كأنه أمس بالذات. أنه الوداع الثالث لجبران الذي لا يزال بيننا حاضرا أكثر من أي وقت بالصوت والصورة، وداع نرفض الأعتراف به، لأننا نرفض الأعتراف بأن جبران غاب في ذلك اليوم المشؤوم. أنه يوم أرتكبت فيه جريمة أخرى في حق لبنان وفي حق العرب الصادقين الذين يتطلعون ألى مستقبل أفضل لأمتهم بعيدا عن الشعارات المزيفة والنفاق الذي يتقنه قتلة جبران. هؤلاء لا يتقنون شيئا آخر غير ذلك، بأستثناء القتل والتفجير طبعا.
كانت الخسارة فادحة. لا بدّ من الأعتراف بذلك. جبران لا يعوّض. تلك هي الميزة المشتركة بين شهداء quot;ثورة الأرزquot;. ولكن لا بدّ من الأعتراف في الوقت ذاته بأن بعض التعويض عن الخسارة يتمثل في أن حلم جبران تويني لا يزال حيّا، لا تزال روحه في جزء من quot;النهارquot; التي أستطاع أعادة الحياة أليها وفي كل خطوة ذات طابع أيجابي يحققها الأستقلاليون اللبنانيون الساعون ألى السيادة الحقيقية بعيدا أي نوع من أنواع التبعية. كانت quot;النهارquot; حياة جبران. جبران، المسكون ببيروت ولبنان والمهووس بهما تماما مثل بقية الشهداء، على رأسهم رفيق الحريري وباسل فليحان وسمير قصير وجورج حاوي الذين سبقوه على الدرب في تلك السنة اللعينة التي لم يمر على لبنان أسوأ منها، لولا يوم الرابع عشر من آذار، الذي ساهم جبران في صنعه مع شابات وشبان من كل الطوائف والمذاهب والمناطق والطبقات الأجتماعية. أنهم أولئك الذين صنعوا الأستقلال الثاني الذي لا يزال طري العود والمهدد يوميا من المتربصين به. لو كان جبران بيننا اليوم لكان أدرك كم أن المعركة ستكون طويلة وقاسية ولكان أدرك سلفا أن شهداء آخرين سيسقطون، وأن بيار أمين الجميل، شيخ شباب الشهداء، سيكون مستهدفا، كذلك الشهيدان وليد عيدو وأنطوان غانم زميلا جبران في مجلس النوّاب.
كلما مرّ يوم، يتبين أن جبران تويني كان على حقّ وأن ما كتبه كان وصفا دقيقا للواقع وأنه كان من بين أوائل الذين أنتفضوا باكرا في وجه الظلم والتزلف والتملق. كنا نلومه أحيانا بسبب سقفه السياسي العالي، ولكن بعد جريمة ألتمديد للرئيس أميل لحّود ومحاولة أغتيال مروان حماده ثم تنفيذ الجريمة الكبرى المتمثلة بتفجير رفيق الحريري، بدا جليا أن ما كان يفعله جبران كان بمثابة موقف أستباقي ذي طابع دفاعي لا أكثر. كان جبران يأخذ في الأعتبار ما سيستجد مدركا خطورة ما يجري على أرض لبنان من أضعاف منظم ومبرمج لمؤسسات الدولة اللبنانية تنفيذا لخطة سورية واضحة المعالم تستهدف السيطرة الكاملة على البلد من جهة وتكريس وجود دويلة أخرى تحت سيطرة ميليشيا مذهبية مسلحة في الوطن الصغير من جهة أخرى. كان واضحا كل الوضوح، أقلّه بالنسبة ألى جبران أن لا بد من التصدي لهذا المخطط وقد فعل ذلك باكرا ودفع ثمنا غاليا عندما وضع quot;النهارquot; وصوته المدوي ومنطقه السليم في الواجهة. كان جبران، المدافع عن بيروت وكل ما هو حضاري في لبنان وعن صيغة العيش المشترك، يدرك تماما منذ ما قبل أستشهاد رفيق الحريري أن مستقبل الصيغة على المحك وأن المحور الأيراني- السوري ذاهب ألى النهاية في خطة تكريس لبنان quot;ساحةquot; له. لم يتردد جبران في تسمية الأشياء بأسمائها. لم يخطئ في تصوره لطبيعة المعركة التي يخوضها اللبنانيون الشرفاء فعلا. ولذلك قتلوه. قتلوه لأنه كان يعرف. كان يعرف خصوصا على من يجب أن يصوّب بالكلام في مقالاته ومداخلاته التلفزيونية...
