في إحدي أمسيات معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1988، ألقي عبد الحميد البكوش رئيس وزراء ليبيا الأسبق، والمعارض الليبي الأشهر آنذاك، مجموعة قصائد عاطفية ووطنية نالت اعجاب جمهور الحاضرين وانتزعت التصفيق طويلا، في أول ظهور علني له خارج اطار السياسة، بعد المباراة الشهيرة التي جرت في الثمانينيات بين مخابرات الجارين العربيين الشقيقين.
وعقب انتهاء فقرته الشعرية التي طالت قليلا، هبط البكوش من علي منصة الإلقاء ليلتف حوله مجموعة من المثقفين والدبلوماسيين العرب ونفر من الجمهور منعه الأمن من
عبد الحميد البكوش فى ذمة الله |
وتكهرب الجو وسادت حالة من الهيجان الأمني وصل إلي حد الإنفلات والتطاول علي رئيس هيئة الكتاب وقتئذ الدكتور سمير سرحان، ناهيك عن الاستنفار في أروقة معرض الكتاب بمدينة نصر وشارعي صلاح سالم والأوتستراد، وكان الكل في الخارج يسأل عما يجري داخل معرض الكتاب إلي هذه الساعة المتأخرة من الليل والتي امتدت حتي فجر اليوم التالي، وفي الداخل كان الكل متهما ومحتجزا حتي تظهر حقيقة اختفاء البكوش،بسؤال الجميع واستجواب المسئولين والحرس والجمهور عن أي معلومة تخص البكوش، واستمر الحال حتي الثالثة فجرا.
كانت العلاقات الليبية المصرية سيئة في تلك الفترة، وكانت لعبة اغتيال المعارضين السياسيين علي أشدها، مما اضطر العديد منهم للهرب بأعجوبة إلي خارج ليبيا، وطلب اللجوء السياسي إلي مصر وغيرها من الدول، ومنهم البكوش بطبيعة الحال الذي جاء إلي مصر سنة 1977 فى عهد الرئيس أنور السادات، وأقام بها حتى سنة 2001، إلا أن تحسّنت العلاقات بين العقيد معمر القذافي والرئيس حسني مبارك، مما اضطره إلى مغادرة مصر والإقامة فى دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث توارى عن الإنظار وتوقف عن الكتابة في الصحف العربية الدولية التى كان يكتب فيها مثل: الحياة والشرق الأوسط.
أول محاولة اغتيال تعرض لها البكوش فى القاهرة سنة 1982 ولكن السلطات المصرية أحبطت المحاولة فى الحين، وألقت القبض على المتورطين فيها. وبعد سنوات قلائل من هذه المحاولة الفاشلة وكنوع من الحرب والخداع المخابراتي والإعلامي في تلك الفترة، عرض التليفزيون المصري صورا للبكوش وهو مدرجا في دمائه، مقتولا في بانيو الحمام الخاص بشقته، ليؤكد هذه المرة نبأ اغتياله، والذي لم تعلم عنه القيادة الليبية شيئا !.
ويبدو ان اتقان حبكة الأغتيال الزائف للبكوش، والرغبة في رد الاعتبار الليبي مع أحد أبرز المعارضين المطلوبين جعلت الإعلام الليبي يهلل فرحا بنجاح المخابرات الليبية في اختراق الأمن المصري والوصول إلي رأس البكوش في قلب القاهرة، دون بذل أدني جهد للتحقق من صدق المعلومات التي تناقلتها وكالات الأنباء العالمية .
في اليوم التالي خصص التليفزيون المصري حلقة مدة ساعتين، تناولت خلفيات وملابسات ونجاحات الأمن المصري في التكتيك والمراوغة في قصة اغتيال البكوش المزيفة، وعرض يومها وزير الداخلية المصري تفاصيل هذه المؤامرة كاملة في مؤتمر صحفي، وكيف احبطت وكيف تم تضليل الأخوة في ليبيا ثم كشف زيف الخطاب الإعلامي الليبي، عن طريق اجراء حوار مطول ومباشر مع عبدالحميد البكوش نفسه، الذي ظهر عبر شاشات التلفزيون المصري سعيدا ساخرا من ان ينال منه النظام الليبي.
كل ذلك كان حاضرا في أذهان المحتجزين داخل قاعة مستطيلة بمعرض الكتاب في تلك الليلة الليلاء من شتاء شهر quot; طوبة quot; يناير، وكنت واحدا من هؤلاء التعساء، الذين لا ناقة لهم ولا جمل ولا ذنب اقترفوه غير حبهم للثقافة والكتب وأشياء أخري. فقد كنت بحكم وظيفتي أحد الصحفيين المسئولين عن تغطية أنشطة المعرض لمجلة القاهرة التي كانت تصدر عن الهيئة ورأس تحريرها علي التوالي : عبد الرحمن فهمي وابراهيم حماده وغالي شكري، إلي ان تحولت لجريدة اسبوعية يرأس تحريرها الآن صلاح عيسي، فضلا عن انني كنت أحد العاملين في المطبخ الإعلامي الرئيس للمعرض، وكانت اسئلتي الصحفية وتحركاتي المهنية في تلك الليلة لاستجلاء الموقف مثار شك وريبة من الأمن.
حتي جاء الفرج في الثالثة فجرا بعد العثور علي البكوش في ضيافة أحد أقرباءه بضاحية مصر الجديدة القريبة من المعرض. فقد توجه البكوش إلي دورة المياه الملحقة بمكان الأمسية الشعرية، ومنها تسلل مع قريب له في غفلة من كل المحيطين به ليقابل أحد أفراد أسرته الذي وصل سرا إلي مصر مساء تلك الليلة، علي وعد من هذا القريب بعودته مرة أخري لأرض المعارض قبل انتهاء آخر فقرات المعرض، لكن يبدو ان اللقاء قد طال وعند العودة ارتبك المرور وتعقدت الأحوال فعاد البكوش مرة أخري إلي منزل قريبه الذي أبلغ الأمن بصعوبة العودة، وكان علي الأمن ان يتأكد من المكالمة ومن المتحدث، حتي يفرج عنا.
رحم الله عبد الحميد البكوش وكل المعارضين السياسيين، الأحياء منهم والأموات، من المحيط إلي الخليج.
أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
[email protected]
التعليقات