في لقائهما الأخير بالقاهرة، اتفق مشعل وعباس على خطورة الوضع في قطاع غزة. وعلى ضرورة وضع حد لظاهرة التطرف الديني والأفكار التكفيرية التي تنتشر سريعاً بين فئة من الشباب المسلم التابع لحماس وغير حماس. حيث يقترب هؤلاء حثيثاً من أفكار تنظيم القاعدة. بل إنّ بعضهم أعلن أنه من القاعدة، أثناء الاعتداء على المدرسة الأمريكية بغزة، كما أخبر بذلك حراس هذه المدرسة.

المؤلم في الأمر، أن لا عباس ولا مشعل ولا غيرهما من قادتنا بقادرين على مواجهة ظاهرة التطرف الديني في غزة. فمع انتشار الثقافة الدينية في كل مكان من المدينة، ومع مفاعيل الحصار الاقتصادي الفادحة على سواد الناس، لم يعد ثمة من ملاذ غير ملاذ التطرف والعدمية. التطرف والعدمية اللتين ساهم في صناعتهما جبروتُ إسرائيل من جهة، وفسادُ سلطة فتح السابقة من جهة، وثقافةُ حماس ذاتها من جهة ثالثة.
هذا هو المؤلم، أما المضحك [ ضحكاً كالبكاء ]، فهو معرفتنا بأنّ اتفاق المسئوليْن هو مجرد كلام بلا طائل. ولن يرى النور لا في القريب ولا في البعيد. فقد سبق السيف العذل كما يقال _ أو هكذا يبدو الأمر في الواقع.

عباس رجل عاجز بكل معنى الكلمة. فلا سلطة له على أحد. فهو يبدو كرئيس شرفي لا فعلي للشعب الفلسطيني. وأقل أمير حرب في غزة له من التأثير والفعل، أضعاف ما لدى عباس. أما مشعل، فلا نظن أنه جاد فعلياً في مقاومة ظاهرة التطرف الديني، فهو نفسه خارج من تحت هذه العباءة. والأمر لا يعدو أن يكون رغبة سياسية في المحافظة على مصالح حماس، الموجودة اليوم على رأس الحكومة، وعدم تبديدها تحت خيمة هؤلاء الشباب المسلحين المتطرفين الناظرين إلى تنظيم القاعدة، كمستقبلٍ لهم. أي أنّ خلاف مشعل معهم هو في الدرجة لا النوع. فكلاهما من منبت واحد وتربة واحدة.
أثناء ذلك وقبله، تواصل إسرائيل تضييق الخناق على الشعب الفلسطيني، لتقطف الثمرة المرجوّة والمدروسة جيداً : فمع حصار كهذا لن يكون هنا سوى الجوع والضيق والحصر والتطرف الديني والفوضى. وهذا بالضبط ما تريده إسرائيل، لكي لا يكون ثمة أية بوادر حقيقية للسلام. فالتطرف الديني يخدم مصالحها بالأساس. والفوضى تخدم مصالحها بالأساس. تطبيقاً لمقولتها بعدم وجود شريك يمثل كل شرائح الشعب الفلسطيني، كي تتفاوض معه.
المحيّر حقاً، أنّ العالم كله يتواطأ مع الحكومة الإسرائيلية في هذه اللعبة الخطيرة. حتى أصبحنا لا نميّز كثيراً بين الخيط الأبيض لأوروبا الموحدة، وبين الخيط الأسود لأمريكا. كل يوم يمرّ، مع هذا الحصار السياسي والاقتصادي، يُفاقم من خطورة الأزمة، ويفتحها على مهاوي الكارثة. شعب يجوع وينتظر بارقة أمل. قيل له شكّلْ حكومة وحدتك الوطنية، وبيصير خير، فشكّلها وفرح لتشكيلها، ليكتشف بعد أكثر من مرور شهر على تشكيلها، وكأنّ العالم يضحك عليه ! فلا الحصار الاقتصادي رُفع عنه، ولا القنوات المسدودة في السياسة فُتحت أمامه. ترى : ما الذي يريده العالم من شعب جائع ومحصور في الزاوية ؟

لم يعد ثمة من ضباب. العالم لا يريد حكومة حماس ولا حكومة فيها حماس. إما أن تذهب حماس إلى غير رجعة أو أن تجوعوا. كلا لن نميتكم من الجوع، بل سنعطيكم ما يقيم الأود فحسب. أي تمشاية حال بالحد الأدنى وبأقل المصاريف. أما أن تحلموا بالتنمية والتطوير وفتح آفاق المستقبل لكم ولشبابكم العاطل فلا.
هذه هي رسالة العالم الواضحة المحددة حتى الصرامة، وعلى من يهمه الموضوع أن يفهم، فإن لم يفهم فذنبه وذنب شعبه على جنْبه كما يقال.
إنّ الشعب الفلسطيني العائش في الأرض المحتلة، هو آخر شعب في العالم مسموح له بالخروج عن الخط. فهو شعب يعيش عالة على الغرب. ولذا فلا إرادة له ولا مجال أمامه سوى الرضوخ.

هذه هي الرسالة. وأظن أنها وصلت للعقلاء من شعبنا. لكننا مع ذلك، نقول شيئاً : على هذا الشعب، هنا والآن، أن يخرج بأقل الخسائر، من براثن هذه المعادلة الظالمة. لا أن يفعل العكس، كما تشير عليه بذلك ثقافته : ثقافة quot; المقاومة quot; التي تربّى عليها خلال عقود. فلا مجال اليوم لمزيد من العنتريات أو المراوغة أو المراوحة.
لكن هذا لن يحدث طبعاً. وما سيحدث على الأرجح هو التالي [ ونتمنى ألا يحدث ] : مزيد من الحصار الاقتصادي، سيقابله بالضرورة مزيدٌ من التطرف الديني وشيوع الأفكار التكفيرية. فالضحية حين لا تستطيع الانتقام من جلاّدها، ستنتقم من نفسها : ستأكل نفسها. والحال أننا ذاهبون للكارثة، ما لم ترفق بنا قوى العالم القادر.
أما اتفاق مشعل وعباس، فهو كلام في كلام. فأحدهما غير قادر، والثاني قادر بعض القدرة ولكنه لا يريد !
كلام يثير الشفقة، خصوصاً على عباس. وكلام يثيرها أولاً وبالأخص على أنفسنا. فنحن لم نعد نعرف، بعد أن وقعت فأس حماس في الراس، ماذا نريد من أنفسنا وماذا يريد منا العالم.