أجرى الحوار عبدالعزيز جدير: أصدر فؤاد العروي عدة روايات منها quot;أسنان الطوبوغرافيquot; استقبلت استقبالا متعاطفا مع تجربة أولى ثم أصدر روايته الثانية quot;لأي حب جريحquot; ثم روايته الثالثة quot;حذار من المظليينquot;.. وقد كتب مؤخرا القصة القصيرة وسحره، كغيره من كتاب المغرب العربي وربما المشرق أيضا، موضوع quot;الإسلام السياسيquot; فاقترب منه من خلال كتاب.. ثم تعاون مع إذاعة quot;ميدي آهquot; فالتلفزة المغربية.. هذا سفر بمعيته في الكتابة وبداياتها وولوج دهاليزها وهو أقرب إلى البوح التلقائي..

-السي فؤاد، تكتب بالفرنسية، درَّست بانجلترا باللغة الإنجليزية طبعا، تدرس الآن بالجامعة الهولندية الاقتصاد باللغة الهولندية.. ثم إنك تتبع برنامجا يوميا لاستعادة اللغة العربية. ما طبيعة هذا البرنامج اليومي لتعميق معرفتك باللغة العربية؟
-في أمستردام، نستقبل برامج التلفزة المغربية عبر الكابل، وكل يوم أتابع هذه البرامج مدة ساعتين، ثم أتابع المسلسلات ديالكم [ضاحكا]، هذا برنامجي لأسترجع اللغة العربية. ومعلوم أنني لم أزر المغرب طيلة عشر سنوات، قضيتها في انجلترا وفي هولندا. ولم أتحدث باللغة العربية طيلة عشر سنوات. الآن، أحاول استرجاع اللغة العربية لأنها لغة مهمة، ولأنها لغة بلدي، ولغتي الأولى، الأم. من الصعب طبعا، استرجاع اللغة العربية لأن هناك لغات أخرى حلت محلها وهي الفرنسية والإنجليزية والهولندية والألمانية [ضاحكا].
-.
-وكنت زرت المغرب في إطار تقديم روايتك الأخيرة، quot;حذار من المظليينquot;، ما هي الانطباعات التي ظلت عالقة بذهنك بعد هذه الزيارة؟
-لاحظت أن كثيرا من الناس رغبوا في التعرف على الرواية المغربية المكتوبة باللغة الفرنسية. وأنت تعلم أنه قبل عشرين سنة خلت، كان كثير من الناس يقولون إن الرواية المغربية المكتوبة باللغة الفرنسية لا مستقبل لها. وهم يعتقدون أن المغاربة سيكتبون باللغة العربية، والكتاب باللغة الفرنسية، لن يستمروا في الكتابة بها أكثر من عشرين سنة بعد الاستقلال. وقد قيل هذا الكلام في الستينيات، لكننا نرى الآن بعض الكتاب المغاربة يكتبون باللغة العربية، مثل محمد برادة، وزفزاف.. وآخرين يكتبون باللغة الفرنسية: الشرايبي، وبنحلون وسرحان.. وقد نشأت الآن مدرسة جديدة في الكتابة باللغة الفرنسية.. وهؤلاء الكتاب كلهم شبان، فقد صدرت قرابة العشر روايات مكتوبة باللغة الفرنسية.. وقد نتساءل لماذا يكتب هؤلاء باللغة الفرنسية، ويكتب آخرون باللغة الإسبانية أو الإنجليزية.. ولم يكتبوا باللغة العربية؟ هذا سؤال مطروح بقوة، طرحه علي بعض من التقيت بهم من دون أن يكون محملا بالعتاب أو المؤاخذة، بل يطرحونه بفضول، ولكن بانفتاح لافت للنظر. هذه هي الملاحظة الأولى التي لفتت انتباهي خلال تلك الزيارة. ثم لاحظت أن كل من حضروا لقاء تقديم الرواية أو العرض/المحاضرة كانوا متلهفين، يقرؤون، يرغبون في التعرف على الكتاب.. وهذه كلها أمور إيجابية، في بلد كالمغرب..
-
-كيف أتيت إلى الكتابة؟
-كنت أرغب دائما في أن أكون مهندسا، لذلك درست في الليسي ليوطي بالدار البيضاء، ثم ذهبت إلى باريس حيث درست بمدرسة الجسور والطرق، وحصلت على شهادة مهندس، وعدت إلى المغرب quot;باش تخدم في بلادكquot;، كما يقولون. البلد يجب أن يتقدم، ومن يحصل على شهادة يجب أن يشتغل في بلده، وهذه فكرة طبيعية ومنطقية.. لكنني كنت ألاحظ في المغرب بعض الأشياء التي أقول عنها: quot;هذه يمكن أن تتحسن، وهذه ليست أمور معقولة، وهذه مزيانة..quot; هذه الملاحظات وقفت عليها، وأنا أعيش بمدينة خريبگة حيث كنت أشتغل مهندسا، وأسكن بمفردي. وقد التقينا بالنادي السينمائي، أنا وأنتَ، الذي كان هو ملاذي وسبيل الترفيه الوحيد الذي ألجأ إليه. وقد كنت رئيس هذا النادي، لكن تلك الملاحظات، لم يكن هناك شخص أتقاسمها معه، لذلك كنت آخذ القلم وأدون كل تلك الملاحظات. أدونها أو أكتبها، كما نكتب رواية. لنفرض أنك غادرت منزلك في الصباح، ورأيت منظرا غريبا، ولا يمكنك أن تتبادل الحديث مع أحد فيما شاهدته، إذا لا يبقى أمامك إلا أن تعود إلى البيت وتكتب ما شاهدته، وتنساه. لكن بعد مرور سنتين أو ثلاث سنوات، أصبح عدد الأوراق المكتوبة، (180) صفحة، وتلاحظ أنها رواية كتبت وحدها [ضاحكا]، من دون تفكير في كتابتها [ضاحكا]. قضيت أربع سنوات أشتغل في الفوسفاط في خريبگة والدار البيضاء، ثم عدت إلى أوربا، فقلت بيني وبين نفسي، هذه رواية كتبت وحدها، ويجب نشرها. يجب أن أبحث في باريس عن ناشر يرغب في نشرها. بعثت بها عبر البريد، إذ لم أكن أعرف أي شخص له علاقة بالنشر، إلى دار quot;السويquot;، ودار quot;جيليارquot;، وquot;گاليمارquot;.. أربعة دور نشر. وبعد عشرة أيام تلقيت اتصالا هاتفيا [ضاحكا] من دار quot;جيليارquot; سألني الرجل المتصل هل يربطني عقد أو تعاقد مع دار معينة [ضاحكا]، أجبت بالنفي، فطلب مني الاتصال بالدار. زرت الدار فقيل لي إن هذه الرواية مهمة، ويجب أن تطبع، وتنشر.. باختصار، هكذا أصبحت كاتبا، وهكذا نشرت روايتي الأولى..

