في الجدل بين الشيخ يوسف القرضاوي ومخالفيه بعد تصريحاته عن الانتشار الشيعي في البلدان السنية رد عليه آية الله العظمى محمد حسين فضل الله مستنكرا عليه خشيته من التوسع الشيعي ودعوته للتصدي له. في رده عليه قال السيد فضل الله ضمن أشياء أخرى إنه لم يسمع عن الشيخ القرضاوي ما يدعو للتصدي لـ quot; اختراق العلمانيين أو الملحدين للواقع الإسلاميquot;.
يرد الشيخ القرضاوي على هذا الاتهام قائلا: quot; يا عجبا! لقد وقفتُ للعلمانيين والملحدين في كتبي ومحاضراتي وخطبي وهي منشورة ومشهورة quot;
علماء أجلاء تربطهم ببعضهم علاقات ودية ووثيقة اختلفا الآن فيما ذهبا إليه في موضوعة التسنن والتشيع ولكنهما اتفقا على الوقوف بوجه العلمانية.
إن الشيخ القرضاوي وآية الله فضل الله هما من اشهر علماء المسلمين اعتدالا ويمثلون أوساطا واسعة من المسلمين من الطائفتين، ولكن سياق رد السيد فضل الله يوحي بأنه يساوي بين الملحدين والعلمانيين، ولم نجد إشارات واضحة للسيد فضل الله عن الموقف من العلمانية والعلمانيين ولكن سؤالا طرح عليه أوردته quot; شبكة الفجر الثقافيةquot; يقول: ما هو حكم الإسلام على العلمانية والعلمانيين والأنظمة العلمانية؟
يكتفي السيد فضل الله بالاستشهاد بالآية الكريمة: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)
بهذا الاستشهاد نرى أن السيد فضل الله يرى في العلمانية دينا آخر رغم إنها في جوهرها هي فصل الدين عن الدولة وان الداعي اليها قد يكون مؤمنا ويؤدي الفروض.
لكن موقعا آخر يُتيح لنا امكانية أن نستنتج شيئا مختلفا قليلا، فتعليقا على قرار المحكمة الدستورية التركية بمنع المحجبات من دخول الجامعة يقول السيد فضل الله عن العلمانية التركية بأنها:
quot; انطلقت من خلال الذهنية الشرقية المشابهة للعصبية العشائرية، بحيث أنها هددت حقوق الإنسان وأسقطت الحريات الإنسانية على مستوى فرض الأمّية التعليمية على غالبية النساء المحجبات اللاتي يرفضن نزع الحجاب باعتبار أنه تكليف شرعي وفريضة دينية. ولذلك فقد أصبحت هذه العلمانية تشبه العصبيات الدينية المنغلقة quot;. ولو كان السيد فضل ينتقد بذلك العلمانية عموما لما حددها وأشار الى منطلقاتها.
و بمقارنة العلمانية التركية بمصدرها الاوربي رأى السيد فضل الله: quot; وأمام ذلك تبدو العلمانيّة حالةً متخلّفة من ناحية المثال الذي تقتدي به، وتتحرّك على هديه quot;.
ما ورد أعلاه يوحي لنا انتقاده للعلمانية التركية حصرا باعتبارها مشوهة quot; انطلقت من خلال الذهنية الشرقية المشابهة للعصبية العشائرية quot;، أي انه يشير افتراضا الى وجود علمانية اخرى كما في الغرب تحترم الدين والعبادات ولا تلزم المرأة المسلمة بترك الحجاب كما في أغلب دول اوربا وروسيا حسب ما اورده السيد فضل الله في حديثه.
و من سياق الحديث يمكننا القول أن السيد فضل الله يدين هذه العلمانية ولكنه يرى إمكانية وجود علمانية أخرى quot;منفتحةquot; ويقترب السيد فضل في ذلك الى ما ذهب إليه الشيخ القرضاوي الذي كان أكثر وضوحا ورأى إنهم (أي العلمانيين) مسلمون ولم يتفق مع من يكفرهم. ففي مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية كتب الطاهر ابراهيم موضحا موقف القرضاوي من العلمانية قائلا أنه يعتبرهم مسلمين ويرفض تكفيرهم ويستشهد بما أورده القرضاوي في برنامج الشريعة والحياة.
