ما كتبته أسبوعية quot;أخبار الأدبquot; عن مرض كاتب البساطة الأعظم إبراهيم أصلان، وعن موقف الدولة المصرية حياله، هو أمر مؤلم ومحبط بكل المقاييس. فهذا الإنسان والفنان النادر، الذي أعطى عمره كله للأدب، فأنتج أدباً بالمعنى الأرفع للكلمة، هو ذا يرقد الآن في قسم رعاية القلب بمستشفى قصر العيني الفرنساوي. يرقد منتظراً - ربما - ما تقرره حكومة بلاده: هل ستسخو على علاجه، أم لا. وحينها ربما يكون مصيره معلّقاً في مهب الريح.
الحكومة المصرية ممثلة بوزارة الصحة، استعدّت، بعد عدة مناشدات وتدخلات، بتحمّل تكاليف العلاج، على ألا تتجاوز الثلاثة آلاف جنيه: أي أقل من 500 دولار!
يا للعار!
هذا هو ثمن إبراهيم أصلان لدى حكومته الرشيدة: 500 دولار لا أكثر!
حقاً: يا للعار!
فإذا كان كاتب عظيم من وزن هذا الرجل، لا يستحق أكثر من هذا المبلغ - الفضيحة، فما بالك بمن هم أقلّ منه وزناً وشأناً؟
ليعذرني القرّاء وأنا أتحدّث عن الوزن والشأن ونحن بصدد الكلام عن مصائر الناس، وعن المرض الذي يتساوى أمامه الجميع، سواء أكانوا من ملح الأرض أم من الأولمب. لكنني حقاً مصدوم ومدهوش: فهل بلغ البؤس بالنظام المصري إلى هذا الدركة من عمى الألوان؟
إبراهيم [ ولا بأس هنا من تذكير البيروقراطية المصرية العتيدة ] هو قبل كل قول: مُعلّم ومَعلم في الكتابة العربية. نسيج وحده كما قالت العرب. وكاتب من أعذب وأنبل الكُتاب ذوي الأسلوب، ليس في مصر أو في العالم العربي الأوسع، وإنما في العالم كله. قاص، كما قال عنه يوسف إدريس يوماً: ( يمتلك سرّ القصة القصيرة ). وروائي، أبدع quot; مالك الحزين quot; و quot; عصافير النيل quot;، فتكرّس بعمليه هذين، روائياً عظيماً.
إبراهيم صاحب اللقطة الأدبية الذكية والبارعة، والتي ستجدها في مقالاته، كما وجدتها سابقاً في تضاعيف قصصه ورواياته: تلك اللقطة التي ما إن تقرأها، حتى تغبطه: كيف اختارها وكيف كتب عنها وكيف قدّمها لك، بكل هذا الدهاء وهذه البساطة الآسرة، فتتذكّر على الفور ما في أنشودة البساطة من تعقيد محجوب، وما في كل فن عظيم من خَطر وميتافيزيقا. إبراهيم صاحب الأسلوب والنكهة، المتفرّد بهما، واللذين هما امتيازه وإنجازه في الكتابة العربية، يرقد الآن، وينتظر، ونحن ننتظر معه، ما سوف تتمخّض عنه بيروقراطية كبار الرسميين في برّ المحروسة.
صاحب بحيرة المساء [ تلك المجموعة القصصية المذهلة ] ويوسف والرداء ووردية ليل وحكايات من فضل الله عثمان وخلوة الغلبان وشيء من هذا القبيل، يساوي فقط: 500 دولار!
لا يعرف المرء، أمام موقف كهذا: هل يبكي أم يضحك أم يأسف لأنه ولِدَ عربياً؟
هل يناشد أحد أثرياء العرب لكي يتدخّل، أم يناشد بلداً أوربياً مثلما صار مع خليل كلفت!
لكنني مُصرّ في كل الأحوال، على مطالبة الدولة المصرية، ليس فقط بتحمّل تكاليف علاجه كلها، بل على إرساله بأقصى سرعة إلى لندن أو باريس. فهذا واجبها وليس منّة منها. بل هذا أقل ما تفعله حيال كاتب مصري صميم وعظيم. كاتب هو، بين كل الكتاب المصرين، أكثرهم تجسيداً لمزاج ابن البلد وعبقرية الروح الشعبية السارية في جسد القاهرة. كاتب مَعلم من معالم مصر. ولو غاب لا سمح الله، سيغيب جزء من روح مصر بغيابه. هل يفهم وزير الصحة المصري دلالات هذا القول؟ وهل يعي أنّ موقفه البيروقراطي هو عيب في حق مصر وحق الكتابة العربية قبل أن يكون عيباً في حقه هو شخصياً كمسئول؟

إنّي أحس بالعار وأنا أكتب هذه الكلمات. ليس فقط لأنّ الموضوع يتعلّق بإبراهيم، أو بسواه من المبدعين العرب الشرفاء والفقراء، بل لأنه يحدث هنا والآن: [ هنا: في بلاد العرب. والآن: في العام السابع من مطالع الألفية الثالثة ]. فأمثال هذه الأوضاع المزرية انتهت في غالبية دول العالم. وما عاد المواطن هناك يقلق على مصيره لو تعرّض لمرض. فكيف إذا تعلّق الأمر بكاتب عظيم يمرّ بمحنة وربما لا يخرج منها؟
أعذروني لو عذّبتكم فتذكّرت في هذا السياق كلمة تشرتشل حين سئل أيهما أفضل للتاج الملكي: التخلّي عن قارة الهند أم التخلّي عن شكسبير، فردّ الرجل سريعاً وبشكل حازم: طبعاً نتخلّى عن الهند! فالمملكة المتحدة يمكنها أن تعيش بلا مستعمراتها، لكنها أبداً لن تكون هي لو تخلّت عن شكسبير.

سلامتك يا عم إبراهيم
وسلامتك يا خليل كلفت
وسلامتك يا أبو دومة
وسلامة كل كُتاب العربية - أينما كانوا وحيثما وجدوا - وهم يكتبون تحت الدرجة صفر من الأمان.