مفهوم (الهوية identity) ، مفهوم تناوله الأخوة العروبيون ومن ثم الصحويون وتذرعوا به عندما يدعون إلى التقوقع والتكلس في (الأنا) وعدم الاندماج في ثقافة العصر والاستفادة من تجارب (الآخر) الحضارية.
دبي ndash; مثلاً - في تقديري أهم تجربة حضارية عرفتها المنطقة الناطقة بالعربية، إذ انتقلت - كما تقول الأرقام- من الدولة (الريعية) المتخلفة لتنتمي إلى منظومة الدول (الإنتاجية) المتحضرة، وهذا يعني أن (الهدف) الحضاري الذي عجزت أن تصل إليه جميع دول المنطقة دون استثناء في تاريخها، وصلت إليه دبي..طبعاً هذا الانجاز لا يقبله المؤدلجون على اختلاف أيديولوجياتهم، سواء كانت عروبية أو صحوية، لأن دبي كمثال حضاري حي هي نتاج للفكر (الليبرالي)، الذي لا يهتم بالأيديولوجيا على اختلاف أنواعها، وإنما بالإنجاز الاقتصادي. وتعتبر المقولة الليبرالية الشهيرة (دعه يمر دعه يعمل) هي شعار دبي في التعامل مع التنمية على أرض الواقع، والسبب الأول لتفوقها الحضاري الذي تتحدث عنه الأرقام.
المؤدلجون يرفضون تجربة دبي من منطلق فلسفي، يتذرع بالهوية، وينطلق منها، وكأن (الهوية) والعناية بها هي (التحضر)، في حين أنها لا تطعم من جوع ولا تـُـؤمّنُ من خوف، ولو أن لها أية قيمة ndash; مثلاَ ndash; لنفعت أفغانستان أيام طالبان، أو السودان أيام الترابي، أو مصر أيام عبدالناصر، أو العراق أيام صدام؛ فقد كانت (الهوية) والخوف عليها والتذرع بها، هو (العامل المشترك) الذي يجمع بين هذه النزعات (المؤدلجة) على اختلافاتها وتباينها.
قال لي أحدهم : اذهب إلى دبي لا تجد إلا هنود وأسيويين، وليس ثمة عرب ولا لغة عربية؛ أية هوية تتحدث عنها؟ ... قلت : ربما أن هذا هو السبب الذي جعل دبي تنجح . فمن تجاربنا نحن السعوديون يمكن القول أن العرب هم (سبب) الكثير من مشاكلنا . فهم الباعث وراء انتماء البعض منا للفكر (القومي) العروبي المتعفن؛ كما أنهم سبب (تورطنا) بفكر (الأخوان المسلمين)، الذي أدلج كل مفاهيمنا الحياتية، وجعل بيننا وبين التحضر سداً منيعاً حجبنا عن (الشمس) وعن مواكبة الحضارة.

دبي رفضت (الأدلجة) رفضاً قطعياَ، ورفعت شعار : لديك خبرة وتخصص واستثمار اقتصادي أهلاً وسهلاً بك، لديك أيديولوجيا إ(قعد عند أمك) ! . فقصدها المتخصصون، والخبراء، وأصحاب الثروات العقلية والمالية، والباحثون عن الحرية الاقتصادية من كل أصقاع الدنيا، وعزف عنها المؤدلجون، وتجار العقائد الأيديولوجية. فانطلقت في نهضتها، وتركت (آل ابونعيلة) يقتاتون شعاراتهم البالية. لم تخف دبي على الهوية، لأن العصر هو عصر العولمة، والعولمة لا تعترف بالهوية، بل هي حسب منظمة التجارة العالمية WTO من معوقات العولمة، التي يجب أن يعمل العالم على إذلالها وتجاوزها..الهوية مثلها مثل (الخصوصية) عقبات كأداء يجب علينا إزاحتها عن طريق التحضر، تماماً كما فعلت دبي؛ فـ (الميزة النسبية) التي يتحدث عنها الاقتصاديون هي (هوية) هذا العصر الحقيقية.
وقد روى لي أحد الأخوة الدبويين أن مؤسس أمارة دبي الشيخ راشد المكتوم زاره في الستينيات عبدالخالق حسونة الأمين العام للجامعة العربية وقتها، وهاله أن يرى هذه الأمارة الفتية المتطلعة للتحضر تعتمد على العمالة الآسيوية من الهنود والباكستانيين ؛ واقترح حسونه على الشيخ راشد بأن يستبدل العمالة الآسيوية بعمالة عربية كي يحافظ على (هوية دبي) العربية؛ فرد عليه الشيخ راشد قائلاً : كل عامل عربي يحتاج إلى شرطي أو ربما أكثر ليحمي البلاد من نشاطاته (العروبية) الثورية الغوغائية، بينما كل مائة آسيوي لا يحتاجون لأكثر من شرطي واحد، لذلك فالعرب ndash; حسب الشيخ راشد - مكلفون مادياً وسياسياً وأمنياً .. وها نحن، وبعد عقود على نصيحة حسونه، نرى أن الذي كان معه الحق كل الحق هو الشيخ راشد، فقد (نجَت) دبي من ويلات (الأدلجة) وانعكاساتها، وانشغلت بالتنمية والرقي و التحضر، وها هي على مشارف الانضمام إلى منظومة النمور الآسيوية، بينما بقى العرب ينتقلون من (القومية) إلى (الصحوية)، ومن (جرف إلى دحديرا)، أما المؤشرات الاقتصادية والتي هي الشاهد الذي (لا يكذب) على التحضر فتقول أن دبي، الأمارة غير النفطية التي تستورد احتياجاتها البترولية من خارجها، هي مهوى أفئدة الاستثمار و المستثمرين في كافة المجالات، ومن كل أصقاع الأرض، وأن معدلات (الفقر) في الأمارة لا تكاد تذكر، وأنها من أقل المناطق في العالم في معدلات الجرائم، وأن مستقبلها الحضاري، كما يؤكد من يتعاملون في استشراف المستقبل، يأتي في المقدمة.
وبالمختصر فدبي كما نراها على أرض الواقع هي معجزة (الحضارة) في المنطقة التي ظل بنو يعرب يبحثون عنها منذ أن غزاهم نابليون، ودخلت خيله إلى رحاب الأزهر الشريف.