في الفترة المتدة من الثالث الى السادس من نوفمبر تشرين الثاني الجاري شهدت حاضرة الفاتيكان لقاءا للحوار الديني شمل نحو 60 مشاركا من رجال الدين المسلمين والمسيحيين من مختلف دول العالم، وقد تمحور اللقاء المشترك حول موضوع quot;كرامة الانسان والاحترام المشتركquot;.
في نهاية اعمال اللقاء التقي البابا بندكتوس السادس عشر المشاركين في اعمال اللقاء. والتساؤل ما الذي قاله البابا في ختام هذه الحلقة الجديدة من حلقات الحوار الديني التي زخرت بها الساحة الثقافية والفكرية والدينية الاسابيع القليلة المنصرمة؟
قال البابا إنه quot;من الضروري أن يسعى ممثلو المسيحية والإسلام لتجاوز خلافات الماضي وأحكامه المسبقة، وتصحيح الصور المشوهة التي يمتلكها الواحد للآخر، والتي يمكنها حتى اليوم أن تشكل عقبة أمام إقامة علاقات ثنائية صحيحةquot; كما اشار إلى quot;ضرورة توعية الناس والأجيال الشابة بشكل خاص لبناء مستقبل مشترك، وليكن عون الله معنا في نوايانا وأعمالنا الحسنةquot; وختم بالقول quot;علينا أن نظهر معا احتراما وتعاضدا متبادلين، لأننا يمكن أن نعتبر أنفسنا أعضاء في عائلة واحدة؛ العائلة التي أحبها الله وحافظ عليها منذ بدء الخليقةquot; .
اما الكاردينال جان لوي توران مسؤول الحوار في الفاتيكان فقد اعتبر ان quot;هذا اللقاء يمثل صفحة جديدة في تاريخ طويل من الحوار بين العالمين المسيحي والإسلاميquot;، واستدرك quot;ينبغي تجنب إعطاء الانطباع بأن هذا المنتدى يؤشر لبداية حوار إسلامي مسيحي جديد، ففي الحقيقة إننا نتحاور منذ 1400 سنةquot;.
أما بشأن توجيهات البابا بندكتس السادس عشر فقد قال رئيس المجلس البابوي للحوار بين الأديان إن quot;هذا الحوار لا يكمن في إيجاد أصغر عامل مشترك بيننا لنقول بأننا متشابهون، فالحوار لا يمكن أن يتحقق إن لم يكشف النقاب عن كل غموض، حيث يجب النظر إلى الآخر، الإصغاء إليه، تشجيعه، ثم تثبيت هويتنا، فهذا ما يدعو إليه الحوار الدينيquot;. وأردف أن quot;هذا لا يهدف إلى التحول بل إلى المعرفة المتبادلةquot;.
وكان الكاردينال توران قد اعرب عشية انطلاق أعمال المنتدى الفاتيكاني عن quot;أمله بالتمكن من مواجهة موضوع الحرية الدينية في هذه الأيامquot;، وقال quot;يجب رؤية الأسلوب الذي يرغب به المشاركون معالجة هذه القضيةquot;، موضحا أن quot;مبدأ التبادلية يشمل هذا الموضوع أيضا، فما هو خير بالنسبة لي خير بالنسبة لك أيضاquot;، وختم بالقول quot;فإن كان للمسلم أمكانية امتلاك دار عبادة في أوروبا، فمن الطبيعي أن يكون العكس أيضا في البلدان ذات الغالبية المسلمةquot; .
والمؤكد ان الجانب الاسلامي كان حاضرا وبقوة على صعيد التنظير الفكري لاهمية هذا اللقاء ويكفي ان يقرا المرء ما يشبه المبررات التي ساقها المفكر الاسلامي الشاب طارق رمضان البنا في معرض حديثه عن لقائه مع بابا الفاتيكان ضمن الوفد الاسلامي الذي شارك اعمال اللقاء .
