الأربعاء 14/1 صباحاً
* لا إنترنت في مستشفى ناصر. الشبكة عاطلة منذ أيام. حاولوا إصلاحها، فنجحوا جزئياً، ثم عادت فخربت. لكي أرسل المادة أحتاج إلى ساعة كحد أدنى، ناهيك عن مواصلات الذهاب والإياب. أصعد ثلاث طبقات مبنى الإدارة، وأعود بالمتوقع: لا نِت. أخرج للإسفلت العام. السيارات قليلة نسبياً، انتظر، ثم أركب واحدة. المقهى المعهود مقفل. ابحث عن مقهى آخر، وأجد. أحاول إرسال المادة مع الصور، فأواجه مشاكل. أسأل الرواد، وأغلبهم الأعم، فتيان وأطفال، فلا أجد من يبلّ الريق. أخيراً يأتي أحد الشباب فوق العشرين ويسعفني. أنا بحاجة فعلاً لإسعاف!
أخرج مخنوقاً. أنقد صاحب المقهى ضعف ما يستحق، لأنني نجحت أخيرا في مهمتي.
* يحذرونني من حمل شنطة اللابتوب. أسمع الآن رابع تحذير منذ الليلة الماضية. دير بالك، قتلوا شابا في غزة فقط لأنه كان يحمل شنطة لابتوب. دير بالك، يقول لي حمساوي جار، أعطونا تعميمات بعدم حمل أي شُنط. أستمع إليه وهو يتشمّس بجوار بيتي، فيما كنت خارجاً إلى هنا. ما إن أصل ناصر، حتى أجد صحفيين من الجزيرة يعملان ويداومان في المستشفى.نشأت بيننا علاقات زمالة وتضامن سريعة. ينصحانني، كلاهما، بعدم حمل الشنطة. يذكر لي أحدهما قريبا له يسكن بني سهيلا، قصفوه أمس، واستشهد، بسبب الشنطة. يا للهول! لقد بدأت أخاف فعلاً، فالتحذيرات تأتي من عدة جهات. سيكون هذا يومي الأخير مع هذه الشنطة الأنيقة أناقة الموت. من غد سأحمل دفترا وقلما وجوالا للتصوير. فقط لا غير. اللابتوب سيظل في البيت، رغم نعمة وجود الكهرباء الدائمة في المستشفى. ورغم نعمة الكتابة المباشرة على شاشته، سواء يوميات أو حوارات.
* ألاحظ خوف الغزاويين الجديّ من الزنانة. قبلا لم يخافوا منها بهذا القدر. حتى اسمها مراوغ وكاذب: طائرة استطلاع. أي استطلاع وهي تقتل. إنها متخصصة صارت في قتل الأفراد وهدم البيوت. ومع هذه الطائرة ذات التقنيات الفائقة، صار قطاع غزة كله، بحجره وبشره وبحره، تحت ميكروسكوب كبير. لا شيء يفلت من كاميرا هذه الطائرة. بل يقال بأنها تستطيع قراءة سطور جريدة ملقاة على الرصيف.
* أخشى بالفعل من استهدافي. فأنا منذ صرت ألاحق الحدث، كثرت حركتي أيضاً. وبالأخص مع تلك الشنطة اللعينة. سأحاول تغيير هذا السلوك الجديد، والعودة إلى حركتي القديمة الكسولة.
الأربعاء ظهرا
ً
* حمدا لله، فالنهار انتصف، ولم تأت حالات للمستشفى. نهار هادئ من بدايته. أتابع السؤال عمن وصل من وفود الأطباء العرب والأجانب، وعمن لم يصل بعد. لا جديد اليوم في هذا الموضوع. فلا أحد دخل القطاع.
أذهب لإجراء لقاء صحفي مع بروفيسور فرنسي، بعدما أجريت لقاء، ليل أمس، مع بروفيسور فرنسي من أصول يهودية. أجد الرجل غارق بالدم، وفي ذروة انهماكه. أنسحب دون أن يراني.
ربما أنجح في الليل. لكنْ الليل خطِر فما العمل؟ لم أجد وسيلة بعد لتدبير أموري. لا مدير المستشفى ولا عديد الأطباء المحليين قدرَ على مساعدتي في شأن كهذا.
