حكومة الوحدة الوطنية هي المولود العسير للفلسطينيين. مولود طال انتظاره، وطال مخاضه، حتى بلغ اليأس الحلقوم. لكنه أتى أخيراً، أو هو في طريقه للمجيء. ونأمل أن يأتينا قبل انقضاء شهر نوفمبر الحالي، كما وعدنا بذلك السيد محمود عباس، وقيادات عديدة من حماس. بل نأمل ألا يخذلنا الطرفان، كما حدث في السابق، حين خرج الرئيس ورئيس الوزراء، وهنئونا وزفّوا لنا بشرى المولود السعيد، لنتبيّن بعد أيام فقط من تلك التهنئة الشهيرة، بأن لا حكومة وطنية ثمة ولا من يحزنون.
الآن اختلف الوضع، وبلغ أقصى درجات حراجته. ولن ينفع معه إلا الصدق في التصريحات، والعمل الفوري على تطبيقها عملياً وتحويلها إلى وقائع على الأرض. ومع أنّ الكثيرين منا يتحفظون على ما يقال بهذا الصدد: صدد تشكيل حكومة وحدة وشيكة، جرياً على مأثور (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) إلا أننا متفائلون هذه المرة، ولدينا أسبابٌ تدعم هذا التفاؤل. منها:

أولاً: إن حماس، وصلت إلى قناعة، ولو متأخرة، بأنّ الأثقال التي وضعتها على كتفيها، جراء تسلّمها السلطة، أثقل من طاقتها على الاحتمال وحيدةً. فلا هي ولا غيرها، بقادر، وسط تعقيدات الوضع الداخلي والخارجي، على حمْل هذه المسؤولية الثقيلة وحده. يتساوى في ذلك أكانت هي أم فتح أم سواهما من ألوان الطيف السياسي الفلسطيني.

ثانياً: عدم المقدرة على الاستمرار في ما يشبه العناد السياسي. فالوضع الداخلي وصل إلى الحرب الأهلية فعلاً لا قولاً، وأي تجاهل لهذا الحال، هو ذهاب مؤكد نحو الكارثة التي تنتظر الجميع على نواصي الطرقات.

ثالثاً: قناعة حماس كحركة وكحكومة، بأنّ العالميْن العربي والإسلامي اللذين راهنت عليهما في البداية، لا مكان لهما في الإعراب السياسي، فهذا المجموع بشقيه، تخلّى عنها، رغم كل الشعارات البراقة، ووضع عليها شروطاً، هي ذات الشروط التي طلبها المجتمع الدولي تقريباً. وهي الاعتراف بالشرعية العربية والدولية: أي الاعتراف بمبادرة السلام السعودية، فضلاً عن الاعتراف بكل الاتفاقيات الموقعة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل.

رابعاً: خوف العقلاء من حماس ( التيار الوسطي، إن جاز التوصيف )، وتحت ضغط الشارع الجائع، وتذمّر الناس الذين انتخبوها وساهموا في نجاحها الساحق، من نهج quot; العدمية السياسية quot; للحركة، بمعنى تشبثها ببرامجها، والهروب إلى الأمام، حتى تصل الأمور إلى نقطة الانهيار التام، فتضيع بذلك مكتسبات الحركة، وتفقد تأييدها بين غالبية الفلسطينيين.

خامساً: إصرار أمريكا والاتحاد الأوروبي، على تشديد الحصار إلى ما لا نهاية، حتى ترضخ الحركة، إن لم يكن لكل مطالبهم، فلغالبيتها. وإلا فلا تنتظر حكومة حماس غير مزيد من الحصار الخانق، وما يترتب عليه من إضرابات مطلبية، بدأت بقطاع المعلمين، وربما تمتد، لو طال أمد الحصار، لتشمل كل قطاع الموظفين الحكوميين، وبذلك يكون الشلل التام وانتظار وقوع الانهيار في أية لحظة. وهذا كله ليس في مصلحة الحكومة ولا الحركة، فكلتاهما معنية بالبقاء في سدة الحكم وفي الاستمرار.