و في كتابه quot; الإسلام والعلمانية وجها لوجه quot; يشير الشيخ القرضاوي الا انه اشترك في حوارات مع العلمانيين كما حصل في الندوة التي دعت اليها اللجنة الثقافية في نقابة الأطباء بالقاهرة والتي تحاور فيها إسلاميون وعلمانيون، يقول الشيخ القرضاوي في هذا الكتاب: quot; رحبت بهذا الحوار، وهذه الندوة، حيث يلتقي الطرفان وجها لوجه، لمناقشة قضية هي من اخطر قضايا الساعة quot;.
لكن الشيخ القرضاوي يدعم في نفس الكتاب ما ذهب إليه من يصفه بـ quot; الكاتب المسلم اليقظ quot; فهمي هويدي الذي نبه إلى أن هناك تنظيمات متطرفة للعلمانيين ينبغي أن تدان، كما دينت تنظيمات دينية متطرفة مثل التكفير والهجرة quot;.
و بشكل عام يقترب الشيخ القرضاوي والمرجع السيد فضل من بعضهما في هذه الموضوعة ولا يبقى لدينا سوى تعليق قصير ولكنه ذو أهمية كبيرة يفيد بأن هناك خلطا بين الإلحاد أو عدم الإيمان من جهة والعلمانية من جهة أخرى، العلمانية التي لا تعني سوى فصل ما هو ديني عما هو ذو صلة بإدارة الدولة، ولكنها في الوقت نفسه تقوم على احترام الدين وحرية العبادات ضمن إطار الحريات الشخصية وليس كآلية لإدارة الدول، واذا ما كان هناك من أتباعها من يحمّل العلمانية أكثر مما تتحمل وابعد مما تسعى إليه فإن هذه الظاهرة ليست بغريبة حتى على الفكر الإسلامي نفسه وعلى كل فكر آخر كما سيأتي في اللاحق من حديثنا.
تعريف العلمانية
بوسع القارئ أن يجد عشرات التعريفات المختلفة للعلمانية، هذا التعدد المختلف والمتناقض أحيانا مرتبط بحقيقتين: الاولى موضوعية تتعلق بأن الظاهرة الاجتماعية أو الفكرية.. الخ نفسها هي بطبيعتها ليست ذات حدود وتتداخل مع غيرها وأن حاملها البشري يختلف في تأويلها.
و الثانية من صنع الجدل بين انصارها وخصومها من الذين يرغبون لها حدودا كما يروها ومضمونا كما يرتضونه يهدف في النهاية الى التعبير عن وجهة النظر الشخصية اكثر مما يعبر عن الظاهرة القائمة موضوعيا، هنا يسعى المعادون لها على سبيل المثال إلى الادعاء بأنها تعني انكار العبادات والاديان ويخلطون بينها وبين الفكر الفلسفي المادي أو بينها وبين الإلحاد، ولكن العلمانيين من القوى السياسية الاوربية حيث نشأت العلمانية ولدينا في البلاد العربية والإسلامية قد يكونون مؤمنين ولا ينكرون الاديان ولكنهم يرون ان الدين لم يعد قادرا على الاجابة على أسئلة ادارة الدولة والعلاقات الدولية المتشابكة ولذلك فهم يعتمدون العلمانية أو فصل الدين عن الدولة في ادارتها على إنهم يمارسون معتقداتهم بشكل منفصل غير ذي تأثير مباشر على عملهم quot; الدنيوي quot; الذي يرون انه يجب أن يعتمد الوقائع.
العلمانية قد تكون ترجمة غير صحيحة كما يرى بعض المفكرين ولكن هذا لم يعد يلعب دورا كبيرا في تحديد اطارها، فمدلول الكلمة هو اعتراف جمعي بمحتواها بغض النظر عن جذورها، وقد اكتسب مفهوم العلمانية ثباتا نسبيا وتحدد اطارُه.
و ضمن هذه التعريفات علينا من اجل الدقة اعتماد التعريف الذي يقول بأن العلمانية هي فصل الدين عن الدولة وقد ترد بهاتين الصيغتين جنبا إلى جنب والتشديد على انها غير مرتبطة بانكار الدين وهذا ما يفسر موقف بعض علماء الدين المتسامح منها واعتبار أن الحوار مع المؤمنين بها جائز.
