علي النجار:لم تختلف سيرة الفنان التشكيلي العراقي المغترب (أياد القاضي) عن سيرة العديد من أقرانه الفنانين العراقيين المهاجرين او المغتربين إلا في مستجدات سيرة حياته الاغترابية الخاصة. هذه السيرة التي حافظت على بعض من أهم روابطها الثقافية بجذورها العراقية، على الرغم من كل التغييرات التي مر بها خلال أقاماته العديدة، القريبة منها والبعيدة، وكذلك الجديدة المختلفة، والاختلاف وارد في تجربته، كون هذه التجربة الفنية لا بد وان تخضع بشكل من الأشكال لاختلافات مشهدية الوسط الفني الاغترابي الجديد. فالعمل الفني لا ينفصل في معظم الأحيان عن مستجدات السيرة وحتى عما خفي منها، كما أن السير العراقية استوت علنا في وقتنا الحالي الذي لا يحتمل ولا يحبذ أي خفاء في السيرة بعد رفع المحظور عنها.
وأنت تقيم أو تدرس في نيويورك، فلابد أن تخترقك صور الأنا في كل شارع ومنعطف، ولابد لذاتك أن تزاحم هذه الصور وإلا فإنها سوف تشطب أو تلغي صورتك. والصورة ذات، لكنها ليست أية ذات إن أنت حافظت على سلامة خطوطها الخارجية الأكثر حميمية. ففي وسط، كالوسط الفني النيويوركي، ليس هناك أسهل من الانزلاق حد ضياع الملامح. لكن، خيرة فنانينا الشباب الذين درسوا أو استوطنوا هذه المدينة استطاعوا ابتكار وسائلهم الخاصة، والذاتية معظم الأحيان، سواء كانت من داخل الوسط الجديد أو من مخلفات ارثهم المرتحل حيث ارتحلوا، هذا ما تخبرنا به أعمالهم (التي أشدنا ببعضها). و أياد القاضي هو الآخر من هؤلاء اللامرتحلين إلا مع مخلفاتهم.
إن افتتن أياد بالصور الشخصية (البورتريت) فان الأمر لا يخلو من ولع لمحاولة استعادة صورته الأولى التي يشك بأنه ربما سوف يفتقدها أو افتقدها في بعض من متاهات سيرته الترحالية اللا إرادية السيرة التي تحولت غالبا إلى سير جمعية بمرور الأزمنة العراقية المتعاقبة أو المتراكمة، هذا ما نلاحظه في معظم نتاجه إن لم يكن كل متأخره. لقد اشتغل على التكرار، صورة اثر أخرى، وجها اثر وجه آخر. لكنه بقي نفس الوجه وبنفس الملامح، وما اختلفت إلا النصوص الكتابية المدونة على القسمات. وان كان الفنان (وارهول) وفي مسعاه لتأسيس فن أمريكي شمالي شعبي، ابتكر اللقطات المتكررة لصورة الوجه مثلما في تقطيع المونتاج السينمائي، بكامرته وطباعاته، ومثلما فعل أيضا في صوره لبعض من منتج السوق الاستهلاكية أو الإعلامية، والسياسية الشعبية الصادمة. لكن إياد لا ينوي سوى تسجيل ارثه الشخصي ضمن الحاضر العراقي الذي سوف يتحول إلى ارث للقهر كما في رسومه أو مشخصاته المرسومة بهاجس الاستحواذ على أزمنتها وأمكنتها المفقودة أو المسترجعة فقدان مكرر يلازم تكرارها.
رسوم أياد الصورية لا تكتمل كما يضن إلا برابط اثري يعتبره جزء من ارث عائلته بامتداد جذورها التاريخية، وكنوع من الوفاء لهذا الإرث اشتغل على الخط العربي (1) نصوصا مختلفة المضامين وكحوامل أثرية أو تذكارية أو سياسية أو وجدانية، استل بعضها من حاضنها الأصلي لتستوطن كادر لقطاته المختارة كجزء فاعل ومؤثر في مشهديتها، وليس من اجل إضفاء لجمالية تقليدية متعارف عليها في الكثير من رسوم الفنانين التشكيليين العرب. تجربته هذه تختلف نوعا ما عن تجارب توظيف الخط والكتابة العربية في الأعمال التشكيلية العراقية، فهو لا يسعى للإلغاز ضمن حفريات العمل التشكيلي العالمي الحديث مثل الفنان شاكر حسن ال سعيد، ولا يسعى لإبراز القيمة الجمالية التزويقية مثل الفنان ضياء العزاوي. ما يسعى إليه هو إيصال الخطاب المزدوج لسلطة الصورة المرسومة و خطاب النص الموازي للمدون رسما. وان كان الهامش في النص الأثري وحتى المعاصر مفسرا، فان نصوص القاضي الصورية لا تبدو كذلك، بل هي تتبادل أدوارها من خلال المزج والإدماج وهيئة الصور المرسومة بما تستبطنه من معان ودلالات.