من هو طارق رمضان؟ وما الذي قاله؟
يمكن القول ان طارق البنا حفيد الامام حسن البنا مؤسس جماعة الاخوان المسلمين في مصر والذي اختارته مجلة التايم الأمريكي ضمن الشخصيات المائة الأكثر تأثيرا في العام للعام 2007 قد أضحى اليوم جسرا وقنطرة مع أوربا ليس فقط لانه باحث مجتهد يريد أن ينقل للجانب الأخر من البحر المتوسط صورة الإسلام السمح المعتدل البعيد عن التعصب والتحزب والتطرف بل لأنه مجتهد يسعى لإنقاذ المسلمين في أوربا مما يعانونه من تغير في الصورة سيما بعد أحداث لندن ومدريد وقبلها الحادي عشر من سبتمبر .
وفي تصريحات للكاتب الفرنسي فرانسوا جرمان يقول طارق البنا: لقد عشت كل طفولتي تلازمني صورة جدي المقتول الأمام الشهيد حسن البنا وجميع من قابلتهم كانوا يحدثونني عنه باحترام وغالبا ما كان يقول لي إن هذا الرجل كان خارقا للعادة تماما وكان والدي وهو زوج ابنته يتحدث عنه باعتباره المصلح الإسلامي الأهم في عصرنا .
لم تكن حياة طارق رمضان إلا سلسلة متصلة من الاجتهاد العلمي المتواصل فمنذ أن تلقى تعليمه الأول في مدارس جنيف الفرنسية وجامعاتها حتى حصل على الماجستير والدكتوراه في الفلسفة والأدب الفرنسي وهو لا يكف عن البحث في جذوره المسالة الإسلامية شكلا وموضوعا وربما كان هذا هو الدافع الذي من اجل سافر إلى مصر عام 1992 لمتابعة دراساته الإسلامية نحو عام .
غير أن دراسته للأدب الفرنسي وللفلسفة لم تبعده عن مجال الإسلاميات بل قربته منها، كان الدافع الأول هو ما تركه جده من أساسيات في بناء الدعوة الحديثة ولهذا يصرح طارق غير مرة بالقول quot; لقد درست بعمق فكر حسن البنا، وأنا لا أتنكر لشيء من انتمائي فصلته بالله وروحانيته وصوفيته وشخصيته وكذلك فكره النقدي عن القانون والسياسة والمجتمع والتعددية إنما تظل مرجعيات بالنسبة لي، قلبا وعقلا كما أن التزامه يواصل حفز احترامي وإعجابي ويضيف quot; أنا اشعر إنني قريب من هذا الفكر ومن هذا الالتزام أي أن يكون المرء مع الله، أن يسعى إلى الإخلاص لتعاليمه، أن يحفز التعليم ويؤسس المدارس، وان يتضامن مع البشر وان يناضل من اجل العدالة الاجتماعية ذلك هو تراثي ومعنى انتمائي الروحي والفكري .
وقد كان هذا المنطلق دافعا لطارق للانفتاح على من حوله فبعيدا عن الدراسة الأكاديمية والترقي فيها انخرط طارق خلال تلك الفترة من حياته في النشاط الاجتماعي الإنساني المنفتح على البشر من كافة الملل والنحل، فقد كان آنذاك مشتركا فيما يعرف بنشاط الروابط وكرس وقتا كبيرا للاهتمام بالعالم الثالث، وهو الأمر الذي بلورة في الثمانينات من القرن الماضي على الرغم من صغر سنة وقتها بإنشاء رابطة مدرسية تعليمية ضد التهميش والاستبعاد في مجتمع جنيف، وكذا في بلدان العالم الثالث.
والشاهد ان الحديث عن رحلة طارق رمضان الفكرية والدعوية يطول وما يهمنا هنا بالمقام الاول رؤيته لما جرى في حاضرة الفاتيكان وما هو السبب الذي جعله يذهب ضمن الذاهبين لمقابلة الحبر الاعظم بابا روما؟
يجيب المفكر المصري الاصل بقوله انه: في عالم يمرّ بأزمة عالمية لم يسبق لها مثيل، وعالم حيث السياسة والمال والعلاقات بين بني البشر والبيئة تعاني من انعدام قاسٍ للضمير والكرامة الأخلاقية، أصبح من الأهمية الملّحة أن يحوّل الحوار المسيحي المسلم اهتمامه إلى كل من القضايا الدينية وقضايا القيم والأهداف النهائية. ليست مهمتنا إيجاد تحالف ديني جديد ضد النظام العالمي اللاأخلاقي والذي تطغي عليه العلمانية، وإنما أن نساهم بشكل بنّاء في الحوار، لمنع منطق الاقتصاد والحرب من تدمير ما تبقّى من إنسانيتنا المشتركة.
