما على رفعها عساهَا أن تثبت.

bull;ما تقييمكم لنتاجات المسرح القومي ومسارحه الجهوية، وماذا عما يعرضه quot;الهواةquot; مقارنة بـquot;المحترفينquot;؟
-لم يتسنى لنا مراقبة ما يجري ما يحدث عبر المسارح الجهوية في الجزائر عن كثب، لذا فالصورة عندنا ضبابية وغير مكشوفة عما ينجز محليا من عروض نظرا لنقص وسائل الرصد من أدوات إعلامية تعطي الصورة الكاملة والوافية عن المشهد المسرحي، وهو ما حال دون تشكل خارطة شاملة من المنجز الأدائي بعيوبه وإيجابياته.
إلاّ أن نتاجات المسرح الجزائري التي أتيحت لنا مشاهدتها في مناسبات أو من خلال نصوص تناولناها، تدفعنا إلى الحكم عليها بأنّ المسرح الجزائري لا يزال للأسف يشكو من قلة الثقافة المسرحية لدى الجمهور وإلى الافتقار لرؤية متمعنة للحياة في العروض المقدمة، ثانيا: اكتشفت أن المسرح الجزائري في المهجر أكثر ديناميكية مما عليه في الداخل.. فهل يرجع ذلك إلى عدم انتمائها إلى مؤسسات أو تنظيمات رسمية أم أنها أكثر حرية في أعمالها؟ ثالثا: على الرغم من كون المسرح في الداخل يتمتع بالدعم الرسمي، إلاَّ أن العروض في مجملها تنعدم إلى النضج والكمال الفني في الطرح وإلى مواكبة المواضيع المعالجة لهموم الواقع والمواطن البسيط.
كما أنّ الساحة الفنية الجزائرية موبوءة ببعض المفاهيم الخاطئة التي تفرقة بين مسرح الهواة ومسرح المحترفين، فالرُكح في أبسط تعريفاته لا يفصل بينهما، ويجعل من أب الفنون فنا متخيلا يوحي بأنه حقيقة ويفترض الصنعة وهو محمّلا بدلائل لمعاني أخلاقية وإنسانية يؤديها ممثلون بتوجيه من مخرجين معتمدين على نصوص.
برأيي، علينا الاستغناء على التسميات التي تنتقص من حالة الالتزام ودافع الرغبة الفنية التي يتمتع بها عموم المسرحيين.

bull;ألا يشكل افتقار الجزائر حاليا لمسارح خاصة، بجانب عزوف المتعاملين المحليين عن الاستثمار في الحقل المسرحي، عمق المعضلة، وكيف السبيل للتقويم برأيكم؟
-بالتأكيد، افتقار الساحة المشهدية إلى مسارح خاصة يعطّل نسبيا نمو الحركة المسرحية، أرى أن مربط المشكلة الرئيسي الذي يؤرق المسرح هي المنافسة الشرسة من قبل العالم الافتراضي المتمثل فيما تقترحه الفضائيات وشبكة الأنترنيت.
أتصور أنّ تقويم مسار المشهد المسرحي الجزائري، لا يمكن أن يتأتى إلاّ باستغلال الفضاءات الركحية التي تتوزع عبر جهات الوطن، والاعتماد على نصوص ذات طرح راقي ومعالجة عميقة لسائر القضايا، وأن تكون الأعمال جديرة بفضح الوهم واحترام بؤس الإنسان، بل على المؤلفين المسرحين أن يلامسوا ما يحدث في العصر الحالي ليس بهدف (متحفته) بل للكشف عن التناقضات التي يعج بها الحاضر لتوضيح المستقبل.

bull;ما هي الشروط الجمالية الممكنة لقيام مسرح جزائري حقيقي وحداثي يستفيد من رصيد القوّال وتجارب الحلقة؟
-الحديث عن جماليات المسرح برصيد القوال وتجارب الحلقة، تم تناوله بكثير من التكلف وفي مناسبات متعددة وخلال سنوات طويلة، في حين أنّ مسرح القوال ليس نوعا مسرحيا بل هو آلية تلقي للعرض يتم فيها جعل هذه اللحظة عيدا لها حرمتها وقدسيتها، وجعل المتلقي في موقف المشارك في العملية الأدائية من خلال خرق الجدار الرابع الوهمي بهدف تكسير ملل الحياة العادية، إذ أن اللحظة المسرحية هنا تغلب عليها الاحتفالية ويتم بها تحقيق نوع من التمرد على قمعية الحياة اليومية، وهي عملية انعتاق من رتابة المعتاد.
لا ننسى كذلك في أنَّ المادة النصية التي تستند عليها المسرحية في توظيف المحكي ذو الجذور الوثيقة بالوجدان الجمعي، وعليه أرى أنّ التوظيف الجمالي للتراث يكون على هذا المستويين، وأعتقد أن حداثة المسرح مرتبطة باستخدام الوسائل المعلوماتية الحديثة، وهو مسألة جائزة في المسرح على أن يكون لها فاعليتها في العرض. وتاريخ المسرح يحكي لنا أنّ لكل عصر مسرح يتماشى مع متطلباته.
وهناك كثيرٌ من المخرجين الجزائريين يبالغون في الدعوة إلى استعمال المعلوماتية على حساب الفكرة أو الموضوع أو غائية العرض، ما أضعف دور الممثل وأنقص من أهمية النص وجعل المتلقين مشتتي الذهن، لذا لا ضرَرَ ولا ضِرار في استعمال المعلوماتية بكثير من العقلانية والوظيفية حتى لا تكون القراءة محرّفة للعرض.