أمرُّ على قسم الاستقبال، فأفرح لهدوئه. الموظفون يشربون الشاي ويمارسون أعمالهم بصمت. أسأل أحدهم عما إذا كانت الأطباء كتبوا منشوراً عن حقيقة الفسفور الأبيض وآثاره الصحية وطرق الوقاية منه. يقولون إنّ العمل جاري على هذا، لكنهم بحاجة إلى استشارة الأطباء الأجانب. أخرج من عندهم، وأذهب إلى بروفيسور في العناية الفائقة. أسمع عنه شرحاً مفصلاً: يقول: الفسفور مادة نصف شفافة شبيهة بالشمع أو quot;الجِلِيquot;. عديمة اللون وإن كانت تميل للون الأصفر. هذه المادة تتميّز برائحة لاذعة شبيهة برائحة الثوم. والنوع المستعمل في الأغراض العسكرية، يتميّز بشدة نشاطه الكيماوي. كما أنه يلتهب عند تعرّضه للأوكسجين. وفي حال تعرّض للهواء يشتعل ويتأكسد بشكل سريع جداً، وحينها يتحوّل إلى خامس أكسيد الفسفور.
أسأله راغباً في المزيد، فيضيف: التفاعل المذكور يجعل الفسفور مضيئاً في الظلام، ويستمر هذا التفاعل الكيميائي حتى استهلاك كامل المادة أو حرمانها من الأوكسجين. وجدير بالذكر أنّ 15% منه يبقى في الجزء المحروق من الجسم المصاب. وإضافة إلى هذا، تعود تلك البقايا للاشتعال مجدداً كلما تعرضت للهواء.وللسبب الأخير بالأخصّ يُستعمل الفسفور الأبيض لأغراض عدة مثل إصدار دخان كثيف، لتحديد أماكن العدو. وكذلك لصنع ستار دخاني يحجب الرؤية. ناهيك عن أمرين: قدرته على الاشتعال كمادة حارقة يصعب إخماد نيرانها، وقدرته على إبادة الطرف المقابل وتدمير معداته. وهو الآن يستخدم بنوع خاص ضد المركبات وأماكن تخزين النفط، والمواد الأخرى: كالزيوت ومواد التشحيم.
أسأل البروفيسور عن آثاره الصحية التي شاهدت بنفسي مدى تأثيرها المروّع على الأطفال. يقول: الفسفور الأبيض يتسبب بحروق كيميائية مرعبة. ويبدو الحرق الناجم عنه، بالإجمال، كموضع يموت فيه النسيج. كما يصبح لونه ضارباً للأصفر. وأيضاً يُصدر رائحة شبيهة بالثوم(أمس بالفعل، شممت هذه الرائحة. وأي رائحة؟ رائحة الثوم الفاسد تحديداً). يواصل الطبيب: هذا الفسفور هو مادة تذوب في الدهن بسهولة. ولذا تخترق الجلد بسهولة وبسرعة فور ملامستها إياه. وتنتقل عبر اتحادها السريع مع الدهون عبر أنسجة الجسم المختلفة. هذا النفاذ السريع هو تحديداً ما يؤخر شفاء الإصابات.
طيب، كيف هي طرق الوقاية إذاً؟
علينا أن نعرف أولاً، أن هذه الحُبيبات المنصهرة من تلك المادة قد تنغمس في جلد الضحية منتجة حروقا فظيعة(متعددة وعميقة وبأحجام مختلفة). ومن المهم أن نعلم هنا، أن تلك الحبيبات ستستمر في الاشتعال، ما لم يتم عزلها عن أوكسجين الهواء.
كيف؟
عبر غمرها بالماء الكثيف، أو عزلها عن الهواء.
كيف؟
باستخدام الوحل أو قماش مبلول. ومن الضروري جداً في هذه الحالة، إبقاء جزيئات الفسفور معزولة عن الهواء طيلة الوقت، حتى لا تشتعل، إلى أن تتم إزالتها نهائياً.
مرة أخرى يا دكتور، أريد شرحاً عملياً. كيف نزيل الفسفور عن جلد المصاب؟
باستخدام السكين أو العصا أو عبر حك الجلد بقطعة قماش مبلولة. أما إذا أصابت هذه المادة الملابس، فيجب خلعها بسرعة، قبل وصول المادة للجلد.
أثناء الحديث، يأتون بحالة: امرأة في الستين من خزاعة. يقوم الطبيب ويجري لها تنفساً صناعياً.