و ليس من النافع التهليل للمتطرفين الذين يجدون فرصة للنيل من الإسلام والصاق التهم به فقد مرت كل الاديان التي يدافع هؤلاء عنها ويعتبرونها جديرة بالمقارنة او التفضيل بمراحل صراعات دموية قد لا تكون ذات صلة بالدين نفسه ولكن غلبة الاتجاهات المعتدلة من كل الاطراف هي التي ساعدت كل الاطراف على التغلب على الصراعات المدمرة وقادت الى الاستقرار، أما تكذيب الاخر وإلغائه من قبل أي طرف فلن يساعد على الوصول الى حل اشكاليات مجتمعاتنا، تلك الاشكاليات التي قادت إلى صراعات الحقت الضرر بشكل واسع النطاق بالنسيج الاجتماعي.
مثال اوربي
في أوربا وفي ألمانيا تحديدا يعتبر الحزب المسيحي الديمقراطي من أقوى الأحزاب السياسية وهو يتولى منصب المستشارية الذي يعادل مركز رئيس الوزراء والذي يتمتع بأعلى سلطة تنفيذية بشخص المستشارة انكيليكا ميركل ولكن هذا الحزب الذي يحمل أسم quot;مسيحيquot; يحكم في إطار العلمانية ولا يجد في ذلك تناقضا لان الفكر المسيحي بالنسبة لهذا الحزب مجرد ثقافة وإرث اما فيما يخص إدارة الدولة فإن هذا الحزب يديرها بشكل علماني بحت ولا يخلط ما هو ديني عبادي بما هو دنيوي إداري يعتمد الوقائع.
و تعطينا أمثلة الحكم في ألمانيا أمثلة كثيرة على الانفتاح فحين دعا وزير الداخلية الألماني (وهو بالمناسبة من الحزب المسيحي الديمقراطي) إلى منح المسيحيين العراقيين اللجوء حصرا ودون غيرهم من العراقيين في ألمانيا بعد أن تصاعدت ضدهم العمليات الإرهابية تعرض لانتقادات شديدة حتى من بعض الأطراف في حزبه من الذين دعوا الى توفير الحماية لكل عراقي تتعرض حياته للخطر بغض النظر عن الدين. وتعطي الدول الأوربية ملجأ للآلاف من المسلمين الذين يتعرضون للخطر في بلدانهم quot; الاسلامية quot; رغم قيام quot; مسلمينquot; باستغلال هذا الموقف الأوربي المتساهل وقيامهم باستعمال هذه الحرية بالدعوة الى زعزعة المجتمع الأوربي بوصفه quot; مجتمعا كافرا quot; وقيام بعض رجال الدين في اوربا بوصف الأوربيين بالقذرين والكفار وأعداء الله حسب تسجيلات معلنة لخطباء في الجوامع الألمانية. للمزيد من هذه المواقف نعرض على القارئ باختصار قصة قابلان.
مثال قابلان
محمد متين قابلان من مواليد 1952 في تركيا، لجأ إلى ألمانيا في العام 1983 ومنح اللجوء السياسي في عام 1992 قاد بعد وفاة أبيه منظمة إسلامية متطرفة تسمى الوحدة الإسلامية وأعلن نفسه في خطبه من على المنابر خليفة للمسلمين في مقاطعة كولونيا الألمانية داعيا إلى تأسيس حكم إسلامي فيها، كان يخطب في اتباعه حاملا السيف، وفي عام 1996 دعا في الصحيفة التي تصدرها منظمته الى قتل خصمه السياسي هلال ابراهيم صوفو الذي كن قد ادعى الخلافة لنفسه، قال قابلان في تبرير دعوته لقتل صوفو: لا يجوز لأحد أن يدعي الخلافة بوجود خليفة فعلي (يقصد نفسه) وبعد ذلك بفترة قصيرة قتل هلال صوفو باطلاق النار عليه. كان اتباع قابلان من المسلمين المتشددين والمغالين، وكان جميع المحيطين به من الشباب الاقوياء العاطلين عن العمل والذي يتلقون أموال الإعانة الاجتماعية من السلطات الألمانية وكانوا جميعا يدعون بشكل علني إلى تهديم المجتمع الألماني وتأسيس خلافة إسلامية هناك!
بدأت المحكمة تحقيقاتها بخصوص قابلان بعد مقتل خصمه في العام 1997 ولم تستطع ان تتخذ قرارا بإبعاده عن الاراضي الألمانية الا في عام 2004 ووسط احتجاجات العديد من الالمان ومنظمات حقوق الانسان وبعد استحصلت من تركيا على ضمانات بعدم اعدامه بعد أن صدر عليه الحكم غيابيا وبتهمة الخيانة وهو موجود الان في احد السجون التركية.