bull;هل تؤيدون جزم متابعين بأنّ انغماس المسرح الجزائري في التراث الشعبي، جعله أقرب من المقامات؟ وماذا عن الاتجاه المكثف للاقتباس منذ ستينيات القرن الماضي، ألم يؤثر ذلك على بلورة المسرح الجزائري بالشكل المأمول؟
-شخصيا أنا مع فكرة الانغماس في التراث الشعبي والنهل منه، تبعا لما يتوفر عليه من زاد كاف لنجاح الأعمال المسرحية وتميزها مقارنة بالأعمال الغربية، كما أنّ التراث الشعبي يجعل من العمل الأقرب إلى إرضاء حاجة المتفرج الغريزية للمتعة المشهدية فهو لا يُشعره بالغربة.
المقامات تشتغل على اللغة في حين أن المسرح يشتغل على الفعل فلا أرى أي تقارب بين الفنين سوى في اللغة والفكر، ولكل أدواته وعناصره التأثيرية على المتلقي، لذا أرى بوجوب مراجعة الحكم المذكور.
إنّ الرؤية لا تكتمل للعالم إلا عندما ندرك كيف يفكر الآخر؟ وانفتاح المسرح على الآخر ليس بظاهرة جديدة فهو لا يتردد في التفتح على التجارب الإنسانية لينهل منها، مقومات قوته وثباته، فالمسرح الجزائري تاريخيا أبان عن انفتاحه عما ينجزه الآخر، إلاّ أن هناك حقيقة تاريخية تفيد بأنّ طفولة المسرح الجزائري لم تلد من الاقتباس كما قام به أشقاؤنا العرب، بل النشأة كانت بنص مستقل لا يزال إلى حد اليوم وهو لـ quot;إبراهيم دانينوسquot;.
لا مانع في الاقتباس، فالمسرح تاريخيا وُلد عبر عنق الاقتباس من رحم الإلياذة، كما أنّ قوَّة المسرح في العرض وليس في النص، فالأخير ليس بمقدّس، فهو كُتب للعرض من أجل المتعة ضمن منظومة دلالية تجمع بين الإخراج والأداء والسينوغرافيا ووفق قاعدة هنا الآن.
السؤال كيف نؤصِّل لمسرح جزائري متفتح على تجارب الآخر وله امتداد عميق يجمع بين ما هو أصيل وما هو مؤصل.

bull;شهدت الساحة الأكاديمية في الجزائر خلال الفترة السابقة، إنجاز عديد الدراسات السيميولوجية حول المسرح، لكنها لم تحظى بالاهتمام رغم ما اقترحته من تحاليل ومخططات، ألا يعني هذا افتقاد تطبيقات المسرح هناك لأرضية معرفية جعلت نتاج الركح المحلي عنوانا للهزال والرداءة؟ أم المسألة موصولة بالشرخ الموجود بين الأكاديميين وأهل الخشبة؟
-النقد عملية فكرية تستعين بأدوات إبستمولوجية لأجل إعطاء العرض قيمة فنية وجمالية، وكثيرة هي مناهج النقد المسرحي منها الكلاسيكية والحديثة، بيد أنّ طبيعة العرض المسرحي هي من تعطي لك الإستراتيجية النقدية التي تتناسب معه -وهذا رأيي الخاص-.
المنهج السيميولوجي هو الوحيد الكفيل برصد المنظومة الدلالية المستعملة للعرض، إذ أنه يمثل أداة لرصد العلامات التي تم بها صناعة المعنى وليس المعنى أي التأويل، للأسف هذه الآلية النقدية غير مستحسنة في أيامنا الحالية إذ يرى البعض أن الزمن تجاوزها.
ما يؤرقني هو أنه ليس هناك تحمس للنقد المسرحي في الساحة الفنية الجزائرية، فنشاط النقد يتكثف إلا عند نقطة الكتابة التأريخية للظاهرة المسرحية الجزائرية، والناقد الجزائري يجد نفسه مطوّقا بقصد أو بدونه بين التهميش والأحكام المسبقة، لأنه لا يتماشى مع سياسة أهل الخشبة، مع العلم بما هو مجهول لدى الكثير أنّ للناقد ملكة إبداعية متكاملة، وغالبية الكتاب المسرحيين هم نقاد بالأصل.
الحمد لله أنه ليس هناك فراغ نقدي في الساحة الجزائرية، فغالبية الذين درست معهم النقد المسرحي ينشطون ضمن مؤسسات إعلامية أو يقوموا بإثراء صفحات الويب، هذا الفضاءات أتاحت لهم فرصة التنفيس عن ملكاتهم وجعلت أدوارهم إيجابية.