-لما تم التوقيع على العقد، هل قدمت لك الدار تسبيقا معينا؟
-لا أذكر، لكن المهم هو الفرق بين التسبيق الأول، والثاني والثالث، مع الرواية الثانية، والثالثة.. وهذا يعبر عن نوع من المغامرة التي يخوضها الناشر مع الكتاب الأول. فهو لا يدري كيف سيستقبل الكتاب، هل سيشتريه الناس، هل ستكتب عنه الصحافة، هل سيكتب عنه النقد؟.. في الأول، يقدم تسبيقا معينا، لكن مع الرواية الثانية، ومع الثالثة.. تلاحظ الفرق، وهو نفسه [الناشر] يقول هذا الشخص له مستقبل في عالم الكتابة، أو أن هذا الكاتب قرأ الناس عمله الأول، ويرغبون في قراءة الثاني والثالث.. وهذه هي الفكرة الأساسية التي تتحكم في تصرف الناشر: جمهور الكاتب، هل يمكن أن تخلق جمهورا، أنت الكاتب، هل يرغب الناس/القراء في الاستماع إليك، قراءتك، تتبعك؟ وكي يرغب الناس في الاستماع إليك، قراءتك، يتطلب الأمر مسألتين: كل رواية كتبتها يجب أن تحمل فكرة أساسية: تضحك القارئ أو تبكيه [ضاحكا]، تبقى ملامح منها في ذهن القارئ، وربما تغير بعض سلوكه، تفكيره.. والمسألة الثانية هي الأسلوب. أنا أركز دائما على هاتين المسألتين، لأنني لاحظت أنه في المغرب، في فرنسا.. هناك أشخاص يتوفرون على مواضيع، على فكرة أساسية يرغبون في التعبير عن قضية أساسية مهمة، لكنهم لم يعثروا على طريقة خاصة لقولها، على أسلوب خاص لتمرير تلك الفكرة الأساسية. وهناك من يتوفر على أسلوب خاص للكتابة، لقول ما يريد قوله، ولكنه لا يتوفر على الفكرة الأساسية، التي يرغب في الدفاع عنها. للكتابة يجب التوفر على فكرة، أيا كانت طبيعتها، ويجب أن لا تصدق الناس الذين ينتقدونها، يستصغرونها.. يجب أن تتجرأ على الدفاع عن فكرتك، وكتابتها... مثال ذلك، في روايتي الأولى، quot;أسنان الطوبوغرافيquot;، كانت الفكرة الأساسية هي فكرة الهوية، حيث أننا كمغاربة تتشكل هويتنا من الإسلام، العروبة، إلخ.. لكن هناك بالمقابل هذا الغرب الذي تجعلنا اللحظة وجها لوجه معه، في مواجهته. هذا مشكل.. فقبل خمسين سنة، طرحت الفكرة ذاتها على الشرايبي في روايته quot;الماضي البسيطquot;، فكرة الهوية. بالنسبة لي، لي وجهة نظر تخص الهوية، وهي وجهة نظر تدفع أكثر من فرد أن يقول لي: quot;ليست هذه هي الهوية، أنت مخطئ.quot; أقدم لك مثالا، إذا كان هناك شخص مغربي، ولكنه ولد في أوربا، ونما وترعرع في أوربا، فهو بالرغم من الحنين الجامح نحو المغرب ورغبته في زيارة المغرب خلال العطل، وبالرغم من حبه لوطنه، أي أنه يكون (Patriote) وطنيا يحب بلده [ضاحكا]، يجب أن ينظر إلى نفسه كأنه أوربي، إذا كانت مصلحته ومستقبله في أوربا. وهناك جانب آخر في هويته وهو أنه مغربي، لكن البعد الأساسي في حياته أنه أوربي. وإذا لم يكن مقتنعا بهذه الفكرة، أينما كان في باريس أو أمستردام أو غيرهما فسيظل يشعر دائما بنقص، ويعاني من مشاكل، ومن عقد.. هذه وجهة نظر خاصة بي، كثير من الناس يقولون لي إنك مخطئ، فالمغربي مغربي أينما حل وارتحل، حتى ولو كان لا يعرف اللغة العربية، وكان يوجد في بروكسيل ويتحدث اللغة الفلامانية، فهو مغربي. أنا أقبل هذا الحوار، ولكن كيف أدافع عن وجهة نظري تلك، أدافع عنها عن طريق الكتابة. أكتب رواية، أخلق شخصيات وأتابع تفاصيل حياتها.. وكل منها له اختياراته.. واحد من الشخصيات يرى نفسه مغربيا أينما وجد، وآخر سيقول أنا لست مغربيا، بل سأقطع علاقاتي مع هذا المغرب، وجذوري، وسأختار أن أكون أوربيا.. وآخر سيقول أنا أوربي، ولكن البعد المغربي في شخصيتي أفتخر به، وسأحتفظ به، ولكن أريد أن يكون منسجما ومتآلفا مع البعد الأوربي. كل واحد في روايتي الأولى، quot;أسنان الطوبوغرافيquot; سيكون له اختيار خاص به في قضية الهوية. القارئ نفسه، وهو يقرأ سيحاكم الشخصيات من منظور خاص، سيقول مثلا: اختيار هذا الشخص لا يعجبني، لأن حياة هذا الشخص ليست ناجحة، وهذا الشخص حياته ناجحة، لأنها منسجمة.. فيتفق مع اختيار دون آخر.. من يتوفر على فكرة أساسية، وكتب رواية معتمدا أسلوبا خاصا، فقد نجح في كتابته، لأن القضية قضية أسلوب..

