م. ج. حمادي: يعتبر مهرجان السينما البلجيكي، في مدينة كَنت الفلامانية من 22ـ11 أكتوبر 2011، أحد المهرجانات الهامة في السينما الغربية خصوصاً، والعالمية عموماً. ومشاركة السينمائي العراقي المبدع قتيبة الجنابي، في فيلمه الأول، بادرة لها أهميتها، كونها المشاركة الأولى لفلم عراقي طويل (125 دقيقة) في مهرجان سينمائي له زخم ثقافي كبير في أوربا.
حمل الفلم عنوان quot;الرحيل من بغدادquot; وقد سبق وإن فاز بالجائزة الأولى، في مهرجان أفلام الخليج، في دبي عام 2011. وكان أول عرض له في أوربا هو مهرجان Raindance السينمائي عام 2011 _ انكلترا. وسيعرض أيضا في quot;بانكوكquot;، quot;أوكرانياquot; وquot;الهندquot;.
ورغم المستوى التقني والفني المرتفع للفلم، ومشاركة مجموعة من الممثلين المتميزين، فهو يعتبر من الأفلام ذات التكاليف القليلة. وكان التمويل ذاتياً من قبل مخرج الفلم، وبسبب استقلاليته، جاء الفلم يحمل الحرية الكاملة، حيث لا وجود لأي تأثير من أية جهة سياسية أو مالية.
الحرية تتحدث.
اللقاء الأول مع الجمهور البلجيكي
لأول مرة يصل فلم عراقي، بهذه الجدارة العالية، إلى مهرجان سينمائي أوربي، على خلاف ما كان يحدث من قبل، حيث كانت الدول الاشتراكية الخاضعة آنذاك لسيطرة موسكو، هي المضيف الوحيد للمنتج العراقي زمن الدكتاتورية.
ما فعله الفلم، كفلم سينمائي طويل، أنه وضع السينما العراقية، الغير معروفة، والمدمرة أصلا، على خارطة السينما الدولية، بما حمله من خصائص تقنية فنية رفيعة المستوى وعالية التطور : الجمالي والفكري. فكان لقاء الجمهور البلجيكي الذي ملأ قاعة عرض الفلم، ، لقاء المندهش المبهور، كونه لا يعرف شيئا عن السينما العراقية. لكن فلم quot;الرحيل من بغدادquot; وضع السينما العراقية بجدارة لتتصدر الأفلام الحديثة، لأنه صعق الجمهور بقوة حبكته التأليفية -التي تمكنت من الإمساك بمخيلة الجمهور الأوربي-، وابتعاده عن المشاهد التجارية المبتذلة.
فحين يحرك المخرج كاميرته، تجد لقطته لا تمت بوضعها التكويني، واللوني، بصلة إلى لقطات السينما التجارية، وتبتعد كثيرا حتى عن تلك الأفلام الروائية (الحكائية) الأخرى.
موسيقى الفلم كان جلها ضوضاء المكان، أو صوت مغن عراقي، صوت ريفي ـ وهو ما أضفى على الفلم مزيداً من الأصالة ـ أو موسيقى في حدها الأدنى Minimalisim، مؤثرة، ومكملة للمشهد.
فضوضاء الشوارع والماكينات، ماهي إلا كما وصفها quot;جون كيجquot; بأنها: quot;أعظم الموسيقى؛ لأنها دوما متغيرةquot;.
علينا أن نتذكر أن المخرج قتيبة الجنابي، في البدء، مصور فوتوغرافي بارع، لذلك جاء تحكمه، بكل لقطة، تحكماً مذهلاً ترك الجمهور في صمت وصدمة، إضافة إلى القصة المفجعة التي تعامل معها (المخرج)، حتى نهايتها المذهلة.
كل ذلك جاء بطريقة هادئة، وبتروِ حثيث ومحكم، يرافقه قلق وجودي غريب، يدفع المشاهد إلى التفكير والمشاركة، ويدفعه لمتابعة أحداث القصة، التي هي، في الأصل، ليست قصة بقدر ما هي حالة من التراجيديا الإنسانية المرعبة.
ليس هناك تسلية، كما هو حال قصص البيع والشراء، فالقصة هنا تطالب المشاهد أن يتابع ويتابع، بلا كلل، حتى يصل، في نهاية المطاف، إلى استنتاجات شخصية.
