ردّة فعل بعض الشارع اللبناني على استحضار شخصيّة الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله أشعرتني بالقلق المتزايد منذ استصدار أميركا المرموز إليها بعبارة quot;المجتمع الدوليquot; للقرار 1559 الذي رعى ويرعى ماراثون quot;الفوضى البنّاءةquot; في لبنان كلّه.
وماذا يملك غير القلَق الذي يصل إلى حدّ القرف شخص يؤمن بحريّة التعبير، ويردّد مع الفرنسيين الأنواريين قولهم: أنا ضدّ ما تراه إلى النهاية، ولكنّي في الوقت ذاته مع حقّ أنْ ترى ما ترى إلى النهاية أيضاً؟.
فمنذ أكثر من ثماني سنوات نشاهد برنامج quot;بس مات وطنquot; أو quot;بسمات وطنquot; لمخرجه أفكاراً وحواراتٍ شربل خليل الذي جمعتْني به حلقة إذاعيّة استمرّت أكثر من ساعة ونصف الساعة بثّتها إذاعة quot;صوت الغدquot;. وقلّما استثنى شربل خليل شخصيّة عملتْ في الحقل السياسي اللبناني، وقلّما انقضتْ حلقة من حلقات البرنامج الفكاهي اللاذع من دون شماتة أو من دون غضب، غير أنّ القاعدة العامّة كانت البسمة أو الضحكة المجلجِلة لدى الغالبيّة من المشاهدين بغضّ النظر عمّن يكون في دائرة الضوء أو المحشور في الزاوية. وما مِنْ نهائي في عقل شربل خليل، فمَنْ يُغمَز عليه اليوم يُغمَز له غداً، ومَنْ يُرشَق بسهمٍ اليوم (لا سهم كيوبيد) يُنثَر فوق رأسه الأرزّ غداً، والنقيض بالنقيض. شربل خليل ذاته هو منبر quot;قرنة شهوانquot; مرّة، وهو ذاته ضدّ quot;قرطة النسوانquot; مرّة تبعاً لما يراه الفنّان السياسي، وهو ذاته سيل عرم على الرئيس المغدور به رفيق الحريري، وهو ذاته الآسف على الحريري، والقائمة تطول، والأمثلة كثيرة. فالفنّان الفنّان هو ما يراه هو بالمحلّ الأوّل، وماذا يبقى من الفنّان حين يعطّل عينيه وحواسّه كلّها ويعمل بعيني وحواسّ غيره؟ ومن شاء الإعتراض فليعترض بكلمته إذا كان متكلّماً، وبقلمه إذا كان كاتباً، وبفنّه إذا كان فنّاناً لكن لا محلّ لمن لا يمرّ ببيروت المدنيّة، وبيروت الثقافة، وبيروت حريّة المعتقَد والرأي، وبيروت الإبداع. مِنْ حقّ أي كائن بشري الحديث بهذا الشأن العام أو ذاك، هذا ما أؤمن به راسخاً، لكن مِنْ حقّ أي كائن بشري آخر أن يقول كلمته في ما يسمع. يتساوى الجميع هنا تحت القبّة الزرقاء المغلوبة اليوم بالجشع والطمع الوحشيين بامتياز.
دائماً دائماً هناك طريق وطريق معاكس للسياسي كما للديني، فالشأن العام هو الشأن العام، وحقّ كلّ مَنْ هو موضوع الشأن العام أن ينبذ وأن يستحسن، وواجب المتقدِّم في الشأن العام وإذا استقبل هو أن يُثقِّف ويحضّ على وجوب الإستقبال وإلاّ فالإنفصال.
والحديث عن هويّة ثقافيّة ومدينيّة بين القيادة وبين القاعدة مجلبَة للحديث عن ركوب موجات بأي سبيل. بئس هكذا أحزاب أو حركات أو تيّارات.
