في الذكرى السنوية الثامنة لرحيله في الثالث و العشرين من تموز / يوليو 1999 يحق للتاريخ أن يقول كلمته في حق ملك المغرب الأسبق الحسن الثاني الذي ملأ الدنيا و شغل الناس طيلة أكثر من ثلاثة عقود كانت من أشد عقود التاريخ الدولي الحديث تحولا و تغيرا و إنعطافا، فالحسن الثاني لم يكن مجرد ملك و حاكم عادي مر زمنه و أنتهى عهده ضمن المتواليات الحسابية المعهودة لنظام الوراثة العائلية؟ بل كان من طراز الرجال الذين صنعوا التاريخ و تركوا بصماتهم واضحة على الكثير من تفاصيله و زواياه و بعضها تفاصيل مؤلمة و لكن كانت لها ظروفها الميدانية و حساباتها الإجمالية التي لا يمكن فصلها عن طبيعة العصر و المرحلة و مجمل ظروف الصراعات الدولية و الإقليمية، و هي ظروف لا ترحم و رسمت خيارات كئيبة و مؤلمة و لكنها في نفس الوقت كانت معبرا لحقب أخرى بعد أن تم التعامل بدكاء و حرص شديدين مع ملفاتها الملتهبة، الحسن الثاني ظهر في أوج فترة تاريخية كانت مزدحمة بقيادات دولية كبرى صنعت التاريخ الدولي المعاصر، فهو منذ تسلمه السلطة المباشرة بعد الرحيل المفاجيء للملك الأسطوري و الشعبي محمد الخامس في فبراير 1961 دخل في خضم أصعب معترك و في ظل ظروف إقليمية ودولية و داخلية صعبة للغاية، فكان عليه أولا أن يعوض غياب والده الكبير و الدي لا يسد بسهولة، كما كان عليه التعامل مع الأدوات و الوسائل الإستعمارية الفرنسية القديمة التي لم تزل حينذاك مزروعة في الجسد المغربي بدءا من المؤسسة العسكرية الحديثة التكوين بجنرالاتها المنحدرين من مؤسسة فرنسية محضة و أبرزهم الجنرالات محمد أوفقير و محمد المذبوح و المارشال أمزيان و غيرهم الذين كانوا يمثلون النفودين العسكريين الفرنسي و الأسباني و أن يتعامل مع طموحات العسكريين و الضباط الشباب من أمثال أمحمد عبابو أو أحمد الدليمي و غيرهم العشرات من الذين أصبحوا مراكز قوى مهمة في مؤسسات الدولة و بعضهم لعب فيما بعد أدوارا تاريخية دموية و عاصفة في التاريخ المغربي المعاصر؟ و هي أدوار ظلت مؤثراتها تطبع حتى اليوم الذاكرة الجماعية للمغاربة، كان على الحسن الثاني و هو يتسلم العرش أن يؤكد الهوية الوطنية و الحضارية و الروابط القومية و التاريخية للشعب المغربي المتكون من عناصر و جذور و أعراق شتى من الأمازيغ بقبائلهم و تفرعاتهم إلى العرب بقبائلهم إلى الأفارقة و من أديان متباينة من اليهودية حتى الإسلام و أن يكون العرش هو الإطار الجامع و المانع للوحدة المغربية المتأصلة عبر التاريخ في تناغم و إنسجام لم تخلوان من مشاكل و أزمات تبلور أهمها بعد الإستقلال عام 1956 الذي أعتبرته بعض القوى إستقلال ناقص؟ بينما حاولت قوى أخرى الهيمنة على المجتمع و الدولة من خلال ركوب موجة الولاء المصطنع للعرش، فيما أثيرت قضايا و نزاعات عرقية و عشائرية و مناطقية كما حصل في الريف في شمال المغرب أعوام 1958 و / 1959
وحيث تدخل الجيش و قمعها بكل قسوة لتظل تلك المناطق فيما بعد عنوانا لأهمال و تهشيم تاريخي لم ينقطع إلا في السنوات الأخيرة؟ كما إنتفضت بعض قبائل الأطلس المتوسط، و تمردت الأحزاب و الجماعات اليسارية التي كانت سمة و عنوان و موديل تلك المرحلة؟ يضاف لذلك كله الصراع المحتدم بين القوى السياسية الداخلية في المغرب للهيمنة على السلطة متصورين أن غياب الملك محمد الخامس سيكون الفرصة التاريخية لتحقيق أهداف تلكم الأحزاب؟ و لكن الحسن الثاني المثقف قانونيا و تاريخيا و سياسيا كان قائدا من نوع فريد و ذو مواصفات شخصية و نفسية لا يمكن أن تستنسخ بسهولة؟ فهو قد نهل من التراث الإسلامي بما جعله نموذجا لحكم القرون الوسطى و لكن بأساليب عصرية متطورة و نجح في الموائمة بين التراث و الحداثة مشكلا خلطة سياسية عجيبة لا يمكن أن تتكرر بسهولة؟ و كان عهده بكل تناقضاته و إيجابياته و سلبياته هو الأساس المكين لحالة الإستقرار و التنمية و الحداثة التي تميز المغرب المعاصر؟ فالحسن الثاني قد خاض مخاضات دموية صعبة للحفاظ على النظام الملكي في عالم عربي كانت تتقلص فيه مساحات الأنظمة الملكية و الدستورية بشكل مرعب منذ إنهيار حكم أسرة محمد علي في مصر عام 1952 ثم تبعها إنهيار النظام الملكي الهاشمي في العراق عام 1858 و نظام الإمامة في اليمن و صعود عصر الجمهوريات الثورية بعد إستقلال الجزائر عام 1962 و التي دخلت على الفور في حرب الرمال المعروفة مع المغرب عام 1963 و حيث توغل الجيش المغربي في العمق الجزائري قبل أن يأمر الملك الحسن الثاني بوقف ذلك التوغل لأنه لا يريد تصعيد الموقف الإقليمي بل فرض السلم و الإستقرار، لقد خاض الحسن الثاني معتركات صعبة من أجل البقاء و التطور وهي مخاضات لا يمكن أن تمر دون أن تترك مؤثراتها و بصماتها على الوضع العام، لقد كانت مرحلة ملتهبة برزت فيها قيادات دولية مؤثرة كما برزت حركة عدم الإنحياز و شهدت صعود التيارات الإشتراكية و الشيوعية مصحوبة بالآمال الجسام و بتطور الحرب الكونية الباردة التي إستهلكت من الأدوات و الشعوب و الأنظمة ما إستهلكت، لقد كان عصر جمال عبد الناصر و جواهر لال نهرو و المارشال تيتو و كوامي نكروما و أحمد سوكارنو و آيزنهاور و همرشولد و جون كينيدي، فقد كان عصرا و زمنا مزدحم بالعمالقة و الكبار من الذين صنعوا القرن العشرين المنصرم و كان الحسن الثاني دون جدال و قفزا على أي مشاعر حب و كراهية واحدا من أولئك العمالقة الذين برزوا في شعوب العالم الثالث و في بداية عصر الإستقلال الوطني و القومي، و لقد حفل عهد الحسن الثاني دون شك بمراحل دموية كان سببها الرئيس الإحتقان و النزاع بين القوى السياسية يضاف لذلك كله تمحور و صعود القيادات العسكرية التي إستغلت الظروف الإستثنائية لتقوم بمغامرات شبيهة بمغامرات عسكر الشرق الأوسط، فكانت المحاولات الإنقلابية الكبرى التي هزت المغرب مطلع السبعينيات من القرن المنصرم وهي محاولتي قصر الصخيرات في العاشر من تموز 1971 و تورط ضباط و طلاب المدرسة العسكرية المغربية في هرمومو في جبال الأطلس المتوسط و وقوف مدير ديوان الضباط في القصر الملكي و أحد المقربين للحسن الثاني وقتها الجنرال محمد المذبوح خلفها و التي إنتهت نهاية دراماتيكية و دموية مرعبة و بشكل هز المؤسسة العسكرية و أصاب الزلزال المؤسسة الملكية ذاتها بعد أن فجعت بحماة العرش و هم يتآمرون لتقويض العرش و إدخال المغرب في متاهات الإنقلابات المشرقية التي لم تسفر سوى عن المصائب الثقيلة؟ و كانت المحاولة الأخرى و الأخيرة في حادث الطائرة الملكية في السادس عشر من أغسطس 1972 و الذي وقف خلفه بشكل مباشر وزير الدفاع و رجل العرش القوي الجنرال محمد أوفقير؟؟ و هو إنقلاب ترك من البصمات ما طبع مسيرة الحياة السياسية للحسن الثاني حتى النهاية؟ لقد خان أقرب الرجال و أشدهم ولاءا في الظاهر؟ مما أشاع حالة من التصفيات السياسية كانت من معالمها الشهيرة السجون و المعتقلات السرية و الرهيبة التي دخلت أدبيات أشهر السجون العالمية و منها قصص معتقل سجن تازمامرت الصحراوي الرهيب و المميت و معتقلات سرية أخرى و ظهرت تجاوزات أجهزة الأمن و المخابرات و سيادة حالة الطواريء المعلنة قبل أن يتحرك الملك في سنواته الأخيرة و يخفف من حالات الإحتقان و التوتر و يحاول التطبيع و التغيير بعد أن تلاشت تقريبا ذكريات و مخاوف الماضي الرهيبة و لعل خير حسنات النظام الملكي المغربي هو إعترافه الواضح و الصريح و الشجاع بكل التجاوزات موفرا الحرية الكاملة لإماطة اللثام عن كل آثام الماضي و فاتحا الطريق لمصالحة حقيقية و فاعلة بين الدولة و خصومها و محاولة جبر الضرر و التعويض عن كل مآسي الماضي القريب وهي محاولات و ملفات لم تزل متواصلة و هو الأمر الذي جنب المغرب كثيرا من مصائب أنظمة المشرق؟ لقد كان الحسن الثاني يمتلك من الشجاعة الأدبية ما يجعله يعترف بالخطايا و يوفر البدائل و يمهد الطريق لبناء مغرب جديد خالي من عقد و مأسي الماضي الدموية و الإنسانية. من الصعب الحديث عن الحسن الثاني عبر مقال عابر، فتاريخ ذلك الملك هو تاريخ مسطر للمغرب الحديث وحيث يعيش المغاربة اليوم عصر التنمية و التغيير و تسلق أهرامات المستقبل بخطى وئيدة و صعبة و في ظل تحديات ليست سهلة كان الحسن الثاني قد زرع بذورها الحقيقية مؤسسا و بانيا بمغرب جديد يشهد حتى اليوم نجاحات لا بأس لها دون التغطية على جوانب الفشل و القصور، و يبقى الحسن الثاني بالفعل آخر الملوك التاريخيين من الذين صنعوا القرن العشرين... إنها خواطر و إنطباعات شخصية عابرة عن ملك جمع بين القسوة واللين، و بين عصر الخلافة العباسية و عصر التنوير و الديمقراطية؟
[email protected]