من خلال حديثي مع الجمهور البلجيكي، وعن انطباعاته، بعد انتهاء العرض الثاني الذي ازدحم كما ازدحم العرض الأول، قال لي أحد المشاهدين : quot;هذا لا يصدق، مرعب ولا يحتمل... وأن مستوى الإخراج عال وحديث. أمر لا يعقل أن فلم كهذا هو من بلد لم يعرف سوى الحروب والدكتاتوريةquot;.
أجبت على معظم الأسئلة، بأن قتيبة الجنابي مخرج عراقي مهم، وقبل ذلك فهو مصور فوتوغرافي بارع في إبداعه وحداثته.
في هذا البلد (بلجيكا)، الذي عشت فيه أكثر من 25 عاماً، وبعد كل هذه السنين، جاء فنان عراقي صادق وطيب القلب؛ ليمنحني مواساة لا تنسى، أراحت بعضاً من ألمي وحزني، على فقدان صديقي كامل شياع الذي قتل في 23 أغسطس 2008 ، ومقتل أخي يحيى الهاشمي، صديق كامل، بعد أسبوع من ذلك التأريخ، حيث قتله جيرانه وهو في بيته.
رسالة إلى العراقيين :
وضع هذا الفلم، أمام الجمهور الغربي، مأساة العراقيين الشرفاء المحطمين، المقتولين والمشردين.
على العراقي أن يشعر بالاعتزاز بمخيلة أبناءه الذين يكفيهم أن يكونوا بمستوى يواكب تطورات الفن العالمي، وأن هؤلاء الأبناء الذين يعيشون المنفى سيعيدون الوعي الذاتي، والارتياح للحياة.
إن الإبداع ممكن، وممكن فقط، مع الحرية، ومجالات العيش الطيبة، حتى مع طعم خبز التنور والحندقون وبضعة فرداتٍ من رطب البرحي المبارك، وغرفة ماء بالكف من دجلة والفرات، خالية من تلوثات الحروب وحطام الحياة والمدن. أما الأبطال الجهلة، أصحاب المسدسات والبنادق، وأصحاب مقولة: quot;ولكن تؤخذ الدنيا غلاباquot;، سيدركون أن الإنسان المتحضر لا يحتاج أن يأخذ quot;الدنيا غلاباquot;، وإنما بالحق الإنساني المتحضر؛ لأن حياة الآخر تستحق المراعاة والاحترام؛ فها هنا حين ينتهي الفلم لا ينتهي بمقتل المصور، وإنما بمشهد حلمه، كإنسان، أن يذهب مع أبنه إلى رؤية البحر.
قصة الفلم:
الفلم يحكي عن حياة رجل كان المصور الخاص للدكتاتور العراقي البائد وعائلته.
بطريقة ملتبسة، وغريبة، ينتمي أبنه إلى الحزب الشيوعي العراقي المناهض للسلطة الدكتاتورية، آنذاك.
تحت وطأة إيمان المصور بالقائد الضرورة، والحزب الواحد، يشي بمكان اختباء أبنه المعارض، على اعتبار أنه واحد من أفراد السلطة، وقريب من حلقة الدكتاتورية، وهو مؤمن كل الأيمان بالقائد والحزب.
لقد وعدوه بعدم اتخاذ أي اجراء، يضر بأبنه، إذا سلم نفسه للسلطات، وبناء على إيمانه الأعمى، اعتبر ذلك الوعد مقدساً.
بعد أن أمسكت قوى السلطة بابنه، حكموا عليه بالموت، ولم يكتفوا بذلك، بل أجبروا المصور على أن يقوم بتصوير عملية تنفيذ حكم إعدام ابنه، بقطع رأسة بالسيف.
تلك الطريقة ظلت شائعة، لسنوات طويلة، في تنفيذ قوانين الموت التي ابتدعها الدكتاتور وطغمته، من ذوي الشوارب الشبيهة بالشوارب quot;الستالينيةquot;.