أخرج الآن، رغم رغبتي في أسئلة تخصّ التفاصيل. فأمس رأيت عشرات الحالات، بعضها أصابه الفسفور في عينه، وبعضها استنشقه، والبعض ابتلع المادة.. إلخ.
* أمر على المكتب الإعلامي، وآخذ هذه التفاصيل: تم أمس الثلاثاء السماح بدخول 24 سيارة إسعاف، عبر معبر رفح. نصيب وزارة الصحة منها هو 17 سيارة. فيما حصل الهلال الأحمر الفلسطيني على 7 سيارات مقدمة من الهلال الأحمر المصري.
* الوفد البرلماني اليوناني المكوّن من عشرة أطباء، والمتضامن ليومٍ واحد، والذي دخل معبر رفح أول أمس، لا يزال ينتظر السماح بالعودة عبر المعبر ذاته، لعدم السماح له بالعبور يوم أمس. يُذكر أنه أجرى 8 عمليات حرجة في مستشفى أبو يوسف النجار برفح.
* دخول 30 طبيب مصري وطبيبان بحرانيان. كما تم دخول 16 شاحنة محملة بالأدوية والمعدات الطبية.
أسأل عن شاحنات الغذاء، فيقال لي بأنّها لم تدخل منذ بدء الحرب. مع أننا بمسيس الحاجة للطحين بالذات. فثمة أزمة طاحنة في هذه المادة المختفية تماماً منذ شهر. لقد بدأ الناس يحرصون على كل فتفوتة خبز. الناشف منها ينقعونه في الماء، ويعملون منه فتّوشة.
* من حسن الطالع أنني أحب الفتوشة. بعكس أولادي وزوجتي تماماً. الفتوشة ولا الجوع. الفتوشة ولا فقدان الصوت من الجوع. لن أنسى ما حييت ما حدث معنا حين هربنا، في حرب حزيران 67، للأحراش قريباً من رفح. أكلنا ورق الشجر، وفقدت أنا صوتي لمدة أربعة أيام من الجوع الشديد. حتى أنني نذرت لله، إذا عدنا لبيتنا في المخيم، وعادت الحياة الطبيعية إلى مجراها، ألا أدع فتفوتة خبز ناشف، أراها في الشارع، إلا وأنفض عنها التراب، وأبوسها، ثم أضعها في مكان بعيداً عن دوس الأحذية. ولقد بررت بنذري هذا مدة خمس سنوات، ثم نسيت النذر.
* أحكي القصة للأولاد فيسخرون مني. زمانكم غير وزماننا غير. يقولون. يابا هل تريد إرجاعنا إلى العصر الحجري! لا يابا، بس أذكّركم لتحسّوا شوية بالمسئولية. الدنيا حرب ولا رواتب، وانتم لا تتنازلون. تريدون طبيخاً ولحماً وفواكه، فمن أين أتيكم بكل هذا الترف؟ الناس تموت وأنتم تتعاركون على حبة الأفوكادو!
اللعنة!
* أعود للبيت. الزنانة في الجو. صرت أنظر نحو مصدر الصوت، وأنا الذي كنت لا أعيرها انتباها من قبل. أنظر إلى شنطتي وأقول أنها آخر مرة. لن أحمل هذه الشنطة حتى بعد انتهاء الحرب.
* أمرّ على المكتبة: سلاماً يا ملجأ الروح الآمن. إغفري لي، فقد هجرتك، ولربما أظل هكذا حتى تعود الأمور إلى بعض عقلها. ما ذنب الكتب؟ ما ذنبها نسهو عنها بالحرب!
* الكهرباء جاية. أدونيس ابني الأوسط مدمن أفلام كرتون. ما إن أدخل حتى يكتئب. فهو يعرف بأنني سأبدّل القناة. يتعصبن هذا الولد الجميل، ويشكو لأمه وأخواته: دايماً الجزيرة. دايماً القناة العاشرة. دايماً القناة الثانية. والأنكى أنه quot;ينسى حالهquot; ويجبرنا على الاستماع لكلام غير مفهوم[ يقصد اللغة العبرية]. أحاول عدم النسيان من أجل خاطر الولد. فساعات الكهرباء جد نادرة، ومن حقه نسيان الرعب اليومي بالغرق في أفلام الكرتون.
* لا أقترب منه. فلأسمع إن أردت سماع الأخبار من راديو الجوال. هذا حل معقول ويراعي مصلحة الطرفين. أليس كذلك يا أدونيس!
