إلى عبد القادر الجنانبي

1-
كنتَ أول الراحلين، ضوء أو منبع طري أفتقدته أنا مبكراً، بعد دفع بدل خدمة الجيش الذي رفضتً خطاه الثقيلة، منذ طفولتك، لا كما أتخيلُ، وكأن شبكة المخيلة قادرةً على لم كل أسماك النهر؛ كلا، كما تشهدُ شوارع بغداد وصخب صباحاتها، النداوة التي كانت تسيلُ كالتبر بين يديك.

2-
وقائع صغيرة، ذرات تنحرف عن مسارها العمودي، بغفلة، لحسن الحظ، صدفة غريبة ومضببة في الحد الأدنى تتجمع كدقات جرس كنيسة، الواحدة بعد الأخرى، في قلبي.
رحلة، أشتهى بعض أصدقائك هناك وصفها كل على طريقته الخاصة. هؤلاء يمكنني ذكر أسمائهم المرهفةً، حاذفاً ألقابهم، الأحياء والأموات منهم كيف تحدثوا بعد مغادرتك لباحة المدينة، سوق كتبها الواسع، معاركها الحزبية، الأدبية والأيروسية؟ أشياء ملونةً، أو زقرقة عصافير في ذروة شجرة غير مرئية ما زالت أنفاسي كجسدي، وتراب التفكير في روحي يتذكرها وكأنها قد أرتدت حلتها الباهرة، في العيدالبارحةِ حفرة فراق أظن، دون خيبة، قد ألتهمت بقسوة الشرائح الأكثر دلالاً من نزهتي الوجودية.

3-
الأمثلة الشائعة تحذر المرء من البوح بكل أسرار النمل الذي يدب ويراكم غذاءه اليومي بلا كلل؛ أمثلة حاضرة ومؤذية حتى أيامنا؛ كان لا بد من شبخها في بداية المغامرة، إبعادها عن مفاتيح البيانو الذي تعزف عليه في الخطوة الثانية، إتلافها وحرقها حين حلت لحظة نضوج الليمون الأصفر، القوي والمقاوم، عصارة القصائد، نسغ الكلمات وهذيان العين التي ترى في النفق الحالك. كنتُ أنوي القول الدياجير الأشد عتمة، الحالك، هذه الصفة المخبولة تلألأت وحدها في منتصفالصفحة البيضاء التي تعينيني على السهر والكتابة.

4-
كان ذلك في مطعم صغير، حديث وباهي قرب سينما الخيام أدهشتنا واجهته الزجاجية، خطوات قليلة، من الجهة الأخرى تفصله عن مقهى الحمرا، لا أحد يعرف من أين تولدَ اسمها، ما عداك أنت ربما والراوي؛ مطعم صغير يضج بروائح الحياة، مثلنا في ريعان الجنس البشري، عطشى حد المقصلة لبيرة الأرض.
دعوتني للدخول إليه، مثقلاً بحمل كتب خلبت أغلفتها الهذيانية نظري، ترددتُ بقبول الدعوة، وكأن ملاكي الدائم الحضور قد حذرني منالواجهة الزجاجية، خلو المطعم من البيرة، ضحكت أنتَ بضحكة السيرك المجهول في تلك المدينة : أسمع، سنأكل هنا بسرعة، الظهيرة ما زالت في عز شبابها، شارع النهر لا يعرف القيلولة، سوف نتناول باراته الواحد بعد الآخر، أتقبل عرضي إذا ما أهديتك طبعة quot;بنغوينquot; لأبله ديستويفسكي؟
أجل بفرحة.

5-
أنتَ، جان دمو وأنا في شقة تطل على أبي نؤاس، الحرائق الشمسية قبلت بالبقاء في الخارج، الداخل لم يكن نظيفاً بأرضيته والصحف المبعثرة تتسلق مساحته حتى السقف. يافعين. ما أهمية المفردة؟ ثمة من يطرقُ على الباب. بعد لغو العجز العابر من أجل فتحه، نهضت أنا، أكثر الثلاثة وقاراً والمؤتمن المُفترضِ على الشقة؛ فتحته، امرأتان بلون وعبق الفجر دخلتا دون طلب الأذن حتى من القبة الزرقاء؛ عذريٌ كنتَ أنت كما جان، لم تطل المساومة بيننا وبينهن، تحقيق الشهوة، واحدة منهن فقط قدمت ضفاف جسدها وربما روحها لنا نحن الثلاثة. كنتَ البادئ، أكراماً لعذريتك، جان لم يفعل أي شيء، دخل لأكثر من ساعة مع المرأة، لثراء شعريته أو عجزه، قدم لها دعوة التنزه في قوارب أبي نؤاس ومطاعمه الفاخرة. لن أنسى ضحكتك. في النواب كان جان يسكن معي، بعد رحيلك بأعوام، في كل يوم يردد عليَّ نفس الأغنية المقدسة : سنبحث عنها طيلة حياتنا، عن تلك المرأة، أنتَ ربما نسيتها، لكثرة عوالمك، بعد عقود، في سدني قيل لي أنه مات وهو يهذر حكاية تلك الفاتنةِ.