معظم رسوم أياد اعتراضية، وجدت طريقها لصالات العرض ضمن ظرف زمني ملتبس بحراكه الزمني السياسي. في البدء كانت له ضرورات فكرية انقلابية، بدأ من الحركة النسوية الثقافية والتشكيلية الإيرانية المغتربة المعاصرة التي رصدت الفصل ألقسري ما بين الجنسين بدعاوى دينية وبنصوص مرسومة ومدونة أو مصورة أو إيمائية، وانتهاء بأعمال تشكيلية عربية تناولت خطاب الإرهاب الملغوم دينيا. معظم هذه الأعمال وجدت لها حاضنا خارجيا وفر لمبدعيها حماية ضمن موازنات الألعاب السياسية وسلطة الخطاب الإعلامي. لقد تحول جسد الأنثى في هذه الأعمال إلى نصوص كاشفة لمخبوءات التابوات الكهنوتية المرتدية أقنعة الناسوت السياسي. ولم تقتصر الإضافات التي عمرت بها هذه الأعمال على التدوين ألحروفي على الجسد الأنثوي، بل شملت حتى العلامات الافتراضية للعديد من أدوات الزينة والمطبخ والفضاء النسوي الشرقي المستنسخ من أزمنة الحريم وواقع القهر أو القمع المتستر عليه. أياد القاضي انتبه لهذه الكشوفات البصرية الشرقية وأدواتها التواصلية النصية الفنية المعاصرة و وظفها ضمن ولعه المتأصل بالخط العربي، و استطاع آن يحجز له موضع قدم وسط هذه المساحة التشكيلية المفتوحة على الأنا والآخر، وبذل جهدا واضحا لان تكون له انتباهته الخاصة التي تعبر بشكل مطلق عن ذاته وهمه العراقي الحالي.
لقد اختلفت محمولات سطح العمل الفني التشكيلي المعاصر عن سابقه. واحتلت الصور الادهاشية والخيالية والتحريضية بمفرداتها المأخوذة من البيئة والمحيط المدني مساحة واسعة في الأداء المعاصر، كما اختلفت مشهدية هذه الصور، مثلما اختلفت محمولاتها الدلالية، و لم يعد للتقنية هالتها السابقة، فالتقنيات أساسا ابتكارات مرافقة للقيمة الأثرية، وآثارنا الآن توزعت ما بين الرهافة الحسية لالتقاطاتنا التفكيكية لجزئيات الواقع المعاش وأساليب هذه العيشة التي علبت غالبية متطلباتها. وان حافظ الإدهاش على سلطته الآن، فإنه وعلى ما يبدو امتلك سلطة ما، لكني اعتقدها سلطة موقتة أو موقوتة، سرعان ما تبدل أدواتها تحت ضغط تسارع مبتكراتها. واعتقد من هنا برز الانتباه إلا منابع تشكيلية ابتكاريه جديدة بعض الشيء. لقد تزامن خطاب مفهوم (فوكوياما) عن صراع الحضارات وهذا الابتكار التشكيلي الشرقي المنفلت من ضغط سلطة النص الكهنوتي، أو المؤول له ضمن مساحة من الحرية الغير مألوفة سابقا وبما وفرته الجغرافيا الاغترابية من رعاية وحماية، وان لم تكن كلها بريئة بشكل من الأشكال. فالصراع الحضاري لا يزال مواز لصراع المصالح في عالم يومنا. لم تكن الحروف العربية ولا نصوصها المرسومة أو المحفورة أو المعلمة على العمل التشكيلي تلفت انتباها في الوسط التشكيلي العالمي يتجاوز قيمة المنجز التشكيلي العربي الحديث من وجهة نظرهم الدونية له. لكن وبعد تسخير النص الديني المدون تشكيليا سواء في أعمال الفنانين الإيرانيين أو بعض الفنانين العرب، بدا الانتباه إلى خطاب تشكيلي ملفت للنظر.