قابلان يحمل سيفا في احدى خطبه في الاتباع
لست بصدد القول ان جميع المسلمين في ألمانيا واوربا مثل قابلان بل العكس هو الصحيح وهو إن الكثير من المسلمين في أوربا هم من المسالمين ومن الذي يتعايشون مع المجتمع بتناغم، ولكن هذا المثال يحاول أن يعطي صورة عن المسلم الذي بوسعه الحصول على اللجوء في احد الدول وكيف انه سيكون موضع احترام وتقدير ويحصل أسوة بالآخرين من اللاجئين على الأساسيات من مخصصات مالية وسكن مدفأ ومؤثث وضمان صحي كامل وبطاقة مواصلات مخفضة... الخ. لكن استغلال بعض المغالين لهذه الامتيازات ودعوتهم إلى تحطيم المجتمعات التي آوتهم لم تلحق الضرر بصورة الاسلام فقط بل بوضع المسلمين وطالبي اللجوء ومدى تقبلهم في المجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها.
على أن مثال قابلان يهدف إلى القول أن المغالاة موجودة في كل فكر وعقيدة كما أن المثال يعطينا صورة عن التسامح الذي يتسم به المجتمع الاوربي العلماني الذي تعيش فيه العشرات والمئات من الديانات والمعتقدات، ويشكل العلمانيون الغالبية العظمى من تعداد هذه المجتمعات، ويقبل حتى الالحاد كوجهة نظر وتفتح الكنيسة حوارا مع الملحدين على قدم المساواة كما مع المؤمنين. وبذا فإن العلمانية الحقيقية هي مع كل الاديان وليست لصالح دين واحد.
فالنظام السياسي العلماني في تركيا رغم المآخذ عليه يعطينا المثال بأن النظام العلماني لا يقف بوجه صعود الإسلاميين الى السلطة. لكن لا يمكننا الحديث عن دولة اسلامية تسمح للعلمانيين بالوصول الى السلطة ضمن الآليات السلمية التداولية.

الدول العربية والعلمانية
و في بداية تأسيسها كانت أغلبية الدول العربية وضمن ذلك العراق علمانيا دون أن يوحي ذلك انها دولة ضد الدين بل كانت على العكس من ذلك تحترم الدين والعبادات ليس بالنسبة للمسلمين بل بالنسبة لكافة الأديان على حد سواء، ولم يكن لرجال الدين العراقيين أو المصريين أو السوريين.. الخ أي مآخذ تتعلق بشرعيتها ولم يكفروها، ولكن مناخ المغالاة الذي ساد مؤخرا دفع اوساطا من الإسلام السياسي إلى الوقوف من العلمانية موقفا آخر.
أدى وصول قوى جديدة إلى السلطة في البلدان العربية خصوصا في الخمسينات والستينات عن طريق انقلابات عسكرية وثورات الى اعلان الجمهورية في اكثر من دولة، ولكن هذه الانظمة رغم احتفاظها ببعض ملامح فصل الدين عن الدولة الا انها تحولت الى انظمة ديكتاتورية عسكرية صادرت حرية الرأي والغت التعددية السياسة وقضت على اية امكانية لتداول حقيقي سلمي للسلطة وبذلك تقلص نفوذ العلمانية الى اقصى حد والحق به وبصورته ضرر فادح، وحقيقة الامر أن هذه الانظمة لم تعد كليا علمانية بسبب ان العلمانية مرتبطة ارتباطا عضويا بالديمقراطية والتعددية كما سنرى فيما يلحق من هذا الموضوع.
وهناك من يحاجج بأن دولا ديمقراطية علمانية تمارس أعمالا عدوانية ضد دول أخرى وتدعم دولا معتدية قاصدا الولايات المتحدة، لا شك أن هذه المحاججة واسعة الانتشار وصائبة جزئيا ولكن علينا ان نتناول ظاهرة السلطة كظاهرة معقدة ومتنوعة وذات جوانب متعددة فأعمال العدوان او الاعمال التي تثير انتقادات ما لا علاقة بكل جوانب السلطة وخصائصها ويجب ان تؤخذ هذه العناصر منفصلة عن بعضها، فالعلمانية والديمقراطية وغيرها من مزايا المجتمع الغربي غير مرتبطة بمثل هذه الميول وعلى المرء أن يرى الى الظواهر في علاقتها السببية.