سادساً: تأمل حماس بشقيها، أن تكمل المدة الدستورية للحكومة وهي أربع سنوات، وفي حال رفع الحصار، وحصولها على ثماني وزارت كبيرة ومنصب رئيس الوزراء (من مجموع 24 وزارة) أن تطبّق برنامجها الانتخابي في التغيير والإصلاح، وفي إقناع المواطن العادي، بصدقيتها في طرح هذا الشعار المركزي، الذي تمحورت حوله كل برامجها الانتخابية من قبل. ما يساعدها في الانتخابات القادمة ( خصوصاً وأنّ لديها نيّة في خوض ليس فقط انتخابات المجلس التشريعي التي ينبثق عنها عادةً تشكيل الحكومة، وإنما أيضاً انتخابات الرئاسة. وإنّ بقاءها في مجلس الوزراء، مع رفع الحصار، ليساعدها كثيراً في مأمولها القادم بعد سنتين من الآن. إذ يعرف الجميع، أنها لم تستطع تطبيق أيّ من شعاراتها العملية التي تهمّ المواطن العام، بسبب الحصار، والتضييق وشحّ الموارد.

سابعاً: ثمة إمكانية معقولة، في حال تشكيل هذه الحكومة، من أن توظف حماس أعداداً كبيرة من مُنتسبيها ومحازبيها، وهم بعشرات الألوف، في وزارات السلطة وفي الأجهزة الأمنية. حيث جرت تضييقات هائلة عليها، منعتها في الأخير، من توظيف جيش كوادرها وأعضائها، ما فاقم من حالة العبء التي تتحمّلها الحركة، في الصرف عليهم من مدخولها الخاص. وما جعل اليأس يدبّ في صفوف معظم أبنائها. ومن خبرتي أعرف، أن حتى كبار وزرائها، في الحكومة الحالية، لم يستطيعوا توظيف أبنائهم إلا بشق الأنفس، وفي وظائف ليست بذات بال. فإذا انفتح الحصار، وجرى ضخّ الأموال، فالأكيد أن الحال سيتغيّر، وأنّ حماس ستستطيع توظيف الألوف من أبنائها، وهذا حق لها، أسوة بكل أبناء التنظيمات، وبخاصة تنظيم فتح، في تجربته السابقة. مع الإشارة إلى أنّ الكثير من أبناء حماس، جامعيون ويحملون مؤهلات أكاديمية محترمة.

ثامناً: يقال، والعهدة على الراوي، بأن مصر نقلت رسالة صارمة لحركة حماس، مفادها أن إسرائيل، تُعدّ العدّة، لاجتياح قطاع غزة، وتوجيه ضربة كبيرة وساحقة لقياداتها وأعضائها، قتلاً وتدميراً. في سابقة، لم تعهدها حماس من قبل.

لكل هذه الأسباب ولغيرها ربما، مثل تأثير حلفائها السياسيين عليها، كالنظام الحاكم في الشام، صاحب المصلحة في عدة انفراجات هنا وهناك، رأت الحركة أخيراً، أنه لا مفرّ من شرب هذا الكأس، والخروج بأقل الخسائر، بدل المطالبة بكل شيء وعدم الحصول على شيء.
إنه تفكير براغماتي، وعملاني، كنا نخشى ألا تلتفت إليه الحركة الأصولية، بما تحمل من أيديولوجيا عدمية أو أقرب إلى العدم. لكن المتغيّرات على الساحة، داخلياً وخارجياً، أجبرتها على عدم الاستفراد بالسلطة لوحدها، وعلى مشاركة الآخرين، ولو على مضض، وفوق ذلك وقبل كل شيء: على تغيير برنامجها، وأخذ ما يطلبه منها العرب والعالم (الذين يصرفون) على محمل الجد.