واقعية جديدة Nouveau reacute;alisme
إذا كان الاعتبار المهم الذي أعطى لفلم quot;سعيد أفنديquot; كبداية لتاريخ السينما العراقية؛ فإن فلم (الرحيل من بغداد)، برأيي، هو البداية الحقيقية للسينما العراقية المعاصرة، ولم يظهر له مثيل، في الحقبة الأخيرة، من حيث المستوى الروائي والفني، ومن حيث مستوى الرؤيا المعاصرة.
هذا الفلم هو فعلا في منتهى الحداثة. حتى أن الكثير من اللقطات وكأنها عمل فني من أسلوب الواقعية الجديدة Nouveau reacute;alisme، و يذكرنا بالأفلام العظيمة للواقعية الإيطالية، لكنه أكثر حداثة في تكوين الصورة واللون، واستخدام الحوار والأصوات والموسيقى، وهو لا يروي قصة متسلسلة، كما يروي الفلم الإيطالي عن واقع الناس المسحوقين، وإنما يطرح حالة إنسانية تتطلب من المشاهد أن يساهم في إكمال بناء تلك الحالة.
هذا ما حدث بالضبط في واقعية الفن، في الأعوام التي تلت 1960، التي استفادت من موروث quot;مارسيل دو شامبquot; والدادية، حيث استخدمت أجزاء من ركام الحياة، والمواد الجاهزة، واستفادت حتى من البشاعة في تكوين الصورة.
مثلا حين يدخل البطل إلى بيت خرب، على الحدود الهنغارية، نرى أسرة محطمة وأفرشة متسخة، إلى حد بشع، ومواد وأدوات استخدمها بطل الفلم، أو أبصرها أثناء رحلته.
أطلعتنا الكاميرا، بشكل تفصيلي، على أدوات بلاستيكية؛ سكين، ملعقة وفرشاة أسنان، وكلها مثبتة برابط، على عمود الكهرباء، حيث ينام الرجل قريبا من سكك الحديد التي تسير عليها القطارات الراحلة إلى بودابست، أو العائدة منها.
إنها واقعية التفتت، والإلغاء التام للإنسان الذي يعيش تحت طغيان قوى غاشمة تسحقه ثم تصهره.
هذه الواقعية، بمنطوقها الحديث، هي التي يطرحها فلم قتيبة الجنابي، مع لقطات فنية محكمة، بمنتهى التجديد والحداثة التي لم يظهر مثيل لها في السينما العراقية، بفقرها المدقع.
وحين وقف المخرج قتيبة الجنابي، بزيه الفني المتميز، وشعره الأبيض المنفوش، مثل طائر النورس، ليعلن هنا حقائق مفزعة عن وطنه وأهله فقال: quot;ما شاهدتموه هو بعض الواقع الحقيقي الذي عاشه الإنسان العراقي، وشخصية الفلم هي شخصية حقيقية، أما الإضافات عن الدكتاتور وعن التعذيب والقتل، فهي مشاهد من أفلام واقعية قام بتصويرها أعضاء ومنتسبي الحزب الحاكم المبادquot;. إنها مشاهد تسجيلية كانت تظهر، في الفلم، حين يتذكر البطل الرئيسي أحداثاً من الماضي Flash Back، أو حين يهمَّ بكتابة رسالة، فبعد أن ينتهي بعضها، يأتي مباشرة مشهد عنيف؛ تعذيب أو قتل وحشي، وكأن هذا الرجل، الذي كان مصورا شخصيا للدكتاتور، قد قام بنفسه بتصوير تلك الأحداث.
اعتمد الفيلم الإيقاع البطيء، والحوارات المقتضبة، ومنذ البدء يشعر المشاهد أن الخوف هو سيد المكان الثقيل، وأن هذا الشخص ليس سوى كائن حذر مذعور وممزق من الداخل.
من ضوضاء السيارات العتيقة في شوارع بغداد، حيث الناس يعبرون الشوارع، من كل الاتجاهات، تصل بنا رحلة الكاميرا إلى تركيا وبلغاريا وهنغاريا.
ليس هناك تعبير بالإشارات أو الأسماء، كما تفعله تبسيطات السينما التجارية، وإنما بالمشاهد وبالتعبير بحركة الكاميرا.
من الفوضى، في بغداد، تصل بنا حركات العدسة، برحلتها البطيئة، إلى أماكن أخرى، فيرى المشاهد عربة quot;ترامquot; مضيئة نظيفة، تتحرك داخل المدينة، ونساء شقراوات، ومشهد كامل لكنيسة.