كان مطلوبا ولا يزال، أن يكون هناك فراغ في لبنان كي لا يعود هناك بلد. لذلك أغتيل العشرات بل المئات من اللبنانيين الذي كان عليهم قدر. أغتيل كمال جنبلاط في العام 1977، وأغتيلت قبل ذلك شقيقته كي يفهم الرسالة جيدا وفحواها أنه لم يعد مكان لزعماء في لبنان. رفض أن يفهم أنه لم يعد مكان سوى لمن يقبل أن يكون أداة. وقد رفض كمال جنبلاط هذا الدور بأستمرار. وكان أن دفع الثمن. كان هو الذي يعطي شهادات في الوطنية والعروبة وليس العكس. بعد كمال جنبلاط كرت السبحة. أغتيل الرئيس بشير الجميل لأنه صار أستقلاليا يؤمن بالقرار اللبناني المستقل وبلبنان ال 10452 كيلومترا مربّعا، وأغتيل المفتي حسن خالد وأغتيل محمد شقير، رفيق شهيد الأستقلال الأول والعروبة رياض الصلح، لأنه قبل أن يكون مستشارا للرئيس أمين الجميل. وهُجّر العميد ريمون أده كما هُجّر لاحقا الرئيس تقي الدين الصلح، رحمات الله عليهما، وفي مرحلة لاحقة أغتيل الرئيس رينيه معوض قبل أن يأتي دور الرئيس رفيق الحريري. أستمرت الجرائم لأن المطلوب ألغاء لبنان. أما لماذا أغتيل جبران تويني بالذات؟ لسبب في غاية البساطة يمكن في أنه صار رمزا أستقلاليا يجمع بين المسلمين والمسيحيين. أكثر من ذلك، المطلوب أغتيال بيروت بما تمثله من تنوع وأبتعاد عن الغرائز المذهبية والطائفية التي سعى منفذ الجرائم ألى أثارتها في كل وقت من أجل تأكيد النظرية القائلة أن اللبنانيين لا يستطيعون ممارسة العيش المشترك من دون وصاية.
أغتيل جبران تويني أوّلا لأنه أعاد الحياة ألى quot;النهارquot;. من يتذكّر الضغوط السورية التي مورست على رفيق الحريري في العامين 2003 و2004 والتي أجبرته على بيع أسهمه في quot;النهارquot;، لعلّ ذلك يؤدي ألى أفلاسها؟ لا أسرار عسكرية في شأن من يقف وراء أغتيال جبران تويني مثلما أن لا أسرار في شأن من وراء كل جريمة من الجرائم الأخرى. الجهة معروفة. ولكن كان لا بدّ من التخلص من جبران ومن سمير قصير ومن بيار أمين الجميل لسبب أضافي هو أن لا تكون هناك زعامات مسيحية شابة. عندئذ تخلو الساحة للأداة المجرّبة منذ الثمانينات من القرن الماضي والتي أسمها ميشال عون. هل كان ميشال عون يستطيع أرتكاب ما أرتكبه لو كان جبران حيّا ولا يزال صوته يلعلع فاضحا المنافقين والدجالين وتجار العروبة والطارئين عليها... وتجارالمذهبية والطائفية والمستثمرين فيهما؟