الاسم الذي تردد في ذاكرتي حين أطالع بعض الكتب، والصورة التي ارتسمت في عقلي، ومعرفة بأسرار اللغة وإشكاليات الشعر الحداثوي نلمسها في المقالات المنشورة، أو في اللقاءات المرئية أو المسموعة.كنت أسمع بالبنيوية التي يتحدث عنها الدكتور مالك المطلبي دون أن ازحم نفسي في معرفة تفاصيلها، فقد كنت اعزف عن التركيز على المقالات النقدية والتفكيكية التي تخرج عن نطاق اختصاصي في مجال القانون وتأخذ مني الكثير من الجهد في التأمل، ولربما قرأتها دون تدقيق أو تعمق في معانيها طمعا في معرفة متواضعة عن مدلولاتها ومعانيها.
وبقي أسم الدكتور مالك المطلبي في الذاكرة، وقرأت أسمه ضمن مسلسل المتنبي الذي قدمه تلفزيون بغداد ككاتب للسيناريو، وفي الوقت الذي احتل المطلبي مساحة كبيرة من الساحة الثقافية في العراق، واستطاع إن يتبوأ بتلك المساحة بمقدرة وقابلية العالم المتواضع الذي تحتاجه الثقافة العراقية، غير اننا لمسنا وبشكل تدريجي انسحاب المطلبي من الساحة الثقافية، تحدث لي صديق حين سألته عن المطلبي، من أن هناك عن مساهمات ثرة للدكتور خارج العراق، فقد استطاع إن يحجم قابليته ويحدد عطاءه متخلصا من كابوس الرقابة وعد الكلمات التي تندلق من الفم، وبعد إن أتسم جهده بالغزارة والجودة أصبح قليلا فجاءة ولايتنا سب مع قدرته الكبيرة وثقافته الواسعة، غير انه استطاع إن يوهم السلطة بأنه استكان وتحدد نتاجه وفق تلك الاستكانة لائذا بصمت كبير ، مما يدلل على وجود حواجز كانت تصادف طريقه، أو إن السلطة تحاول عرقله مسيرته الثقافية والإبداعية، و الدكتور مالك المطلبي متخرج من قسم اللغة الانجليزية ولكن انشغاله بعلم اللغة العربية في الجامعة لم يتح له أن يتفرغ للترجمة، كما لم ينشر غير مجموعة شعرية واحدة، وتحول بعدها للنقد واللغة، حيث يقول عنه طلابه انه صعب ودقيق ، يحثهم على الصبر والأمانة والتدقيق في الأصول الثقافية.
بقي المطلبي مهاجرا ومنفيا داخل وطنه دون إن يجازف بالرحيل، ولهذا تجد تحليله عن مفهوم هجرة المثقف يتفق مع الواقع الحقيقي لما دار في ذلك الزمن المرير، فيقول أهم ما تستطيع أن تفعله في ظل نظام شمولي وتتقاطع معه هو الهجرة. أي شخص هاجر خارج العراق، حتى لو لم يكن ملاحقاً أمنيا أو سياسيا فهو كان متقاطعا مع النظام. كانت هناك هجرتان، الهجرة الى ما يسمى بالمنافي الإرادية والمفروضة، والهجرة إلى الداخل. واهم ما حققناه نحن الذين لم نستطع الهجرة لأسباب عديدة هو النفي الى الداخل وبوابة المنفى الداخلي هو الصمت. أشجع الشجعان كان هو الصامت.
والصمت هو ما سلكه الدكتور المطلبي ، ومع كل هذا الصمت كان يترسب الخزين من المعرفة التي لم يزد لها إن تنضب ولا إن تفضح صاحبها في زمن صارت فيه كلمة الحق جريمة يعاقب عليها قانون الطغاة ، وصار فيه المبدع الذي لايسخر إبداعه لخدمة السلطان مطلوبا.
بعد ذلك سجل المطلبي أنسحابا ملحوظا، وسالكا طريقة الصمت خارج إطار عمله التدريسي، متحددا بالمناهج الكلاسيكية، فقد انصرف لدروسه ورسم لزمنه خطوطا محددة لايخرج عنها حتى يبقي الرأس الممتلئ بمحنة الحياة فوق ذاك الجسد المنحني والممتلئ بهموم الحياة والثقافة، مع كل ما يتحمله من شجون العراق ومحنة الناس، ومع تلك الانعزالية النفسية التي تقمصها درءا لكل الشظايا التي يمكن إن تصيبه في زمن معطوب، كان يلوذ بمقاهي شعبية يسكب فيها جزء من همومه يلعب الدومينو مع رفاقه، ويتحدث همسا مع كل ما يحمله المطلبي من تراكم أزلي في روحه التي نبعت من حلفاية العمارة، حيث تكونت شخصيته من بين أكوام الفقراء التي تزدحم بها قرى الفلاحين التي لاتوفر لهم غير الكرامة والخبز.