-[مقاطعا]، هذا يذكر بقولة بيفون quot;الأسلوب هو الشخصquot;..
-[مقاطعا]، بالتأكيد، (Le style, crsquo;est lrsquo;homme).. إذا الرواية الناجحة هي التي تقوم على فكرة أساسية وعلى أسلوب خاص في كتابتها.. إذا في روايتي الأولى، quot;أسنان الطوبوغرافيquot;، وفي الثانية، quot;جرح quot;، وفي الثالثة، quot;احذروا المظليquot;، أحاول دائما الانطلاق من فكرة أساسية، ثم أسير بها إلى منتهاها، وأعتمد على الحوار، الحوار مع القارئ. أرغب في أن يتصل بي، يعبر عن عدم اتفاقه مع الفكرة التي انطلقت منها..

-وقد يكون هذا جزء من دور الأدب، وهو فتح حوار بين القراء من جهة، ثم فتح الحوار بين الكاتب والقراء من جهة ثانية..
-هذا هو دور الأدب الحقيقي.. وقد توصلت بعدد من الرسائل الإلكترونية في هذا الشأن [ضاحكا]. وقد فهم الناس، هذا الأمر، وكثير منهم عبر لي عن عدم اتفاقه مع الفكرة الفلانية.. وهذا مطلبي.. أحيانا أتوصل برسالة مليئة بالسب والشتم [ضاحكا]، وهذا أمر غير أخلاقي.. لكنني لاحظت أن (99%) من المغاربة يقبلون الحوار، ويعجبهم الحوار، ويقبلون عليه. وقد قلت في عرض بمكتبة بالرباط إن هذا ما أرغب في أن يسود في المغرب، تسود فيه أخلاق الحوار، آداب الحوار..

-لماذا تكتب للتعبير عن الذات، تحسين الوضع المادي..
-قبل يومين، قدمت درسي خلال أربع ساعات في مادة الاقتصاد، وأشتغل لأعيش وألبي مطالب الحياة. لا أكتب للحصول على المال، ولا أعتقد أن من يلج عالم الكتابة ليحصل على المال سيحقق مراده من ذلك. الكتابة ليست مرادفا للحصول على المال...

-هناك نماذج من كتاب يعيشون من الكتابة، ويحصلون على مال من خلال الكتابة. يمكن أن أشير إلى الطاهر بن جلون من المغاربة، وهناك من الفرنسيين جان جينه.. طبعا، الطاهر كرس حياته للكتابة، جعل منها حرفة..
-بالفعل، الطاهر يكتب منذ ثلاثين سنة، وكتب أربعة وعشرين رواية.. ويمكن له الآن أن يعيش من حقوق التأليف. هناك أيضا الشرايبي، لكن الشرايبي قد قضى ثلاثين سنة من عمره وهو منتج بإذاعة quot;فرانس كيلتيرquot;. قضية الجانب المادي من وراء الكتابة. لست أعرف كم يطبع جيليار من نسخة من كل كتاب، ولا أسأل عن ذلك. ذات مرة كنت أتناول طعام الغداء مع quot;برنار باروquot;، وهو مدير جيليار، فقال لي، quot;فؤاد لم يحدث أن سألتني كم بعنا من كتاب، وهل بعنا الحقوق إلى التلفزة؟quot; إلخ.. قلت له، quot;لا أطرح الأسئلة لأنني أكتب لأسباب تتغير.quot; عندما كتبت quot;أسنان الطوبوغرافيquot; كان وراء الكتابة شيء من الأنانية، شيء من تحقيق الذات، من حب الذات، لأنني أردت أن أكتب شيئا. فلم أفكر في قارئ معين، في شيء معين، في هدف معين أو رغبة في تغيير شيء ما، بل فكرت في نفسي أنا. ثم بدأ الناس يتحدثون إلي، بدأت أتوصل برسائل ويسألونني لماذا تصرفت الشخصية الفلانية بالطريقة المعينة، ما الفكرة الأساسية التي تحكمت في كتابتك لهذه الرواية.. وذهبت إلى المغرب، لأنني لم أزره منذ عشر سنوات، ولاحظت أن الناس أرادوا التعرف على وجهة نظري في الرواية المغربية المكتوبة باللغة الفرنسية، وعلى الاقتصاد المغربي، والمجتمع المغربي، وعلى كل شيء، تقريبا.. فشعرت بنوع من المسؤولية، فعندما تكتب رواية وتنشر، وتقرأ تصبح لك مسؤولية.. يجب أن تزن كلامك، لأن آراءك ووجهات نظرك تؤخذ بعين الاعتبار. ثم هناك أمر آخر يجب الانتباه إليه، فهناك عدة أشخاص لهم أفكار مهمة، ولكنهم، لظروف خاصة، لم يشتهروا لأنهم لم يكتبوا، ولكنك أنت كتبت. لكن، هذا لا يعني أنك أهم منهم أو أحسن منهم، لأن ما حدث هو مجرد حادث طارئ، صدفة. الرواية الثانية والرواية الثالثة كتبتهما لأنني رغبت في تدشين حوار، في المغرب، مع المغاربة عن المجتمع المغربي. وهذا يبين أن الجانب المادي في عملية الكتابة ثانوي [ضاحكا]، أو هو غير حاضر البتة في عملي. الجانب المادي، أحصل عليه من عملي بالجامعة في أمستردام، ومن مشروع آخر، لكن الكتابة تمكنني من الدخول في حوار مع المغاربة حيث نتبادل الحديث: أن يوجه إلي القراء النقد. والحوار قائم، وهذا هو هدفي من القراءة الآن، والاستمرار في الكتابة هو استمرار في الحوار، وتطوير له. ومحور هذا الحوار هو المغرب، ودور المغرب في العالم، واختيارات المغرب، ومستقبله.. هذه القضايا جميعها، لا يمكن أن تتحقق من دون وجود حوار بين المواطنين المغاربة، كل المغاربة.. والأدب والفن كله حوار. وحين يتحاور الثلاثون مليون مواطن مغربي مع صدور كل رواية جديدة، أو تقديم مسلسل، أو برنامج على الشاشة المغربية.. فهذا من علامات التطور.

