أنْ يُلاحق مسؤولون إسرائيليون بهذه الدرجة المتنامية، وعلى هذا المستوى، أمرٌ لا يخلو من خطورة، ولا من تنازعٍ بين السياسة والقضاء. وصلت الملاحقات القضائية البريطانية إلى وزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني، وسبق أن هددت وزير الدفاع إيهود باراك، وكذا الرئيس الأسبق لهيئة أركان الجيش الإسرائيلي، موشيه يعلون، الذي يشغل اليوم منصب النائب الثاني لرئيس الوزراء، ووزير الشؤون الاستراتيجية.

لم تكن الحرب على غزة أول المجازر التي ترتكبها إسرائيل، ولكن المناخ العالمي تجاهها قد تغير، وهي التي لم تعتد على أن تُواجَه بالقانون، كما استجد، مؤخرا، في أوضح تجلياته في تقرير غولدستون الذي أدان الحكومة الإسرائيلية. وقد تسلمت السلطة الفلسطينية هذا الخيط؛ فحاولت أن تستعيض به، وتفعِّله، في وجه التعنت اليميني الذي يقوده رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. ولا يُظن أن إسرائيل تجهل التجاوب الدولي مع هذا quot;النضال القانونيquot; ضدها.

لا جدال في استقلالية النظام القضائي في بريطانيا، والدول الغربية، وفي مؤسساته العريقة القائمة والمستمدة من أعراف تلك الشعوب. فليس التلاعب، والتعطيل بالأمر السهل، ولا سيما إذا فُتحت القضية، وتسلمها القضاء.

لكن إسرائيل الآن تبذل قصارى جهدها في حفظ هيبة قادتها، وسمعتها، بالتلويح بالأضرار التي تستطيع التسبب بها للحكومة البريطانية؛ فقد حذرت وزارةُ الخارجية الإسرائيلية من أن بريطانيا لا يمكنها أن تلعب quot;دورا فاعلا في عملية السلامquot; في الشرق الأوسط إذا لم تتخذ لندن إجراءات لمنع ملاحقة مسؤولين إسرائيليين من قبل القضاء البريطاني.
ولا يخفى أن هذه اللهجة التصعيدية والصريحة في الربط بين موضوع قضائي قانوني، وآخر سياسي؛ يشي بإحساس قادة إسرائيل، بجدية تلك التحركات، وانعكاساتها السلبية عليها...

ولا نستطيع أن نغفل الظلال السياسية التي تظلل هذه التحركات القضائية، ولا أن ننزعها من سياقها؛ فقد جاءت على مقربة من قرار أوروبي كان يتجه نحو الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، ولكنه خُفف بضغوط أمريكية؛ بناء على طلب إسرائيلي.

وهذا التحرك السياسي الأوروبي يمكن أن يعد مؤشرا على رغبة أوروبية في معادلة تلك النشاطات التي تمعن فيها حكومة نتنياهو في القدس؛ تهويدا، ونزعا لهُويات المقدسيين، وإخلاءً لهم من منازلهم.

بَيْدَ أن الملحوظ في كل تلك المضادات الموجهة للسياسة المتعنتة التي يصر عليها نتنياهو واليمين الذي عن يمينه أنها ما تلبث أن تُكبح؛ ولهذا أسباب واقعية معروفة، ومع ذلك فنجاحُها ليس مقتصرا على إنفاذها إلى نهايتها؛ ولكنها تبتغي اصطناع رسائل إلى الحكومة في إسرائيل، والنخب السياسية فيها، والشعب؛ فبعد أن كانت الرئاسة السويدية طرحت صيغة أولية تنص على تأييد جعل القدس الشرقية المحتلة عاصمة للدولة الفلسطينية.
عاد وزراء خارجية الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، واستقروا على أن مدينة القدس يجب أن تكون عاصمة لدولتين: إسرائيل والدولة الفلسطينية المستقبلية، ولكن في نطاق تسوية سلمية للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي.
وليس التحرك القضائي البريطاني الأخير بعيدا عن هذه الأجواء ؛ فهو يصب في الضغوط، أو يوظف لصالحها، ولكنه قد لا يلبث أن يكبح.

فلا يرجح أن تضحي المملكة المتحدة بعلاقاتها بإسرائيل، أو السماح لهذه القضية بالتسبب في أزمة سياسية بينهما، فقد قال المكتب الإعلامي للسفارة البريطانية في تل أبيب: إن المملكة المتحدة ستبذل كل ما في وسعها لتحقيق السلام في الشرق الأوسط ولتكون شريكا استراتيجيا لإسرائيل. وأضاف، أنه من أجل لقيام بذلك quot; يجب أن يكون بإمكان المسؤولين الإسرائيليين القدوم إلى لندن للحوار مع الحكومة البريطانية. ونحن ننظر بجدية إلى حيثيات المسالةquot;.
وما يمكن الجزم به أن هذه التحركات، وبغض النظر عن استمرارها، أو انصياعها للتدخلات السياسية، التي تبقى لها اليد الطولى في التفعيل، أو التهميش؛ فإنها على كل الأحوال، لن تكون عديمة الأثر على نظرة العالم إلى إسرائيل، ونظرة شعبها إلى دولته، وقادته.

ولو تبقّى من العبر: أنّ الوقت الذي كانت إسرائيل وجيشها تفعل فيه ما تشاء دون مساءلة، أو ملاحقة، قد ولى، فهذا كبير.

هذا التأثير طبعا لن يكون حاسما، ولن يُحدث تأثيرات دراماتيكية في قرارات الدولة، أو تغييرات كبيرة في عقلية الشعب، فهم على أغلبية واضحة، لا يعيرون اهتماما كبيرا للردود الدولية، بأي شكل كانت؛ إذا رأوا حاجة لأية أعمال عسكرية يعتبرونها ضرورية لأمنهم. وقادة إسرائيل لا ينفكون يصرحون بأن الهدوء الذي تشهده الحدود الجنوبية، والمقصود غزة وقطاعها، ليس مضمونا، ولن يطول.

ولكن السياسيين منهم والمثقفين يعلمون أن الدول لا يستوي عندها الرأيُ العام المساند والرأيُ العام الكاره والمندد.

ومع أن هذا لا يشكل رادعا كافيا لإسرائيل المتوجسة بالأمن دوما؛ فإنه يترك دلالات على أداء حكومة اليمين التي ما انفكت تراكم المزيد من الانفضاض عن إسرائيل، وتعزز الرغبة في إدانتها. بسبب هذا الانسداد التفاوضي الذي رافق ظهورها، واستمر وتعمق بعد توسعها في الاستيطان، والاشتراطات التي تعرقل الجهود المبذولة لاستئناف التفاوض.

تحدث هذه التحركات السياسية، والملاحقات القضائية، غير المنبتّة عن السياسة، في وقت قررت فيه الإدارة الأمريكية تبريد الشأن الفلسطيني الإسرائيلي؛ لانشغالها بملفات أكثر سخونة، دون أن يعني ذلك السماح بالفراغ، أو عدم توجيه الرسائل، وتهيئة الظروف الملائمة، على الصعيد الفلسطيني، وعلى الجانب الإسرائيلي، وفي الإقليم.

[email protected]