لم تبطل أجهزة الإعلام والزاعقين بإسم القومية القومية العربية والإسلام السياسي يوماَ واحداَ التحريض على مواصلة أعمال العنف والإجرام في العراق منذ سقوط نظام البعث العراقي في نيسان 2003 بدعوى المقاومة أو الجهاد. وبعملهم هذا فقد منحوا غطاءاَ أخلاقياَ وشرعياَ عما يمكن أن يوصف بإنه الردة الحضارية الأكثر بشاعة في التاريخ المعاصر. لقد شجع هؤلاء المنظّرين أكثر الأوباش وحشيةَ أن يتجهوا الى أرض العراق وأن يدمروا ما تبقي من علامات الحضارة التي سلمت من أربعة عقود من حكم أولاد القرية القومجيين.
ولكي لايحصل لبس في ذهن القاريء الكريم عمّن أعنيه بهذا الكلام فإنهم من السنة والشيعة والقومجيين والأسلامويين. فلا فرق بين هيئة علماء المسلمين أو القومجيين من أمثال هارون محمد ومحمد عارف وخيرالدين حسيب من جهة والخالصي وخامنئي ونصرالله من جهة أخرى.
إن سقوط نظام البعث العراقي الذي كان تجسيداَ حياَ لتفسّخ الفكر القومي العربي والذي إختلط بمفاهيم الإسلام السياسي من خلال الحملة الإيمانية وتضامن قوى الإسلام السياسي العالمي شكّل حدثاَ محورياَ لكل القوى الظلامية في العالم الإسلامي. إن الصحوة الإسلامية الخمينية-البن لادنية خلقت لدى المسلمين نظرة مبسطة الى العالم تتلخص في النظر الى كافة الأحداث على المسرح السياسي العالمي من خلال ما يعتبرونه الصراع الأبدي بين الأسلام والكفر. ويعتبر منظروا هذا الفكر الزينوفوبي الكاره والمحتقر للآخر إنهم قد خبروا الغرب وتمكنوا من معرفة أماكن ضعفه وقد أقنعوا أنفسهم أن بإمكانهم محاربته والإنتصار عليه وعندئذ سيصبحون أسياد العالم بدلاَ من الغرب الكافر. المشكلة أن الغرب متفوّق على المسلمين في كل شيء، فكيف إذن لشعوب تستورد كل ما تحتاج إليه من أعدائها أن تنتصر عليهم وتخضعهم لسيطرتها؟
علينا أن ننظر الى التأريخ الإسلامي وبالأخص الى حدث محوري آخر وهو سقوط بغداد في القرن الثالث عشر الميلادي على أيدي المغول لكي نبدأ بتفهم سايكولوجية المجاهد المعاصر. إن هذا الحدث يشكل جزءاَ مهماَ من التركيبة النفسية للمسلم المعاصر أينما كان وبالأخص العرب منهم. إن سقوط بغداد على أيدي المغول كان صدمة مهولة للمسلمين آنذاك ظلت أصداؤها تؤثر في نظرة العرب الى العالم الى يومنا هذا. ويبدو أن من جملة الدروس المستنبطة من هذه الهزيمة الشنيعة هي أن التخلف الحضاري لا يشكل مانعاَ للأنتصار والهيمنة على الأعداء بدليل أن المغول الذين هم من البدو الرحل والذين لم تكن لهم لغة مكتوبة تمكنوا من هزيمة المسلمين المتفوقين عليهم في الحضارة والمدنية وأحتلال عاصمة خلافتهم وتدميرها. كذلك إستنتجوا أن القسوة المفرطة والعنف غير المقيد بالقيم الأخلاقية المتمدنة هي من الأستراتيجيات المفيدة عند مواجهة عدو يمتلك تفوقاَ حضارياَ وتكنولوجياَ. وهذه الإستراتيجية طبقت فعلاَ في أفغانستان وأدت بنظر الإسلاميين الى إنتصار منقطع النظير وذلك بتدمير أحد قطبي الكفر في العالم.
لذا فقد وجد المجاهدون الجدد فرصتهم الذهبية عند دخول الأميركان الى العراق لكي يكملوا المشوار ويدمروا القطب الدولي (الكافر) المتبقي و يصبحوا هم أسياد العالم بلا منازع.
قد يعتقد بعض القراء إن ما أقوله هو ضرب من الخيال ولكن أدعوكم أن تقرأوا أدبيات الإسلام السياسي المتوفرة على الإنترنت وستجدون إنهم لا يخفون أن هذا هو هدفهم.
وهنا دخل على الخط أصحاب الفكر القومجي والبعثي وكذلك البعض ممن تحركهم أهداف طائفية بحتة في حلف مدمّر يرمي الى إفشال عملية تحويل العراق الى مجتمع حديث ومفتوح يمارس الديمقراطية وتحترم فيه حقوق الإنسان. وكان نتاج حلف الأوباش هذا هو ما يدعى بالمقاومة العراقية.