-هل لديك طقوس للكتابة، هل تكتب في وقت معين، في مكان معين..
-هذا سؤال مثير، مثلا بلزاك كان يكتب ليلا، ويشرب القهوة، الطاهر بن جلون يستيقظ في الصباح، ويشرع في الكتابة منذ الساعة التاسعة حتى الواحدة بعد الزوال. الكتابة عنده تخضع لنظام دقيق، ونوع من ضبط النفس، إلخ.. كل واحد له طقوسه الخاصة به. بالنسبة لي، أكتب في أي وقت، أكتب في الميترو أو في القطار أو في المنزل، وأشرع في الكتابة عبر جملة أعجبتني أو أثارتني، يمكن أن تسميها إلهاما أو وحيا.. لكن البداية تكون من جملة، أكتبها، ثم أستمر في الكتابة كأنني دخلت في عملية جذبة، وتستمر الكلمات والجمل والفقرات في التهاطل علي، وأنا أكتب من دون شعور، وعندما أتوقف عن الكتابة أكون كأني استيقظت. وعندما استيقظ أرى أمامي ثلاث أو أربع صفحات مكتوبة. بعد ذلك، أشتغل طيلة يومين أو ثلاثة أيام بالرياضيات أو الاقتصاد [ضاحكا]، ثم أعود إلى تلك الصفحات الثلاث أو الأربع، أقرأها وأقول سأستعملها في الرواية الرابعة أو الخامسة أو السادسة، لأن لدي مشروع روايات: رابعة وخامسة وسادسة.. أحدد الرواية التي سأوظف فيها هذه الصفحات التي كتبت.

-كأنك تشتغل على مواضيع، وهي التي تحدد العمل الذي ستنضاف إليه الصفحات التي كتبت..
-[مقاطعا]، نعم، اشتغل على تيمات. فهي تنتمي إلى الفكرة الأساسية التي تحدثت عنها قبل قليل. تظل الفكرة تختمر سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات، مثلا أقول إنني أريد أن أكتب رواية عن التسامح. عدا ذلك تظل الكتابة تتحكم فيها الصدفة.

-كيف نبعت فكرة كتابة رواية quot;حذار من المظليينquot;؟
-[ضاحكا]، لما عدت إلى المغرب، سنة (1985)، سكنت بالدار البيضاء خمس سنوات، وكنت أسكن وحدي، وكان عدد من الناس يسألونني كيف تسكن بمفردك، وليس هناك زوار.. ولاحظت أن فكرة الشخص، الفرد، لا وجود لها في فكرنا، لا قيمة لها.. يجب أن تعيش في مجموعة حتى تحصل على هذه القيمة. قلت، هذا أمر عادي، لنا أفكارنا، وللغرب أفكاره، لنا طبيعتنا، وله طبيعته.. الغرب ليس أحسن منا، ولسنا أحسن منه [ضاحكا].. في المجتمع الغربي، الفرد هو أساس المجتمع، وفي مجتمعنا الفرد.. [باحثا عن نعت معين]..

-[مقترحا]، أو الشخص الاجتماعي هو الأساس..
-بالضبط، الشخص الاجتماعي هو الأساس.. ثم شرعت أفكر في الأمر التالي: المغرب، إذا أراد أن يتطور ويلعب دورا في الاقتصاد العالمي.. نحن نريد أن نُصبح بلد التطور والتقنية والتقدم، نريد أن يحصل طلبتنا على ذلك من الغرب، إذا يذهبون إلى الخارج، أوربا أو أمريكا، ويعودون حاصلين على شهادات تثبت أنهم مهندسون.. وسنتقدم. لكن لا يمكن أن تتطور وتنافس الغرب إذا لم تقم بثورة ثقافية، فكرية.. وأساسها هو حرية الفرد، تَقَدَّم الغرب عبر أشخاص.. ديكارت، وكتابه quot;قضية منهجquot;، أو الثورة الصناعية التي انطلقت في انجلترا.. هناك دائما شخص لاحظ مشكلا وقال في نفسه إنه سينبري له، ويجد له حلا.. دائما هناك شخص واحد، فرد هو الذي يلاحظ هذا المشكل، وهو الذي يفكر فيه، ويبحث له عن حل.. وإذا ما أردنا، نحن أيضا أن ندخل سوق المنافسة التقنية والعلمية.. يجب علينا أيضا أن نعطي الأولوية للشخص، للفرد.. هذه هي النقطة الأولى للانطلاق، للانطلاق نحو النهضة. ما العمل إذا؟ أنا لا يمكنني أن أكتب كتابا في مجال الفكر، أو العلوم الاجتماعية.. هذا ليس مجال اختصاصي. أنا رغبت في أن أكتب رواية، تتناول زوايا مختلفة، يمكن أن تقدم بعدا بهلوانيا، أن نثير ضحك القارئ، أو دموعه. أكتب رواية تقدم فكرة الجماعة، الفرد.. وهي ستثير تفكير القارئ فيقول بينه وبين نفسه: هذا مشكل من مشاكل مجتمعنا. وهذا هو هدفي من كتابة الرواية وغايتي.. أن أثير هذا الموضوع وأجعله جزء من اهتمام القارئ. لما عدت إلى المغرب، لاحظت أن الناس/المغاربة يأكلهم التعجب حينما يلاحظون أن شخصا ما يريد أن يعيش كشخص، وليس كفرد من مجموعة..

-وهذه هي الملاحظة التي لاحظها العم حينما حل ضيفا على المهندس quot;ماشانquot;، فلاحظ أنه لا يتحدث، وتساءل هل هو على هدى من الله أم لا، أي هل هو عاقل أم ليس كذلك.. هو يختلف عن العامة الذين يكثرون من الحديث، يقدمون معلومات كثيرة في وقت وجيز.. قد لا تسأل فردا وهو يقدم لك أكبر قدر من المعلومات سمعها من شخص آخر..
-[ضاحكا بقوة]، طبعا. وهذه نقطة أساسية أيضا. إذا طرح عليك فرد سؤالا، يجب أن ترد عليه بجواب خاص، وليس بجواب سمعته من شخص آخر، قبل يوم أو يومين. فالذين يتوفرون على سؤال لكل جواب، وعلى حل لكل مشكل، هؤلاء آدميون لا يفكرون. هم يكررون ما سمعوه في الصباح أو في المساء من شخص آخر، هم لا يفكرون كأشخاص. فالشخص، يصمت أكثر مما يتكلم، يفكر قبل أن يجيب. فشخص المهندس quot;ماشانquot;، كثير السكوت، وحينما يتحدث معه شخص آخر يظل صامتا لأنه يفكر في الجواب. والناس يلاحظون أنه لا يتكلم، وأنه [ضاحكا بقوة] ليس عاديا..