اختار أياد الجسد مجالا لتشكيل إبداعاته الصورية، الأداء الجسدي (البورفورمانس) الذي يتعدى محدودية الإمكانيات التعبيرية للعمل ألمسندي إلى مجال اداءات الفنون الأخرى كالمسرح والفيلم الفيديوي أو أي طقس أدائي آخر سواء كان فرديا او جماعيا، أو ضمن عرض خاص أو عام، المهم أن يتوفر على حد ما من التحريض السياسي أو الاجتماعي أو حتى على إرباكات الغاز الخيال. وكمجال إبداعي فان هذا الأداء الفني يوظف الجسد بصورته الثابتة أو المتحركة وحتى صور الطبيعة ومادتها ومجالها البيئي. وان نأت الاداءات الجسدية العربية عن تناول البيئة بشكل ملفت للنظر، فاعتقده راجع إلى ما للفعل السياسي وحراكه الشبه يومي من تأثير على الحراك الثقافي ومنه التشكيلي. والفعل السياسي عندنا اعتقده فعل شخصاني مذكر. وشخصنة لما اصطلح عليه بالرموز الدينية والسياسية. أياد لم يبتعد كثيرا عن هذه المنطقة الأدائية، لكنه يحاول استثمارها وبما يضمن له الحرية في اللعب على مضامين ثقافية هو الذي من ابتكرها من ركام مساحة شاسعة لكنها مغفلة من قبل أقرانه الفنانين التشكيليين العراقيين.
لم يكن الوشم على الجسد ابتكارا جديدا، لقد مارسته شعوب الحضارات القديمة وبقية شعوب العالم ومنها الأفريقية وشعوب آسيا وأمريكا الأصلية. ولم تكن الرسوم أو الرموز العضوية (النباتية أو الحيوانية) ومنها الاشارية مجرد زينة على الخد أو القدم أو كف امرأة أو رجل، بل كانت ولا تزال جزء من موروث أسطوري مواز لمصائر البشر في الحيز الافتراضي الملغز من مخبوءاتها التي تراكمت أساطيرها حوادث تاريخية سرية عصية على التفسير المنطقي. لكنه في أعمال أياد لم يعد وشما إلا في حدود مجال سطح العمل ألصبغي. و يشير بشكل من الأشكال إلى ذاكرة منتهكة.
أياد غادر العراق بعد حرب الخليج لمصير مجهول، وليستقر بعد ترحال ما بين الشرق والغرب في الولايات المتحدة طالب دراسات فنية عليا، لقد استطاعت شخصيته من التماسك بما منحته سلطة الفن الافتراضية من مقومات التماسك الذهنية والوجدانية الافتراضية وهاجس الإمساك بما يناسب من وسائل ووسائط التقنية، لكنه وفي زحمة كل ذلك، لم تغب عن باله بعض من تواريخه الشخصية السابقة او كلها، لا تاريخ عائلته، ولا حوادث بلده الأم. لقد استوطنت كل هذه الحيوات، الشخصية والعامة، ذهنه وكيانه صور قابلة للاستعادة عند إلحاح الذاكرة أو محفزات صدمات الحدث، وما أكثرها. هذا ما وفرته برحابة رسوماته أو مشخصاته التي لا ينوي الاستعاضة عن مناورة حصيلة مكتسباتها الاشاراتية والدلالية. هو ألمتاني في كل معالجاته الفنية أو مكتشفاته الأسلوبية التي استلها من الإرث والواقع المادي الذي يحرص على اقتناص ملامح حراكه التي هي في النهاية لا تبتعد عن متغيرات خطوط ملامحنا الشخصية والعامة. رغم كونه لا يكتفي بتثبيت الملامح دون ان يشطب على جزء منها بنصوصه المدونة تزويقا او دما. نصوص مشخصنة لم تكتسب وضوحها الصوري في أعماله الأخيرة إلا بعد مران تخلص فيه من كل الزوائد التزويقية التي لا تزال تفعل فعلها التخريبي في بعض من النتاج التشكيلي ألحروفي العراقي. أياد، في البدء، لم يسلم منها، لكنه تعداها ذهنيا وصولا إلى نتائجه الأخيرة.
