تكشف القراءة المتانية لتصعيد تفاقم العلاقات بين روسيا وجورجيا، ان خلفها ابعادا تخرج عن اطر حدود البلدين، وترتبط برغبة قوى دولية في الوصول الى القوقاز وبحر قزوين، ذات الاهمية الاستراتيجية. وليس هناك شك في ترابط التطورات في المنطقة ومايدور في المنطقة العربية، فاخراج القوقاز من سيطرة روسيا سوف يسهل على تمرير الخطط الاستراتيجية المعدة للشرق الاوسط. الى جانب ذلك فان الغرب الذي لايثق بروسيا وهو بحاجة ماسة الى احتياط للنفط يمكن اللجوء اليه في حالة استخدام مصدرين كبار النفط كسلاح لتحقيق اهدافهم السياسية. وكان الغرب قد التجأ للنفط الشمال في السبعينات، حينما اوقفت الدول العربية نفطها لاسواقه ويمكن ان نفط قزوين الذي يصل الغرب عبر جورجيا، ذلك الاحتياط. ان جورجيا غدت الان الساحة التي تتواجه بها روسيا والغرب لبسط النفوذ على القوقاز، لذلك فان روسيا دعت حلفاؤها لدعم موقفها من المواجهة مع جورجيا.
وترصد موسكو وجود ابعاد جيوـ سياسية بعيدة المدى في اثارة جورجيا ازمة في العلاقات بعد اعتقالها ضباط روس من للاشتباه بممارستهم التجسس على مواقع حساسة وقيامهم باعمال تخريبية ومن ثم الافراج عنهم. وتقول ان الازمة نشبت بعد عودة الرئيس الجورجي من واشنطن وشروع الناتو بمرحلة تكثيف الحوار مع جورجيا للانضمام له. وترى موسكو ان هناك قوى دولية ترمي من خلال اثارة التوتر خلق مشاكل لروسيا، وزعزعة مواقعها في منطقة القوقاز وبحر قزوين الحساسة.ومن المرتقب ان يؤدي تعميق الازمة لاحياء الصراع القديم على منطقة القواز.
وتحمل جورجيا روسيا مسؤولية التوتر الجديد في العلاقات بينهما. وتتحدث عن براهين دامغة لديها لاثبات تورط ضباطها بممارسات تجسس على مواقع حساسة يتبع البعض منها لجهات اجنبية بما في ذلك امريكا وحلف الناتو. وتشير ايضا الى دور روسيا بتشجيع الجمهوريات الانفصالية اسيتيا الجنوبية وابخازيا، وقيامها بدور الوسيط منحاز لاحد اطراف النزاع.وثمة دلائل تشير الى ان الازمة الجديدة بين الطرفين ستنعكس على الاصطفاف الدولي في منطقة القوقاز، وتمهد لمرحلة جديدة في التنافس الروسي ـ الامريكي على جورجيا نظرا لما يتمتع به موقعها من اهمية استراتيجية دولية.
وتزامن التوتر في العلاقات بين موسكو وتبليس مباشرة بعد قرار دول حلف الناتو المباشرة في تكثيف الحوار مع جورجيا تمهيدا لانضمامها للاطلسي. وتدرك جورجيا بان استمرار النزاعات مع جمهوريتي ابخازيا واسيتيا الجنوبية سيكون عائقا امها لتحقيق حلم قيادتها الجديدة بالانضمام الى الناتو. ان اعتقال الضباط الروس يمكن ان يكون ورقة بيدها للاشارة الى تعرض امنها للخطر من جانب quot; الشقيق الاكبر في السابقquot; روسيا. وثمة رهانات في تبليسي على ان استفزاز روسيا او افتعال مجابهة عسكرية معها ولو محدودة قد يستدعي الناتو للتدخل لحمايتها واستعادة وحدة اراضيها، بتصفية الجمهوريتين الانفصاليين بالقوة.