-لكن قضية الفردية، أو المرء كما توصل إلى ذلك المهندس quot;ماشانquot; لما بحث في القواميس العربية، تستقطب الانتباه انطلاقا من القولة التي تفتتح بها الرواية (لستيفان زفايگ): quot;وحده المرء/الفرد يدخل الاستقلالية إلى العالم، ويفعل ذلك لصالحه وحدهquot;.. وتركز على عبارة quot;وحدهquot;.
-نعم، هناك تركيز على عبارة وحده، ولكن المرء حين يدخل الحرية لصالحه وحده، ولو كان لكل واحد درجة من الحرية في تفكيره، وسلوكه.. فالمجتمع كله سيتقدم. لاحظ مشكلا كالتلوث، هو آفة، ولكن صانعها فرد/مرء. هو يبدأ من سلوكي أنا كفرد. لو كنت شخصا، إنسانا حرا، فأنا لن ألوث بيئتي، ومحيطي، ولو لاحظت أن كل الناس يلوثون محيطهم. أنا لن أقوم بما يقومون به، لو كان كل واحد أخذ القرار مثلي، كنا كمجتمع ينشئ مجتمعا لا يعاني من التلوث، وقس على التلوث كل المشاكل الأخرى التي يعاني منها المجتمع. الإنسان الحر قادر على الفعل في مجتمعه، وقادر على تطويره.. فالفرد، بالرغم من خدمته لمصلحته، وإدخاله للاستقلالية إلى العالم لصالحه وحده فهو سيفيد المجتمع.

-ولو أنه، في هذه الحالة، القيم الغربية هي التي قد تنتصر، وعلى رأسها النزعة الفردانية. وهي قيم مرتبطة بالنظام الرأسمالي وفلسفته..
-صحيح، أنت على حق. ففكرة الشخص والمرء هذه، كانت هي التي أنشأت الليبرالية وهي التي ولدت الرأسمالية. في الستينيات والسبعينيات، كان لنا نحن نظام أو نموذج آخر، وهو نظام أو نموذج روسيا، نموذج الاشتراكية والشيوعية.. وهو نموذج جديد نسبيا..
-
-[مقاطعا]، وهو نموذج المثقفين فيما يسمى بالعالم الثالث، عامة..
-بالفعل، كان نموذجا سائدا في العالم الثالث، بشكل عام. في الستينيات والسبعينيات، لو تحدث شخص عن وجوب إعطاء الأولوية للفرد، لقيل له أنت رأسمالي تريد أن تعطي الأولوية للفرد والشخص، بينما نحن نعطي الأولوية للمجتمع. لكن، (Je le regrette)، [ضاحكا] المجتمع الاشتراكي والشيوعي في (1989)، مع انهيار جدار برلين، اختفى هذا النظام أو النموذج أو لم يعد حاضرا بقوة. وكذلك المجتمع الذي يسنده. ولا يمكن أن نتحدث عنه الآن أو نمتدحه. هذا غير ممكن.. فالعولمة، نظامها الأساسي هو الليبرالية، النظام الليبرالي. أنا لا أرى هذا النظام عجيبا، وأمدحه، بل أنا ألاحظ هذه الأشياء. (Crsquo;est une constatation). النظام الليبرالي، هو الموجود الآن، وما كاين غير هو، والعولمة هي هذه، هي النموذج الليبرالي، وإذا أردنا أن نلج العولمة، أن نلعب دورا في قلبها يجب أن ندخل في هذا النظام الليبرالي. وأنا لا أقول أن هذا النظام أحسن من نظام آخر، بل هذه حقيقة اليوم..

-المهندس quot;ماشانquot;، في هذا الاسم ضرب من اللعب بالكلمات، ضرب من السخرية، وهذا ملاحظ في معظم كتاباتك: منذ quot;أسنان الطوبوغرافيquot;، إلى quot;أي حب جريجquot;، إلى روايتك الثالثة quot;حذار من المظليينquot;.. هناك لعب بالكلمات، بالجمل، ردود الشخصيات وأجوبتها.. قد نعود إلى هذا الجانب بعد قليل، لكن نتوقف الآن عند الأسماء واختيارها. quot;ماشانquot;، تدل على فلان، أي شيء.. حتى لا نمنح شخصا ما اسما. هو شخص عادي، لا قيمة له، لا جوهر له في ذاته..
-منبع هذه الفكرة أن المهندس quot;ماشانquot; عاش عشر سنين في الغرب ولما عاد إلى المغرب لم يرد أن يكون شخصا له اسم، يعرف من خلال اسمه، من هو وما قيمته في المجتمع.. في المغرب، غالبا عندما تجالس شخصا أو تلتقيه [ضاحكا] يسألك من أنت، ما اسمك، من هو والدك؟.. quot;ماشانquot; لم يرد أن يكون له اسم [باحثا عن كلمات أو مطاردا فكرة]..

-[مقاطعا]، حتى يبقى مستقلا بذاته.. قيمته في ذاته، اسمه هو المهندس quot;ماشانquot;..
-بالفعل، حتى يبقى مستقلا، لا يستقي قيمته من أبيه أو غيره.. لذلك اسمه المهندس quot;ماشانquot;، هذه هي النقطة الأولى التي اخترت من أجلها هذا الاسم.. وهناك شخصيات اخترت لها الحروف الأولى من أسمائها، فهي بدون أسماء..

-وهناك شخصيات منحت أسماء شخصية فقط من دون أسماء عائلية، حتى لا تحيل على دلالات معينة أو سلط محددة..
-طبعا.. [ضاحكا]..