كتاب يساريون
من المسلم به أن التوتر والصراع الديني والطائفي ليس في صالح العلمانية واليسار وليس في نهاية المطاف في صالح أي من المكونات الثقافية والاجتماعية والسياسية في مجتمعاتنا، بل أن من مصلحتهم عدم تصعيد الموقف لسبب بسيط أنهم يرغبون في رؤية مجتمع مدني مستقر ومتسامح وتسوده روح الحوار وليس التعصب على اعتبار أن هذا هو الشرط الضروري للتطور والاستقرار، ولكن هذا لا يعني ان يصار الى الاتفاق بين الاطراف المتجادلة الى تجاوز خلافاتهم بما معناه: دعونا نتوقف عن الجدل وننتبه إلى العدو المشترك: العلمانية! فما يرغب المرء أن يراه هو أن تؤخذ العلمانية وفصل الدين عن الدولة كوجهة نظر جديرة بالاحترام في احتمالات التطور والخروج من الحلقة المفرغة من الاخفاق الذي يؤدي دائما إلى اخفاق آخر.
تبعا لذلك كان على المرء أن يتوقع من الكتاب اليساريين والعلمانيين (أو العلمانيين واليساريين سابقا) أن لا يقفوا الى جانب هذا الطرف أو ذاك في الجدل بين العالمين الجليلين مختارين الموقف تبعا للطائفة التي ينتمون إليها، لقد قرأنا كما قرأ الآخرون بكل تأكيد لمثقفين من اليساريين العلمانيين سارعوا لتجنيد أقلامهم مناصرين هذا الطرف أو ذاك فيما لا شأن لهم به (أو هكذا يفترض) وجندوا أقلامهم لمناصرة احدِ هذه الأطراف بعد أن كانوا كتبوا العشرات والمئات من المقالات منذ السبعينات مطرين فضائل العلمانية واليسار؟ لماذا إذن يتخلى هؤلاء بهذه السهولة عن الراية التي حملوها لعقدين او يزيد بعد أن دفعوا بالعشرات والمئات من الشباب الممتلئ حماسا من الذين قرئوا مقالاتهم وأطلعوا على أفكارهم لأن يدافعوا بكل ما لديهم من قوة عن هذه الأفكار ثم ليعانوا الأمرين من الحكام بل وان يدفعوا احيانا حياتهم ثمنا للدفاع عنها؟
كان متوقعا أن يعمل هؤلاء المثقفون على التقريب بين وجهات النظر وتغليب منطق المصالحة وأن يقترحوا طريقا ثالثا بدلا من الانخراط في هذا الجدل والتحزب لأحد هذين الطرفين، ما كان متوقعا هو أن يكون الطريق الثالث هو الدعوة الى فصل الدين عن الدولة والاخذ بالحداثة واعتماد العلم.. الخ تلك الاجراءات التي تتضمن الاحترام الكامل للدين وللمقدسات، وما كان منتظرا أن يطرحه هؤلاء المثقفون هو الموقف المتسامي عن الاختلافات الدينية والمذهبية وليس التحزب للطائفة.
نعم! الطريق الثالث هو ما انتظر كثيرون أن يطرحه هؤلاء المثقفون علما بأن كل مسار العلم قد دل على الحقيقة التالية: في حومة الجدل بين تيارين قويين متصارعين او متجادلين كان يوجد دائما طريق ثالث يقود الى المخرج.
لماذا يكون الطغاة والديكتاتوريون دائما علمانيين؟
لعل اكثر الحجج التي يحاول المعادون للعلمانية أو لمبدأ فصل الدين عن الدولة اعتمادها على نطاق واسع لدحض الدعوة إليها هي: أن الطغاة كانوا دائما علمانيين حسب وصفهم.
من الواضح أن الطغاة لم يكونوا أبدا علمانيين وانما يختارون العلمانية لأنهم لا يرغبون في أن يشاركهم احد في السلطة لا رجل دين ولا كنيسة ولا اية مؤسسة أخرى وإنهم، كما لا يخفى، يسعون للسلطة خالصة لهم دون أن تكون ثمة أية مبادئ أو اعتبارات أخرى غير الإخلاص المدعوم بإرادة حديدية لغريزة البقاء بالسلطة وبأي ثمن.
يعمل الطغاة بمنطق انتقائي من اجل فصل العلمانية عن لازمتها التي ترتبط بها ارتباطا عضويا وهي الديمقراطية والتداولية فليس بوسع الديمقراطية ابدا أن تكون غير علمانية.