ولايخفي الرئيس الجورجي ميخائيل ساكشفيلي عقده الامال الكبار لحل المشاكل المعقدة التي تواجه الجمهورية بالانضمام الى البنى الغربية. ويسعى ساكشفيلي ضمن هذا الاتجاه الى الافادة من حالة التنافس الجيديد القائم بين روسيا وامريكا في الساحة الدولية وعودتهما للتعامل مع بعضهما الاخر وفق مبدأ quot; العين بالعينquot; . فتعهدساكشفيلي بالحفاظ على المصالح الامريكية في القوقاز سوف يكسب الجمهورية منافع اقتصادية وعسكرية ومساعدتها للتغلب على الازمات التي تطحن بها منذ حصولها على السيادة في تسعينات القرن الماضي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وسنحت قضية اعتقال الضباط الروس الفرصة لساكشفيلي للحصول من جديد على الدعم الامريكي. فواشنطن رفضت في مجلس الامن الاستجابة للطلب الروسي بادانة جورجيا لممارساتها ضد الضباط الروسي وانتهاكاتها للاتفاقيات بشان ممر كودورسك في ابخازيا. وسارع الكونجرس الامريكي ببحث مسالة مساعدات مالية تقدر ب 10 ملايين دولار لانضمام الجمهورية لحلف الناتو.
وجاء توقيت اثارة ازمة العلاقة مع روسيا بصورة مناسبة جدا للنخبة الحاكمة. فالجمهورية تتاهب لانتخابات برلمانية، والرئيس ساكشفيلي وحلفاؤه بحاجة ماسة جدا لسيطرة انصارهم على المقاعد البرلمان وتفويت الفرصة على المعارضة، ربما التي تدعو لتطبيع العلاقات لوصول الى البرلمان وخلق المتاعب، وثمة حسابات على ان المجابهة مع موسكو سترفع من شعبية ساكسفيلي. وستعتبر نتائج الانتخابات البرلمانية بثمابة التمرين الكبير لحملة اعادة انتخاب ساكشيلفي لدورة رئاسية جديدة. ان ساكشفيلي يسعى بصورة ملحة للبقاء السلطة، ولكن ثمة هواجس تعتريه من احتمال الفشل بتحقيق هذا الطموح بعد ان فشل في احداث طفرة ملموسة في تحسين الاوضاع المعيشية والاقتصادية وحل المشاكل الاجتماعية للناخبين. وتلوح في الافق قوى جديدة ناشطة وحيوية وبشعارات اكثر واقعية يمكن ان تنافسه على المنصب الرفيع.
وتجد موسكو ان اثارة الازمة في العلاقات مع تبليسي مرحلة جديدة في التوتر الذي ساد علاقات الجانبين منذ اشعال ساكشفيلي الثورة البرتقالية التي جاءت به للسلطة.وترى موسكو بالرئيس الجورجي بانه ينتهج سياسة معادية لروسيا ويلعب على هذه الورقة من اجل الحصول على مكاسب لجمهوريته. بينما يدرج ساكشفيلي في لائحة الساسة الجدد الذين يرمون تخليص جورجيا من النفوذ الروسي المتواصل على مدى قرون بالانضمام للغرب. ويرى هؤلاء السياسة ان الطريق لازدهار الجمهورية لايمر عبر روسيا. ويثير غضب تبليسي اكثر الموقف الروسي من النزاع مع الجمهوريتين الانفصاليتين. ودون شك فان موسكو تعمل على الافادة من ورقة علاقاتها باسيتيا الجنوبية وابخازيا للضغط على جورجيا ومسكها من الاضرار بمصالح روسية الحيوية في جنوب القوقاز وجر جمهوريات معها. وبات موسكو موسكو تتحدث بشكل صريح ومبطن عن الدور الامريكي في اثارة الازمة مع جورجيا. ويقول مراقبون ان مفتاح حل ازمة الضباط الروس موجود بيد واشنطن وليس بيد تبليسي.
ان ازمة اعتقال جورجيا للضباط الروسي خلق واقعا جديديا في القوقاز واثر على الاجواء في عموم منطقة القوقاز، وسيؤثر على طبيعة الاصطفاف الجيو ـ السياسي هناك. وليس من المستبعد ان يكون ايضا عاملا لاشعال فتيلة حرب وتوسيع التدخل الاجنبي في المنطقة وتدويل الصراع في المنطقة ذات الاهمية الاستراتيجية الحساسة.
- آخر تحديث :
التعليقات