-ثم هناك ألقاب تدل على شخصيات.. مثل السيجار.. ألقاب يبررها سلوك الشخصية.
-[ضاحكا]، إذا أردت أن تكتب رواية ورغبت في أن تقدم من خلالها براهين وأدلة، عليك أن تمنح كل شخصية من شخصياتك دورا واحدا يؤديه ولا يجب أن يكون البعد السيكولوجي فيه معقدا جدا. فإذا اخترت ثلاث شخصيات وكانت جميها تتمتع ببعد سيكولوجي معقد جدا، كل واحد سيكون quot;مزيان وخايبquot; بزاف، (Optimiste et pessimiste)..

-وستعاني هذه الشخصيات من التشابه..
-[مقاطعا]، بالفعل، ستعاني من التشابه، وهذا مضر بالرواية..

-يجب أن يتمتع كل واحد بخصوصيته، خصوصية شخصيته، وفي ذلك غنى الشخصية..
-نعم، حتى يمثل كل واحد نموذج (un archeacute;type)، مثالي، أصلي حتى نقول هذا دوره رئيس المعمل، هذا دوره هو المثقف، وهذا الشخص الذي لا يعاني من أي مشكل، لكل دوره المحدد، الواضح من الأول حتى نرى التفاعل والصراع بينها.. المهم في العمل الروائي هو التفاعل بين الشخصيات..

-من هم الكتاب الذي أثروا فيك بشكل معين، ولعل عناصر الجواب نلمسها من خلال قراءة نص الرواية، هناك (فولتير)، (روسو)، (هيجو).. وهؤلاء فرنسيون. وفولتير معروف بقوة السخرية التي تنضح بها بعض نصوصه.. وهناك اهتمام بالأدب الروسي من خلال الإشارة إلى (دوستويفسكي). ثم هناك هذه الإشارة التي مفادها أن العبقرية ظاهرة عالمية.. لذلك سيجد المهندس quot;ماشانquot; نفسه قريبا من رواية (دوستويفسكي) quot;الزوج الأبديquot;، من رواية quot;الفرس...quot; (لبيير جاكيز)..
-بالفعل، أوافقك في كل ما ذهبت إليه. في وقت معين، تبين الرواية إحساس المهندس quot;ماشانquot; بأن المشكل الرئيسي الذي يعاني منه هو كشخص هو مشكل اللغة. فقد لاحظ أن ما يربط بين الناس هو اللغة، هو هذه المرجعيات. ثم تساءل كيف يمكن أن أكون شخصا مستقلا حين أجد مراجعي في العالم كله في هؤلاء العباقرة، الذين أشرت إليهم الآن، وهم الذين لا ينظرون إلى اللغة كجدار. (فدوستويفسكي) يكتب بلغة أخرى، وأنا كشخص، كمغربي أقرأ (دوستويفسكي) وأفهمه وأتعلم من نصوصه وأستفيد من قراءته أكثر من قراءة نصوص كاتب آخر يكتب بلغتي، ولكنه لن يعلمني شيئا يذكر. وهنا تتجلى عبقرية (دوستويفسكي)، وعبقرية (بروست)، وعبقرية (فولتير).. هذه هي الفكرة الرئيسية الخاصة بفصل اللغة، لغة الأم..

-وهناك تأمل حاد في مسألة لغة الأم، فالمهندس quot;ماشانquot; عندما يفكر في لغة الأم يقول بينه وبين نفسه، أنا ليست لي لغة الأم، لأن أمه كانت تتحدث بالدارجة، وتبين الرواية أن الدارجة المغربية ليست لغة، لماذا؟ لأن مجمل الناس، مثل أم quot;ماشانquot; يتحدثونها، وهي تتشكل من خليط من العربية والفرنسية والأمازيغية والإسبانية..
-هذه قضية مهمة جدا. وقد توصلت برسائل كثيرة حول هذه القضية، وحاسبني الناس عنها.. ولكن في هذا الفصل، وفي البداية حينما يسأل quot;ماشانquot;: quot;ما هي لغتك الأم؟quot; فهو يرد بالكلام لذي أشرتَ إليه الآن. يقول ليست لي لغة الأم، لأنني لا أعتبر الدارجة المغربية لغة. ولكن، فيما بعد، يضيف ولكن اللسانيين سيقولون لي quot;أخطأت، هذه لغةquot; ولكن وجهة نظري أنا شخصيا هي أن الدارجة المغربية هي لغة، طبعا. ولكنه هو في البداية يبدأ، من خلال الحوار، هذه ليست لغة. لكن بعد ثلاث جمل أو أربع سيقول لنفسه: quot;اللسانيون سيقولون إنها لغةquot;. فيما بعد، سيقول: quot;سأغير وجهة نظري، وسأعترف أنها لغتي الأمquot; ولكنني أنا كشخص، كمهندس quot;ماشانquot;، أعرف أن تلك اللغة ليست لغتي، وهذا يعود إليه كشخص، كتاريخ خاص، لأنه لما كان صغيرا كان يتكلم فقط باللغة الفرنسية. درس بالمدرسة الفرنسية، ودرس بليسي البعثة الفرنسية.. وهكذا اتخذ المشكل بعدا آخر. في البداية، كان المشكل هو أن الدارجة المغربية ليست لغة، ثم فيما بعد، يقول فعلا هي لغة، ولكنها ليست لغتي الأم أنا. أنا أدرت أن أركز على هذا الأمر، معك، لأن كثيرا من الأشخاص، قرأوا الرواية أو لم يقرأوها، يقولون هذا السيد يقول الدارجة المغربية ليست لغة.. [ضاحكا]..

-سيثير quot;ماشانquot; مرة أخرى قضية اللغة مع المراسل [زوج خالته المسئول عنه أمام إدارة المؤسسة التربوية الأجنبية: ثانوية الليوطي] الذي كان يزوره وهو يدرس..
-هذا المقطع حزين جدا، لأنه من المفروض أن طفلا صغيرا، لا يتجاوز عمره الثلاثة عشر ربيعا، يدرس بثانوية (ليوطي) في الدار البيضاء، ولا يتكلم إلا اللغة الفرنسية، ولا يتكلم العربية، يزور بيت زوج خالته، كل يوم أحد، يأكل ويشرب هناك ولا يتحدث إلى أي أحد منهم.. لا يقدر..