وإنا لسعداء بهذا المنحى في تفكير حماس. فالسياسية أخذ وعطاء. والسياسة مرونة قبل كل شيء، بما هي فن الممكن لا ركوب المستحيل.
سعداء، لأنّ هذه الخطوة، ستعيد العالم لنا، وستعيدنا إلى العالم، بعدما انقطعت الخطوط فيما بيننا وبينهم، فخسرنا بذلك العديد من الأصدقاء التقليديين للشعب الفلسطيني في نضاله الشاق والعادل.
وسعداء، لأنّ البطون الخاوية ستُملأ أخيراً بعد طول جوع. فقد وصلنا تحت نير الحصار، إلى درجةٍ من العوز المادي، لم نعهدها منذ عام 67. فلأول مرة، يجوع الموظف المحترم، ويستدين قوت يومه وثمن مواصلاته إلى وظيفته. ولأول مرة يتبهدل أطباء ومهندسون ومحامون. ولأول مرة يسرق تلاميذ المدارس الخبز والفلافل من شنط زملائهم. كما لأول مرة يجوع المدرسون، فلا يجدون قوت يومهم، أو لباساً متواضعاً يناسب مكانتهم أمام تلاميذهم.
وسعداء، لأن حماس، ولأول مرة أيضاً، تهبط من سماء الأيدولوجيا إلى أرض البشر، وإلى هموم الخبز والحليب والماء وفاتورة الكهرباء.
وسعداء أكثر وأكثر، لأنّ هذه هي (أول مرة) بالفعل، يكون لدينا حكومة وحدة وطنية منذ أوسلو: حكومة بهذا الاتساع والتنوع، بحيث ستشمل كافة الكُتل في المجلس التشريعي، عن كل كتلة وزير، بالإضافة إلى حوالي ستة مستقلّين سيكونون وزراء في هذه الحكومة.
وهذا يعني، كما نأمل ونتمنى، أن الجميع ممثل في هذه الحكومة وله وجود. وعليه، فالجميع سيكون معنياً بترتيب أوضاعنا الداخلية، والانتهاء من مهزلة الفلتان الأمنى والفوضى المستشرية، التي أبداً لا تليق بشعب مناضل يعيش تحت أعتى احتلال.
وسعداء، أيضاً، لأن الرموز السياسية، بوجوهها الكالحة والمحروقة، من جميع الفصائل، لن نراها مجدداً في الحكومة القادمة. وبالذات رموز الفساد والإفساد، التي لم يعد أحد يريد رؤيتها إلا المستفيد من فسادها.
وسعداء، لأننا نأمل، بأن يُفُتح ملف الفساد كريه الرائحة، وأن تعاد بعض أموال الشعب المسروقة. فلا عذر لأحد بعد اليوم، فالجميع موجود في الحكومة، ولا أحد يستبعد أو يتجاهل أو يهمّش أحداً.

من هذا المنطلق، نحن متفائلون، ولندع التشاؤم لغيرنا، مع تأكيدنا على أنّ للمتشائمين أسبابهم الوجيهة هم أيضاً، ومنها: لن نصلي على النبي قبل أن نرى الصبي! إذ صلّوا قبل ذلك، وما رأوا لا صبياً، ولا حتى آلام مخاض. فالكل كان متشبثاً برأيه ورؤيته، لا يحول عنها، ولا يدول. أما الآن، فقد جرت تحت النهر، ما جرت من مياه ودماء. وما كان مقبولاً أمس لم يعد مقبولاً اليوم. فإما حكومة وحدة وطنية أو الكارثة. وأظن أن لا أحد يريد منا، وكلٌ وفق حساباته، هذا المصير الأسود. المولود جاء عسيراً، وولادته كانت أعسر؟ لا بأس. المهم أنه لم يتأخر أكثر، والأهمّ أنه جاء. فيا محمود عباس ويا خالد مشعل: كونا على قدر المسؤولية، ولا تخذلا شعبكما، فقد ملَّ من لعبة الصبر العدمي والعبثي، ويريد أن يعيش كما غيره من الشعوب. فلقد ناضل من قبل ولم يجع. ومّن قال إما الجوع أو الركوع! ولماذا نُحصر أصلاً في خانة اليكْ هذه؟ أما من طريق آخر، أقل قسوة وأوسع رحمةً؟ بالتأكيد الطريق موجود، وآن أوان أن نراه، سواء أكنا في رام الله أم في الشام، وبالأخص في الشام. ومرة أخرى، نتوجه إلى الشام هذه، ونرجو السيد خالد مشعل ألا يخذل شعبه، فشعبه يعيش على جمر، ولا مكان للتلاعب بأعصابه. كن معه يا سيدي، حتى لو غضب منك الآخرون، بغض النظر عن بعثيتهم أو عماماتهم السوداء. فشعبك ما يبقى لك، ومصالحه هي الأعلى. مصالحه أولاً. ومصالحه أخيراً. وبخاصةٍ هذه المرة، حيث شعبك هذا هو الذي أوصل حركتك لسدة الحكم. وما هكذا يُجازى شعب فعل معكم هذا الصنيع.

أليس كذلك؟