وعنده كذلك ان الحوار البناء بين المسلمين والمسيحيين حول القيم المشتركة والاهداف النهائية يشكل: quot;أمراً أكثر حيوية وضرورة من عداواتنا حول عدد المؤمنين ومطالباتنا المتناقضة حول نشر الدين ومنافستنا العقيمة حول الملكية الحصرية للحقيقة.
واذا كانت آفة البشرية من يوم خلق الانسان حتى الساعة هي اعتقاد البعض بانه يمتلك الحقيقة المطلقة فان طارق رمضان يرى ان:quot;من يدعي أنه أو أنها وحده يملك الحقيقة، وبأن quot;الزيف ملك للآخرين . . . quot; قد وقع في الخطأ، وانه يجب على حوارنا أن يقاوم تجربة العقائدية المتزمتة من خلال استخدم مواجهة آراء وأفكار تكون شاملة وناقدة ودائمة الاحترام. وبعيدا عن التنظيرات الايديولوجية وفي طريقنا للخطوات العملية ما الذي يوصي به رمضان على الصعيدين الغربي والاسلامي؟
في تقديره ان تاريخ التراكم الحضاري يشير الى ان الغرب قد شكّله المسلمون، تماماً كما شكل الغرب العالم المسلم ولهذا فانه من الضرورة بمكان أن تبدأ عملية داخلية ناقدة من التفكير، أن يباشر الغرب وأوروبا بعملية حوار داخلي، تماماً كما يتوجب على الإسلام والمسلمين عمل ذلك، ضمن نظرة تتعلق بتفاهمهم مع تنوع وتعددية ماضي كل منهم.
وحتى لا تضحى لقاءات حوارات اتباع الاديان مناسبات دعائية او بروتوكولية ليس اكثر كان ولابد من تحديد نطاق المسؤوليات عن التطراف المشاركة فماذا عن ذلك؟
يجيب طارق رمضان: كانت مهمتنا أن نتحمل مسؤولياتنا الخاصة بكل منا والمشتركة، وأن نلزم أنفسنا بالعمل من أجل عالم أكثر عدلاً، باحترام كامل للمعتقدات والحريات ويضيف: من الأساسي إذن أن نتكلم عن حرية الضمير وأماكن العبادة، وعن quot;نقاش التبادلquot;، وجميعها أمثلة محتملة في جو من الثقة المتبادلة والاحترام.
كما يوصي كذلك بان quot; أن يجلس كل منا على الطاولة بتواضع يتكون من عدم الافتراض أننا وحدنا نمتلك الحقيقة، بالاحترام الذي يتطلب أن ننصت إلى جيراننا وندرك نقاط اختلافهم، وأخيراً بالتماسك الذي يدعو كل واحد منا إلى الحفاظ على منظور ناقد في قبول المتناقضات التي قد تتواجد بين رسالة المؤمنين وممارستهم. تلك هي العناصر الأساسية التي يجب احترامها إذا ارتأينا النجاح.
هل يمكن الجزم بان الدعوات التي انطلقت من لقاء الفاتيكان الاخير بدءا من منطلقات البابا بندكتوس السادس عشر مرورا برؤى الكاردينال توران وصولا الى الفكر الخلاق والتقدمي لعالم اسلامي شاب يجيد الحديث مع الغرب باللغة التي يفهمها هي مسيرة حقيقة نحو مدينة الله وليس لجهة مدينة قيصر؟
اغلب الظن ان ذلك كذلك لكن الاشكالية الحقيقة تتجلى في اشكالية البحث عن اولئك الذين يمكن ان يعهد اليهم بتحمل مسؤولية قيادة الرعية في هذا الدرب الحواري الملي بالاصوات الزاعقة والرايات الفاقعة الرافضة لشعار quot; انت اخي وانا احبك quot; على الجانبين الاوربي والاسلامي .
[email protected]