في النهاية يشرع المصور بكتابة رسائل إلى أبنه، وهي رسائل بدأها في بغداد، فيها لوم وعتاب لإبنه لأنه دمر حياته، ودمر علاقاته بالحزب وبالسيد القائد شخصياً.
يتحدث بطل الفلم بلغة المدح في رسائله؛ وهو ضمن حدود العراق، عن القائد والحزب، وأن ما فعله ابنه، بانتمائه إلى الحزب الشيوعي، هو تدمير لعلاقاته العظيمة ومنصبه الرفيع.
خلال هذا التنقل البطيء جدا نفهم أن زوجته قد تركت العراق قبله إلى لندن. وأثناء هروبه باتجاه لندن، ولأنه لم لم يكن يمتلك الأوراق الرسمية، ولا المال الكافي، يقع فريسة للمحتالين وعملاء سلطة الدكتاتور، الذين يستأجرون القتلة والمجرمين. حتى ذلك العراقي الذي يلتقي به، نكتشف أنه ليس سوى إمعة تعمل مع السلطة التي كان لها نفوذ قوي في الدول الاشتراكية، لأنها كانت تشتري هذه الدول بالملايين والبترول، فكانت هذه السلطة تستطيع الوصول إلى أي عراقي معارض وقتله، حسبما تشاء. أما في الدول الغربية الأخرى فقد كان نفوذها أضعف.
في رحلة الضياع والتشرد، امتنعت زوجته، المقيمة في لندن، عن إرسال نقود له، رغم ظروفه الحرجة، وكأنها كانت تريد معاقبته على فعله الشنيع الذي لا يغتفر.
يدفعه عملاء السفارة إلى الحدود الهنغارية، وثمة قاتل مأجور يظل يتبعه.
حين نرى قاتلاً مأجوراً يُحضر أسلحته الحديثة، يكون المصور الشخصي، للدكتاتورية المبادة، في غابة على الحدود الهنغارية، وهو يقاسي من البرد والرطوبة التي لا تطاق، ويكون وقتها قد وصل إلى كتابة رسالته الأخيرة، ومع التباطؤ العام لإيقاع الفلم، يحكي ذلك المصور كيف وشى بابنه إلى السلطة، وكيف أجبروه على أن يصور عملية إعدامه.
هنا يستخدم المخرج تسجيلاً حقيقياً، من الأفلام التسجيلية التي صوروها أعضاء حزب الدكتاتور، وربما كان الأب المصور، بذاته، موجوداً في مشهد قطع الرأس بالسيف.
فجأة يصاب بطء الفلم، وحواراته مع القليل من الموسيقى، ومغني عراقي ريفي يغني، خلفه نسمع بيانو أو ضوضاء، يصاب الفلم بانفجار بركاني صاعق.
مع انتهاء مشهد قطع الرقبة بالسيف، والمصور يراقب عيون ابنه الذي يمضي أمامه إلى اللحظة المرعبة، يأتي مشهد سريع لرجل يهرب، يبدو حجمه صغيراً في بانوراما الغابة الضبابية، وكأنه كمُ يمكن أن نهمله.
ما أهمية كل ذلك، بعد أن سلم ذلك الرجل ابنه للموت؟
لقد حطم نفسه، فتركته زوجته وهربت إلى لندن ورفضت مساعدته لأنه لم يساعد ابنها؛ وإنما فعل العكس سلمه كي يقطع رأسه بالسيف.
بعد هذا المشهد نرى العمق الإنساني عند المخرج، حيث ينتهي الفلم بسقوط المصور قتيلا في الغابة، بمشهد بحري غائم، لأن هذا الرجل وعد ابنه أن يذهب معه إلى البحر، ونرى سفينة تعبر في هذا الجو الضبابي، وكأنه بقايا حلم لإنسان دمرته تشوهات كبيرة، لا طاقة له بها، فضاعت حياته وحياة عائلته بمأساة كبيرة، مثلما ضاعت حياة ألاف العراقيين بسبب عنف وقسوة السلطة الدكتاتورية وما سببته الحروب العبثية والنزاعات البشعة.
فنان عراقي يعيش في بلجيكا
التعليقات