-لذلك هو يجيب بنعم..
-نعم، [ضاحكا]. هذا المقطع يبين الدور الأول للغة، فهذا الطفل أمام أفراد العائلة الذين يحسنون إليه، ولا يملك لغة كي يشكرهم. فالمهندس quot;ماشانquot;، في هذا المقطع، يراجع فصولا من طفولته ويشعر أن الأمر يمثل تراجيديا. لما كان صغيرا لم يكن يمتلك هذه اللغة التي تربطه بالمغاربة، حتى لا أقول بالشعب المغربي، لأنه كان معزولا، كان يدرس في مؤسسة البعثة الفرنسية، ولكنه لم يلتق بشخص يقول له: quot;طيب، أنت تدرس بمؤسسة من البعثة الفرنسية، وهذا أمر جيد في حد ذاته، لكن لا يجب أن تنسى أن اللغة العربية أكثر غنى من اللغة الفرنسية، وأنها وعاء ثقافة عميقة، وأن اللغة العربية الكلاسيكية، كانت لغة العلم والفن في الأندلس..quot; لا أحد أخبر المهندس quot;ماشانquot;، خلال طفولته وهو يدرس بالبعثة باللغة الفرنسية بذلك، وهو كان يظن أن اللغة الفرنسية هي لغة التقنية، هي لغة العلم، هي لغة المستقبل، هي لغة الحضارة.. ولا أحد صحح له هذه المعلومات/الأخطاء.. لا أريد أن أطيل في هذا الجانب، فهذه قضية شخصية بالأساس، حدثت لي.. عندما ذهبت إلى فرنسا لم أكن قادرا على التحدث باللغة العربية. وهناك شرعت أتردد على المتاحف، المعارض، فأدركت يومها غنى الحضارة العربية، واللغة العربية.. وشرعت أتعلمها بالاعتماد على الذات. لكن لم التق أبدا أحدا، ولا أخبرني أحد، يوما، بغنى اللغة العربية وحضارة أهلها.

-على مستوى شكل الكتابة، يلاحظ إلى جانب تحديث وتجديد الكتابة حضور جوانب تبدو كلاسيكية بحكم علاقتك بالنصوص الروائية الكلاسيكية للقرن التاسع عشر، من ذلك عنونة فصول الرواية. وهي تحتوي على عشرين عنوانا لعشرين فصلا، وهناك عناوين داخل الفصول، أيضا. في القرن التاسع عشر، كان الروائيون يقدمون للقراء مفاتيح للقراءة والتتبع والفهم..
-وأنا ابن السادسة عشرة قرأت نصوص (ديدرو)، quot;جاك القدريquot;، كأنني ألقي بي في عالم غريب. هي رواية عظيمة بالفعل، فأنت تقرأ (ديدرو) المؤلف يقول للقارئ، إننا، أنت وأنا، نؤلف هذه الرواية، ولست أنا بمفردي. فهناك حوار بينهما. هاهو جاك، هاهو خادمه، أين تريدهما أن يذهبا؟ نحو اليمين، نحو الشمال؟.. لما قرأت quot;جاك القدريquot;، فهمت أن المؤلف لا يمتلك كل الأجوبة، والقارئ يجب عليه أن يدخل عالم الرواية ويضيف إليها شيئا ما. الرواية، تشبه لعبا معينا، وأنا أكتب، أشرع في كتابة فصل معين، جديد، أقول للقارئ: quot;سنتوقف هنا، لكن ما رأيك لو انتقلت لموضوع آخر؟ مشكل آخر؟ ما رأيك في هذا الموضوع/المشكل؟quot;، ثم أقدم له الموضوع/المشكل المقترح في شكل عنوان جديد.. كأنني كنت أتكلم مع شخص آخر، وأقول له في البدء سنتكلم عن هذا الموضوع، لكن الآن سنتوقف، وسنتكلم في موضوع آخر، ما رأيك في القضية الفلانية، وأنت تتحدث إليه، تتذكر أمرا آخر، فتقول له: quot;آه، تذكرت الآن قصة، حكاها لي شخص التقيته، صباح اليوم، في القطار، وتوقف ما كنت تتحدث عنه، وتقول: quot;ها هي القصة التي حكاها لي ذلك الشخص، في القطارquot;. ثم تحكي قصة الشخص الذي التقيته في القطار، ثم تعود إلى الموضوع الأساسي، كأنك كنت في حوار مستمر مع القارئ..

-شكل جديد من الواقعية..
-تقريبا، شكل جديد من الواقعية، واقعية معقدة جدا. لا يمكنك أن تقول إنني من الصفحة الأولى إلى (188) سأحكي لك قصة واحدة، من البداية حتى النهاية. القصة جاهزة بكل تفاصيلها وأسئلتها، ولا يجب عليك إلا أن تقرأ. هذه القراءة السلبية غير ممكنة، العالم معقد ولا شيء فيه بسيط حتى تكون القصة بسيطة. المشاكل معقدة، متشابكة، وعلى الروائي أن يحترم هذا المعطى.. ككاتب سأقول لي بعض القصص سأحكيها لك، أنت القارئ، ولي وجهة نظر، ولكن وجهة النظر سيعتريها تغير أثناء الكتابة. فقد قدمت لك قبل قليل مثالا منها عن لغة الأم، في الأول كانت الشخصية الرئيسية تقول عن لغتها الأم، هذه اللغة ليست لغة، ثم تغيرت وجهة نظره في الصفحة ذاتها.. [ضاحكا]..

-بل الأم ستتطور وجهة نظرها، وفكرتها لأنها ستصبح لها لغة أخرى حين ستقرأ رواية (لمازو دو لاروش) بأجزائها الستة أو السبعة، وتعيد قراءتها مرات..
-معلوم. فأنت مثلا ستستيقظ مع الصباح، تلتقي خلال يومك ستة أشخاص أو سبعة فتتغير وجهة نظرك عدة مرات، في قضايا معينة.. وذلك أمر يعتري الكاتب نفسه، فأنت عندما تكتب جملة، وعندما تنتهي منها ستقول بينك وبين نفسك: القارئ سيقول هذه الجملة فيها تكرار، علي أن أفاجئه ببعض الجديد هنا، ثم تقول هل سأعود إلى بداية الكتاب لأغير هذا أم أعود إلى بداية الفصل أم الجملة وأكتفي بتغييرها هي فقط؟ لن تعود، ستستأنف الكتابة، لكنك ستبين للقارئ أنك تغيرت من خلال ما تكتب في تلك اللحظة والتي تليها.. ستكون قد غيرت وجهة نظرك لما أخذت بعين الاعتبار القارئ.