إن تبني علمانية مشوهة مفصولة عن شروط نشأتها هو ما يعمل عليه كل ديكتاتور لأن نفوذا، مهما كان صغيرا، لرجال الدين سيكون أما احتكار للقرار أو، على الأقل، مشاركة حاسمة فيه. يعمد الطغاة وكل الدكتاتوريين بذا إلى استئصال العلمانية من ارتباطاتها وشروط نشوءها.
جذور فصل ما هو ديني عما هو دنيوي في الاسلام
لم يكن الفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي جديدا على حياة المسلمين منذ عهد الرسول (ص) فقد جمع قادة المسلمين منذ ذلك الحين في شخصهم القيادة الدينية والدنيوية واخضعوا الأخيرة لاعتبارات الحسابات الواقعية، ففي عهد الرسول كان هناك اكثر من مثال تاريخي على انه اعتمد الحسابات الملموسة الواقعية في اتخاذ القرارات وتنظيم امور المسلمين وعلاقتهم بغيرهم. وفي الحروب والمعارك والمعاهدات والاتفاقات كان الهادي اليها تحكيم العقل والمنطق وليس الوحي دائما (راجع رجاء ما جاء في سيرة ابن هشام في موضوعة اختيار مكان معركة بدر) ولو اردنا أن نعلل ذلك ضمن الإطار الإيماني نفسه لما وجدنا في ذلك أي تناقض فكما ذهب إليه الرصافي في مؤلفه quot; كتاب الشخصية المحمدية quot; في أن العقل هو ما وهبه الله للانسان وان تحكيم العقل بأخذ واقع الحال (أو الوقائع على الأرض حسب التعبير المعاصر) يعود في نهاية المطاف الى الذات الخالقة لهذا الجزء المفكر وليس للانسان وحده.
ولكي لا نوغل فإن من النافع فقط ان نشير عموما ان القائد في العهود الاسلامية كان يمارس في الغالب مهمتين كقائد واقعي يمارس مهامه الوظيفية الدنيوية وكقائد اسلامي كأمير للمؤمنين، وان نركز دون الخوض في التفاصيل والامثلة على أن لا أساس في محاربة الانسان العلماني واعتباره بعيدا عن الاسلام ناهيك عن قتله وتصفيته التي لا يمكن ان تبرر تحت أي من المبررات وتحت أيٍ من العقائد.
الطائفية والعلمانية
دخلت مرحلة معاداة العلمانية طورا جديدا بظهور ورسوخ الطائفية كعنصر فعال في الحياة السياسية في منطقتنا. الطائفية هي من اشد اعداء العلمانية وترى أنه لا مجال لأية مصالحة بينهما، وهي، أي الطائفية، غير مخطئة في هذا التشخيص، فالعلمانية هي من اشد اعداء الطائفية اذ انها تنزع ابن الطائفة عن المحيط الذي وضعه له قادتها المهتدين بالفكر الطائفي، وترى الطائفية أن الانتماء للطائفة والولاء المطلق لقادتها هو الواجب المقدس لكل أبنائها.
صرح السيد نوري المالكي رئيس الوزراء الحالي قبل استيزاره أن العراق يحتاج فقط الى حزب او احزاب تمثل الشيعة واخرى تمثل الاكراد وثالثة تمثل السنة، ولكنه لحسن الحظ عمل بالوقائع بعد توليه رئاسة الوزراء واكتسبت تطلعاته (التي لا تزال غير متجانسة) بعدا وطنيا فتعامل مع المكونات المختلفة للنسيج الاجتماعي العراقي وتمثيلاته الحزبية بمرونة. وكتب الدكتور علي شريعتي، في سياق محاولة الطائفة تأطير أبنائها وتحديد ولاءاتهم، الى انها تسعى الى استبعاد المشتركات مع الاخرين والتأكيد على المختصات، هذا ما يفسر النفور الكبير لدى الفكر الطائفي بمختلف اشكاله من العلمانية.
فالعلمانية تجمع الاديان والطوائف المختلفة في إطار واحد فيما يخص ادارة الدولة والنشاطات السياسية والمؤسسة والمصنع والمدرسة.... ألخ ولكنها تترك لهم حرية ممارسة الطقوس والمعتقدات كنشاط شخصي.
عدا ذلك فإنها، أي العلمانية، تتلائم بذلك مع التنوع الديني والطائفي والاثني لبلداننا، خصوصا وان هذا التنوع بات خاصية عامة لكل دول المنطقة فلم يعد هناك بلد تسكنه ديانة واحدة او طائفة واحدة.