* الزوجة والأولاد، ما عدا أدونيس، يتهيئون لزيارة أمي في المخيم. آكل غدائي بارداً، وأذهب للنوم.
الأربعاء مغرباً
* أستيقظ على بيت فارغ، وسماء مشغولة بالطائرات. العتمة كالحة رغم أنه المغرب. ثمة انفجار قريب. صرت أحدد مسافة الانفجارات من درجة اصطفاق الشبابيك وحركة الباب. الانفجار البعيد نسبياً، يمسّ الباب مسّاً هيناً، فينفرج هذا سنتيمترات فقط، ثم يعود إلى وضعه الأول. القريب، على العكس، يجعلك تشعر بجسمك مضغوطاً.
* لا أدري ماذا أفعل؟ أنتظر قدوم الأولاد، وأعرف أنّ الزوجة لا تتأخر في الخارج، أكثر من موعد الصلاة. ستأتي حتماً، وحينها ربما أعود إلى ناصر، لإجراء حوارات. سأذهب بقلم وورق فقط. عين الزنانة كعين الملاك على كتفك: ترى وتسجّل كل صغيرة وصغيرة. ترى هل تعتبر الزنانة حتى الشنط من الكبائر؟ طبعاً وإلا لماذا تقصف حامليها. تفووو.
* نخشى أن يصل الهوس الأمني بهم حدّ قصف النساء الحوامل في شهورهنّ الأخيرة. ربما يظنون إنهنّ يحملن شيئاً، تحت ثيابهن. متفجرات مثلاً لا أجنة بشرية. فكل شيء مباح ومعقول ومقبول لدى هؤلاء المارقين.
* أسمع من راديو الجيران عن اشتداد القصف في غزة وشمالها. اليوم ثمة حصيلة كبيرة من الشهداء والمصابين. خان يونس، إجمالاً، هادئة. كان الله في عونهم هناك. سمعت عن دخول راجلين ودبابات أبعد من مسجد خليل الوزير في الطريق الغربي. قوات خاصة تسعى جاهدة لاعتقال قيادات في القسام أو وجوه سياسية بارزة في التنظيم. يبدو أنّ إخوتنا في حماس محتاطون بشكل ممتاز. الدور والباقي على الغلابا العزّل.
* بان كيمون يصل القاهرة. الرجل يعدنا بإدخال مساعدات إنسانية أكثر. هذا هو ماكسيمام بان كيمون. أسمع جاري يعلّق على الخبر بسخريته الشعبية اللذيذة: تعال عندي يا بان كيمون/ أعملك شاي وعصير ليمون! أقهقه. ما أشهى الضحك زمنَ الحرب. الضحك؟ قرأت مرة كتاباً لبرغسون عنه، لكنّ برغسون للأسف، لم يكتب شيئاً عن الضحك في زمن الحروب. فاته هذا المنجم!
* على ذكر الضحك، إليكم هذه الطرفة: أخبرتني بها ممرضة من القرى الشرقية تعمل في ناصر. تقول إنّ جارهم أبو خليل، مقهور على نحو غريب من الزنانة. يخاف منها ويلازم غرفته حتى تنقلع. ولما كانت الزنانة لا تحب الانقلاع، في الشهور الأخيرة كلها، وصل أبو خليل إلى حل معها: ما إن تكون فوق سقف بيته بشكل خاص، حتى يخرج عليها شاهراً عصاته، شاتماً لاعناً، وصارخاً فيها: إنقلعي وَلِهْ! إنقلعي بقولْ لِكْ. ويهشّ عليها بعصاه. أبو خليل في السبعين، ويخاف على أولاده وأحفاده من الزنانة، بعدما قتلت هذه جاراً شاباً لهم.
* الأولاد وبالأخص الأحفاد، ينتهزونها فرصة، ويضحكون على جدهم في فاصل رائع، بل هو أروع فواصل حياتهم على الإطلاق. حتى أنهم يتمنون في دخائلهم بقاء الزنانة مرابطة فوق بيتهم. فأبو خليل يتمادى أحياناً فيكشف للطائرة ما لا يصحّ أن ينكشف!
* أنسى نفسي وأنام على روحي. أستيقظ في الواحدة ليلاً. لا إمكانية للخروج، ولا حتى للقراءة. ضاع اليوم _ أقول لذاتي، وأقوم أعدّ طعام العشاء.
* أنام في الفجر. وأستيقظ صباح الخميس في التاسعة.