-لذلك السبب تتناسل القصص أو الحكايات الصغيرة في ثنايا الرواية من ذلك مثلا لما رغب ماشان في تقديم شكوى ضد بوعزة ذهب إلى قسم الشرطة، حكى له الكوميسير حكاية أخرى، مما يبين أن السرد وحكاية القصص وظيفة يتقاسمها أفراد المجتمع على اختلاف مستوياتهم..
-[ضاحكا]، عندك حق، لأن مجتمعنا مجتمع حواره وحكمته الشعبية تقوم على الحكايات والحكم والعبر.. وما أقوله قد ينتقده بعض القراء، لكن هذه هي فكرتي الراسخة. في الغرب، يعتمدون على التحليل، إذا طرح عليك مشكل تحلله، ثم تستخلص منه حلا، في مجتمعنا، وهذا شيء رائع حقا، كل شيء يقوم على الحكاية، على الحكم.

-على أدب الأمثال..
-على أدب الأمثال، بالفعل، فإذا اشتكى لك شخص من مشكل معين، فإنك ستبحث له عن وضع مشابه لما اشتكى منه، تبحث عن عبارة أو تحكي له حكاية تشبه ما يعيشه أو يعاني منه، فيلاحظ هو نفسه التشابه ويستقي العبرة بنفسه، والحل... وهذا يبين أن ثقافتنا نحن، المغاربة والعرب، هي ثقافة شفاهية. نلجأ دائما إلى حكي القصص. وأنا بالرغم من أنني أكتب باللغة الفرنسية، فأنا على علاقة قوية بالثقافة العربية، المغربية، الشعبية فأقوم بسرد عدد من القصص والحكايات الصغرى، كما لاحظت أنت ذلك.

-ثم قد يبدو هذا من خلال المزج أو الزواج بين الأسماء: quot;مولاي ماشانquot;، quot;سيدي تريكquot;..
-[ضاحكا بقوة]، هذا جانب آخر من القضية، وهو الفرق بين من يكتب بالعربية والفرنسية، ليس هناك فرق كبير أو نهائي.. (فالطاهر بن جلون) نفسه في كتابته، في أسلوبه، كما لاحظت ذات مرة حضرت خلالها عرضا للبروفيسور (أندري ميكيل) الذي كان يدرس بالكوليج دو فرانس قال فيه إن (بن جلون) كاتب عربي، وليس كاتبا باللغة الفرنسية، لأنه بالرغم من أنه يكتب باللغة الفرنسية فأفكاره عربية.. وكذلك أنا من خلال استعمالي الحكمة الشعبية، كثرة القصص.. حتى أبقى كاتبا عربيا، مغربيا.

-ثم هناك مستوى لغوي مغربي أو استعمال خاص للغة الفرنسية من لدن المغاربة... أي هناك حضور المغرب في اللغة الفرنسية أو إضفاء الطابع المغربي على اللغة الفرنسية، من خلال تغيير اللغة الفرنسية التي يتحدث بها الفرنسيون أو يستعملونها..
-بالفعل، هناك فرنسية خاصة بالمغاربة وبالكتاب المغاربة.. لأنهم كتاب مغاربة يكتبون باللغة الفرنسية..

-ثم هناك قضية مهمة جدا، وهي قضية حضور الأدب، منذ الرائد (إدريس الشرايبي) فالأب في هذا الأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية يقدم نموذجا للظلم والغطرسة والغضب والقسوة.. ونلمس ذلك في روايتك هذه، لحظة دخول العم بيت المهندس ماشان سيتذكر صورة الأب، ويقول بأنه لم يتذكر أنه تحدث إليه، وكان دائما يخشى لحظات غضب الأب وتسرعه في التصرف..
-أنت على حق، حين أقول إن هذا مشكل، بل أقول إن هذه خاصية تميز دور الأب في ثقافتنا وفي مجتمعنا. مجتمعنا أبوي، بالرغم من أن (فاطمة المرنيسي)، و(غيثة الخياط) وغيرهما يقلن إن مجتمعنا ليس أبويا..

-بل هو أموي..
-نعم، هو أموي كما يقلن.. لكن لكل وجهة نظره، ووجهة نظر (فاطمة المرنيسي) تحترم، لكن كل واحد في المغرب يريد أن يكتب أو يدرس.. يلاحظ أن وجود الأب.. في رواية (الشرايبي)، quot;الماضي البسيطquot; التي تبدو رواية عن الحداثة والتقليد، لكن تبدو رواية عن رفض الأب، وهجرة البلد إلى الخارج ليتحرر من الأب. وأنت محق فيما ذهبت إليه، (فالشرايبي) ثم (بن جلون) الذي كتب كتابا عنوانه quot;يوم صمت في طنجةquot;، و(محمد خير الدين) الذي تحضر في مجمل نصوصه صورة الأب.. كل هؤلاء يقدمون الدليل على طغيان صورة الأب القاسي في هذا الأدب.. هذا أمر صحيح.

-ويبدو أن هذا الحضور الطاغي للأب في الأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية يشكل تيمة خاصة بهذا الأدب..
-بالفعل، وهناك في الأدب العالمي ما يسمى بالتيمات الكونية، وما يقابل هذه التيمة في الأدب العربي هو حضور الأب.. ولعل إدراجي صورة الأب أو فكرة الأب في روايتي quot;حذار من المظليينquot; لأقول إذا رغب الواحد في التخلص من الأب والتحرر منه، وإذا أراد أن يكون شخصا مستقلا فيجب أن يكون مستقلا عن وجود الأب، يجب أن يكون شخصا بالغا.. وهناك نقطة أخرى في روايتي هي أن المهندس ماشان لا أب له، لأن والده توفي. لكن الرواية تحدثت عن والده، في أحد الفصول، وبينت أن صورته قاسية، لكن والده لا حضور له لأنه تخيله فقط. هو، في الحقيقة، غير موجود، لكنني أردت أن أتحدث عن الأب، فهذه لعبة حيث السارد تخيل والده، ولكنه لم يلتق به..
azioued1maktoob.com