إن هذا الحلف ليس له قيادة واحدة أو حتى هدف مشترك بعيد الأمد ولكن لديه هدف آني مشترك وهو إفشال عملية التغييروالتحديث في العراق وهناك إتفاق بين جميع فصائل هذا الحلف على جواز إستخدام العنف المفرط وغير المحدود ضد كائناَ من كان مدنياَ كان أم عسكرياَ ، عراقيا أو أجنبياَ وكذلك الإتفاق الضمني بأن لا مانع من التحلل عن أي من الأخلاقيات المتعرف عليها في العمليات العسكرية من حرمة المدنيين أو النساء أو حق الدخالة أو غير ذلك. وذلك عملاَ بدروس إنتصار المغول وتجربة أفغانستان.
والكارثة هي أن أعداداَ كبيرة من العراقيين إصطفوأ الى جانب دعاة الإسلام السياسي العالمي والذي لا يقيم أي وزن على الإطلاق لحياة أو أمن أو آمال العراقيين بدعوى الحق المشروع في مقاومة الإحتلال. لم يستمع هؤلاء الى نداءات ومناشدات العراقيين لهم بأن التحالف مع مغول العصر، البن لادنيون والتنكر لكافة القيم الإنسانية والعراقية الأصيلة سوف يدمر البنية الإجتماعية والأثنية العراقية وسوف يؤدي الى تدمير الطبقة الوسطى العراقية التي بدونها يستحيل بناء مجتمع حديث. كذلك لم تلقى تحذيرات أولئك العراقيين الحريصين على شعب وحضارة العراق من أن التحالف مع البعث الساقط والطالبانية العالمية لن ينتج عنه تحرير بل إستعباد أذناَ صاغية.
و بعد أن أثبتت المقاومة العراقية سقوطها الأخلاقي المروع من خلال تفجير الطرق والأسواق و في تحطيم البنية التحتية العراقية ، والقتل المبرمج للعراقيين لا لشيء الا لإثبات أن لا أحد يستطيع أن يعيش حياة طبيعية في العراق لأن الأوباش قد صنفوه كدار حرب يطلع علينا بعض المنظرين العباقرة بإن قتل الكفاءات في العراق هي عملية أمريكية. لهؤلاء أقول إنكم تحالفتم مع أوباش الجزيرة العربية وأفغانستان وغيرهم من العربان ذوي ثقافة التكفير وحز الأعناق ثم تريدون تغطية جرائمكم بهذه النظريات الهزيلة ؟ والأدهى من هذا فإن أغلب هؤلاء أشباه المفكرين مرتاحين هم وعوائلهم في العيش في بلدان الكفر (أو المحمية من قبل بلدان الكفر كدول الخليج) التي يدعون إنها تريد قتلهم وأمثالهم.
إن الإستهانة بحياة وممتلكات ومعتقدات الملايين من العراقيين بدعوى الحق المشروع في مقاومة المحتل وتبرير هذه السياسة بشكل مباشر وغير مباشر من قبل الحكومات العربية بما فيها الجامعة العربية إضافة الى المنظمات المدنية وأجهزة الإعلام العربية ناهيك عن المؤسسات الدينية يعبر عن لامبالاة مذهلة بمصير أجيال من العراقيين. كذلك فإن المجازفة بتحطيم وحدة البلاد من خلال إذكاء التوتر الطائفي الكامن دوماَ تحت السطح هو خير دليل على إستهانتهم بمصالح ومستقبل العراق. إن هؤلاء مدعي المقاومة تنطبق عليهم قصة النبي سليمان عندما جاءته إمرأتان كلتاهما تدعيان أمومة طفل رضيع. ولكي يكتشف الحقيقة أمر بأن يقطع الرضيع بالسيف لتحصل كل منهما على نصفه. وعند ذلك إنهارت إحداهن وتنازلت عن الطفل للإمرأة الأخرى حفاظاَ على حياته فعرف سليمان الحكيم إنها هي الأم الحقيقية وحكم لها بالطفل.
إن معارضي نظام صدام عندما كان مايزال في السلطة لم يخطر في بالهم يوماَ أن يرتكبوا المذابح ضد العراقيين مدنيين كانوا أم عسكريين ولم يخطر لهم ببال أن يدمروا مشآت النفط أو الغاز أو الكهرباء لحرصهم على العراق وعلى حياة أبنائه. أن المقاومة العراقية أثبتت أنها كالأم الكاذبة في قصة سليمان الحكيم لا يهمها على الإطلاق مصير العراق ولا يقيمون وزناَ لمستقبله بل جل همهم أن يكون ملكاَ لهم و إلا فسوف يتركونه أرضاَ محروقة.