bull;كيف تقاربون نسقية التجريب المسرحي في الجزائر وما يسمى بمسرح الشارع، وهل يمكن السير باتجاه بواكير مغاربية مبتكرة؟
-الإشكالية هنا هي قضية التسمية، فمسرح الشارع له حضور في الساحة الفنية الجزائرية منذ القدم أي ما يصطلح عليه بمسرح الحلقة الذي تكثر ممارساته بالأسواق الشعبية، فتبني هذا المسرح في إطار تجريبي يجعله نظريا مطابقا لمسرح الشارع الغربي، فالتجريب في المسرح كما هو معروف عند المختصين غايته البحث عن أساليب وأدوات جديدة يتم بها تعديل جماليات العرض المسرحي من أجل تلقي مثالي، وبالطبع يمكن أن يسير التجريب المسرحي في الجزائر ولكن نحو التنوع في إطار البحث ضمن إمكانات تأصيل لمسرح عربي واحد بلغة وذوق وموضوع وفق حاجات المجتمع العربي ومتطلبات تطوره.

bull;ما هي الشروط اللازمة لتطوير مسرح الطفل في الجزائر، في ظلّ ما يجود به المسرح المدرسي دوريا؟
-لاحظت في هذه الأيام كثرة الحديث عن واقع وراهن مسرح الطفل بالجزائر دون وضع إجابات لما يمكن أن يجده البراعم في المسرح ولا يمكن أن يجدوه في أمكنة أخرى؟ لمسرح الطفل أهداف نبيلة تجمع بين التسلية والتّطوير النفسي والتوجيه التربوي، إلا أنّ على حد علمي، تبقى الأوساط المدرسية في الجزائر خالية من قاعات العرض بل حتى من الممارسة المسرحية، وإن وُجدت فهي لا تخرج عن نسق التهريج والابتذال في الأداء.
وبين التناقض والغرابة بين الخطاب الرسمي والموجود يُتَناولُ مسرح الطفل.. هذا لا يعني أننا لسنا متفائلين بنمو هذا المسرح ولكن بتوفر مجموعة من الشروط العملية منها تأهيل منشطين أو مربين في مجال المسرح التربوي على أن يدرك الناشط لمن يكتب؟ وماذا يكتب؟ وكيف يكتب؟ مع مراعاة شروط الخشبة وضمان الحد الكافي للوصول بوعي حاد إلى أنظار وعقول المشاهد الصغير، فالمسرح يُصنف كأقوى معلم للأخلاق، لذا يُرجى إقحامه ضمن المنظومة التربوية والاهتمام بتخصيص ملاحق للأداء الركحي داخل المؤسسات التربوية.

bull;يقول باحثون أنّ العرب مؤهلين للإبداع في الفن الملحمي أكثر من التراجيديا، ويستدلون بكون فن الحكي القائم على الاستطراد كما هو حال quot;ألف ليلة وليلةquot; التي تتميز بالتضمين، يجعل العرب أقرب لما اقترحه المسرحي الألماني الشهير برتولد بريشت، ما مدى صحة هذا الطرح وقابليته للتجسيد؟
-هذا السؤال يعيدنا إلى سابقه المتضمن مسرح الحكي عند العرب، إنّ التأهيل الذي تتحدثون عنه، نابع من الطبيعة السوسيو ثقافية التي تميّز المجتمع العربي عن سائر الأمم، وعندما نبحث عن الإجابة لتفسير هذا التفرّد تتكشف أمام أعيننا حقيقة فنية مفادها أنّ العامل التاريخي هو الفاعل الأساسي في هذا التميز، كما أنّ حجم التصادم الحضاري بين العرب والغرب هو الذي يملي علينا هذا التبني، فالملحمة هي الكفيلة في التعبير على ما يصبو إليه الإنسان العربي المعاصر من تطلعات على مستوى الكم والكيف، ولأنّ حجم الأحداث التي أحاطت بالتاريخ الحالي للعرب من خلال محاولة ربطهم بـ(الإرهاب) جعلتهم يجنحون إلى هذا الاستطراد للملمة عريضتهم في الدفاع عن مقوماتهم المبنية على التسامح والتعايش السلمي في ظل الاختلاف الثقافي.