وحقّاً ما جرى ردّاً على استحضار السيّد حسن نصرالله الذي لا ينكره بالمُجمَل إلاّ كلّ ناكر مغرِض لألمعيّته البائنة وعصاميّته ونظافته، حقّاً ما جرى هو مُقفَل في وطن مُقفَل عليه وليس بالأقفال يندفع الشراع. لكنْ مَنْ يدّعي معرفة كلّ شيء؟ والصدى تفتح له فضائيّة quot;أل بي سيquot; ذاتها نافذة عبر برنامج quot;الحدثquot; وهو البرنامج الأكثر رصانةً ومهنيّةً بإشراف نجمته بلا منازع شذا عمر. الضيوف هم جاك قوبنجي أستاذ علم الإجتماع في بيروت، أبو بكر قادر أستاذ علم الإجتماع في جامعة الملك عبد العزيز السعوديّة، داود حسين الكوميدي الكويتي وشربل خليل ذاته، والبثّ فجرَ يوم الإثنين الواقع في الخامس من حزيران (بتوقيت سيدني). شذا عمر بأسئلتها المُحكمَة والحكيمة، والضيوف بخبراتهم، فمِنْ قائل بخطوط حمر (داود حسين) ولا يعترف بها شربل خليل إلاّ بحدود القانون وهو كلّه استعداد لتحمّل التبعة، ومِنْ قائل بالتماهي مع الرمز في الظروف العصيبة (جاك قوبنجي) ويتمعّن شربل خليل في ما يسمع، ومِنْ قائل بالشفافيّة، والتأكيد على المؤكّد عليه جماعيّاً ولو ضمنيّاً (أبو بكر قادر) ويسجّل شربل خليل ملاحظة، لكنْ ندخل إلى عقل محور الحدث عندما يتحدّث المحور ذاته أي شربل خليل ذاته. بكلّ بساطة يقول شربل خليل أنّ السيّد نصرالله ما دام يجلس إلى طاولة الحوار الوطني وهي طاولة سياسيّة بامتياز فهو يتعاطى معه فنيّاً كما يراه كسياسي، أي ببساطة ليكن ما يكون ونقطة على السطر على رغم احترامه للسيّد حسن نصرالله.
ربّما يجد الخلاّق شربل خليل حرَجاً فيضرب صفحاً عن أخطر كلمة قيلت في لبنان منذ الشروع باستصدار القرار 1559، فيودّ لو لم يسمع البطريرك مار نصرالله بطرس صفير قوله في مطار بيروت عائداً من فرنسا أخيراً أنّه على اللبنانيين أن quot;يمتثلواquot; للإرادة الدوليّة (وكم امتثلوا قبلاً للإرادة القطْريّة ) ربّما حقّاً شربل خليل لم يسمع. وسابقاً مدّد الممدَّدون ثمّ وقّع عشرون من مجلس النوّاب على عريضة الإكراه التي بلغت الحضيض بالإنتهازيّة، فلو كسبَ الموالون كسبَ العشرون إذْ وقّعوا، وإذِ انهزم الموالون وانهزم المُمتَثَل لهم كسبَ العشرون أيضاً، فلا أسهل مِنْ توقيع على عريضة تفيد أنّهم إنّما امتثلوا.
إنّما مَنْ له الحقّ أن يفرض على شربل خليل ما ربّما لا يراه شربل خليل من زاويّة جديّة؟ ومَنْ يضمن إذا كسرَ خليلٌ الهالَةَ ألاّ يلتفتْ إلى ما يجري خلفه أيضاً؟ عموماً ينهزم في عقل خليل المحلِّل أمام المبدِع، ومرّة أخرى، فالمحلِّل لا يُرى إلاّ خلف المبدِع ـ القاطرة أبداً.
يقول أنّه استحضر قبل أسابيع قليلة القدّيس مار مارون الذي هو روح الطائفة المارونيّة في لبنان في برنامجه الفكاهي عاتباً على الأتباع المنقسمين، وأيضاً يفلت الزمام تأكيداً لما سبق، فمجال التناظر هو مرعى للوحوش إذا لم نقل هو محيطات تفصل بين منفصلين ليستخلص ممّا ابتدعه ويصدّقه بوجود quot;ثقافاتquot; وquot;حضاراتquot; منها التي تغضب ومنها التي تبتسم، وهي خلاصة ترفع الحاجب وتُزَم لها الشفاه كأنّما يجب أن تعقب ملهاةٌ كلَّ مأساة، وكأنّ لبنان وهو ينجح يفشل، وهو يحلّق عالياً يهوي إلى الحضيض، ولا يريد بأي ثمن معلوم أو مجهول أن يتكامل ويُكمل إلى الأمام خطوة حقيقيّة واحدة.
[email protected]