توزع نتاج أياد مابين تناول ذاته موضوعا قابلا للسبر بوسائل تشكيلية مركبة مختلطة المصادر، وبين ذوات هشة أخرى لا تزال تبحث عمن يتناول مصائرها، سلسلته عن أرامل العراق الحالي (أرملة الأمة) التي يقرنها ببعض أعماله بمعاناة العذراء (أم المسيح)، هو مشروعه البحثي في خبايا هذه المأساة التي بلغت الذروة في رثاثة حالتها وحجمها الذي تعدى المعقول حتى في أزمنة تواريخنا الكارثية السابقة. أعماله هذه تبرز تناقضا مأساويا لا تخفيه جمالية مشهديتها الطقسية المتمثلة في زخارف جدران الأضرحة المشعة الحاضنة لصور الأرامل المتوشحة أرديتها الشعبية والتي هي جزء من موروث الحزن الدفين في ارض السواد بعد أن جفت وتيبست خضرته. لقد صنع أياد مونولوجه التراجيدي من الألم الأرضي والبهجة السوية، النور والظلمة، لقصة تعمر بعتمة تواريخ يومياتها، وبحضور طاغ لشخوصها النسوية مع التأكيد على اثر الغياب الفاجع للمفقودين أو المغيبين بآثار صورهم السلبية (النكتف) كناية عن الغياب الكامل لإمكانية حضورهم. وان اشتغل التشكيليون الآخرون على الجسد الأنثوي تفكيكا لمنظومة تقاليد أو نواهي اعتقاديه. أياد اشتغل على الجسد الانثوي في هذه الأعمال ضمن هذه المساحة، لكن من زاوية أخرى، وظف فيها المكان (مشهدية الأضرحة الدينية) كما في ارث المعذبين فضاء لاستراحة الروح الملتاعة. ربما هو استل مشهديته هذه من ركام الذكرى التي استوطنته من أزمنة الطفولة العراقية الأولى صنوا لموروث هاجس اليتم الذي يراود الذات البشرية القاطنة حافات اليأس القاري.
أياد، وكما يؤكد، يحبذ السرد مسلسل حكايا لا نهاية لها. واعتقد بأنه سوف يعززها إلى أن تحصل على نهاياتها السارة. ما يساعده على ذلك اعتماده على مفردات تشكيلية صورية و كاليغرافية هي جزء من الوسائل أو الرسائل الاشاراتية التي تخدم أغراضه التعبيرية. وان كانت بعض إشارات الفنانين تضيء
بعض من ملامح مخبوءات أعمالهم أو شفراتها الأدائية، فان أعماله لا تحجب أو تستر أي من خباياها التعبيرية الافصاحية، هي تنتمي إلى فن اليوم بمحمولاته السياسية، الشعبية، الواضحة المعالم،
وغير بعيد عن ارث حاضنها الجغرافي المسترجع من ضمن مستجدات حوادث أزمنتها الغير سوية. رسوماته، او صوره المرسومة أو المؤدات جسديا، مثلما هي اداءات فنية، هي أيضا مشاهد لحوادث أو سير فردية بهاجس جمعي. لقد استطاع هذا الفنان أن يتجاوز على إغراءات الجماليات الأدائية للخط العربي والعمل على تجسيد أجسادا و وجوها هي بعض من ملامحه او ملامحنا في رحلة استرجاعها من جديد بعد فقدها في دروب الغربة أو زوايا الوطن المهجورة.
(1) ـ في رسالة من الفنان ذكر لي فيها ما يلي:
( إن حبه للخط العربي جاء كتكريم لذكرى جده (الدكتور جميل سعيد إبراهيم) أستاذ الشعر والأدب العربي في جامعة بغداد)... لكني أرى أن الأمر بالنسبة لأياد تعدى أمر الوفاء للذكرى مهما تكن حميميتها. فلا يعقل أن يبنى منجز فني بكامله ولفترة زمنية لا بأس بها على ذكرى وفاء، ما لم تتحول إلى سلوك أو كما أطلقت عليه سابقا (عادات أسلوبية أو أدائية فنية) عادات أو طرق أسلوبية اجتهد الفنان في ابتكارها من مجمل تراكمات حصيلة معارفه التقنية ومنطقتها الثقافية والجمالية. وما حراك منطقته التعبيرية من الحرف إلى الصورة إلا دليل على ذلك. رغم أن الأمر لا يتعارض ومبدأ فعل الوفاء.
ـ مالمو 02ـ03ـ11
التعليقات