ومن حياة الفقراء وطقوس الحلفاية تعلم الصدق والصراحة، كنت احلم بأن التقيه يوما انأ البعيد عن كل تلك الدراسات البنيوية والقصائد النثرية، وإذ وفرت لي مؤسسة المدى الثقافية فرصة في دعوتها لي لحضور أسبوعها الثقافي في العام 2006 في هولير عاصمة أقليم كوردستان، لألمح صورته ووجهة بين الحضور.
ودون موعد اقتربت منه وقدمت نفسي فأعلمني انه يطالع بعض ما أكتب، وكانت عندي بعض نسخ من كتابي ( الشبك في العراق ) سلمته منها نسخة ، كما تسلم مني كتابي ( الأيزيدية حقائق وخفايا وأساطير ) و( عدي بن مسافر مجدد الديانة الأيزيدية )، شكرني بعد إن تحدث بعفوية عن الطفولة وأسباب الانقطاع والغياب، وعن الثقافة العراقية.
لمست في حديثة تفاصيل لايقولها الا الكبار الواثقين من أنفسهم، ومن موقع الواثق المتواضع، تحدث عن الحلفاية والعمارة، وعن ذكريات الطفولة وحياة المعدمين الذين لم توفر لهم السلطات الجاثمة على آبار النفط أحذية تقيهم من رطوبة الأرض أو توفر لعوائلهم بيوتا غير تلك الأكداس القصبية والأوكار التي لاتليق بالإنسان، ومع كل هذا فقد خرجوا الى تلك الحياة متسلحين بدفء الشمس وقيم الفقراء الطيبين، ينافسوا ويتزاحموا باقتدار ليحتلوا مكانهم في الثقافة.
عن قصيدة النثر يقول المطلبي إنها ليست قصيدة صوتية بل هي قصيدة بصرية وقصيدة قراءة وليست قصيدة إلقاء.
وعن كيفية أن تستعيد الثقافة العراقية توازنها يقول المطلبي الحرية هي إرادة العقل، ونحن نحتاج إلى بناء تحولات اقتصادية هائلة وسياسية وتعليمية واجتماعية، ومن ثم تحولات ثقافية. والثقافة أكثر تحررا لأنها محررة من الموازنة والاقتصاد وعبء حساب الزمن. الثقافة قائمة على شبكة زئبقية ولا تخضع الى القوانين إطلاقا.
في غمرة انشغاله بالبنيوية هاجمه كثيرون، كانت البنيوية مصاداته الدفاعية إزاء ثقافة لم تعد تقبل بغير القطيع، وترديدات المدائح والمراثي.. ذهب المطلبي نحو أقاصي المغامرة النقدية فحصن نفسه من السقوط وهو ما سيظل بسببه رافعاً هامته بفخر. فهل من مناسبة أكبر من ذلك للاحتفاء بالرجل ؟
ومقتدرا مثل مالك المطلبي يخرج من بين محنة الفقراء يحتل مكانة في قيادة الثقافة العراقية يشكل ظاهرة جديرة بالاهتمام والدراسة، فقد بقي المطلبي متواضعا رغم ارتفاع هامته، وبقي المطلبي مقتدرا لم تستطع السلطة إن توظفه تحت عباءتها، وبقي الرجل أمينا على أسس الثقافة الإنسانية، ملتصقا بطلابه ومنهجه، يعطي بسخاء دون ابتذال، ويستذكر كل المواقف المليئة بوجع الفقراء ومحنة أرواحهم، ويستذكر معها كل طرائف الزمن الفقير، ومعها أيضا قدرة العراقي على العطاء.
تواضع العلماء الصفة التي يتميز بها مالك المطلبي، وانشغاله بهموم الثقافة العراقية يجعله في مقدمة من يضع الحلول والاحتمالات والاستنتاجات التي يريد بها أن يحقق حلمه في أسس ثقافية صحيحة وسليمة، متخلصة من عوارض الزمن الماضي وأمراض الثقافة.
وأذ نقرأ اليوم الدور المتميز للدكتور مالك المطلبي في فعاليات الثقافة العراقية، نشير بوضوح الى تلك المكانة والمقدرة التي يمكن توظيفها من اجل تمتين أسس الثقافة العراقية وتحصينها بتلك الرموز الكبيرة التي يزخر بها العراق، والتي بقيت رافعة قامتها دون انحناء ومتواضعة جدا تواضع العلماء.
التعليقات