الجديد الحقيقي في المشهد السياسي الشرق أوسطي هو دور تركيا الإسلامية العائدة من انعزالية دامت 85 عاما. بالتأكيد، شاركت تركيا في الماضي في حلف بغداد ثم في وريثه، حلف السانتو، لكن كوكيل للولايات المتحدة الأمريكية. أما اليوم فهي عائدة للدفاع عن مصالحها الجيوستراتيجية التي تبدو حتى الآن متكاملة مع مصالح باقي دول الإقليم عدا إيران ndash; أحمدي نجاد التي ما زالت ndash; لكن إلى متى؟ - تغرد خارج السرب! عادة الأدوار الجديدة، خاصة في الشرق الأوسط، وريث خمسة آلاف عام من الحروب الدائمة، تثير مخاوف ذوي الأدوار المنافسة. إستثنى الدور التركي نفسه من هذه القاعدة. لماذا؟ لأنه بنّاء يعمل على التكامل مع الأدوار الإقليمية الأخرى، خاصة المصري، وليس على منافستها. فهو يريد، ويبدو أنه يملك من المصداقية ما يساعده على تحقيق ما يريد، تجاوز التصنيفات والانقسامات الموروثة عن الحرب الباردة، بالتركيز على توعية صناع القرار في المنطقة بالمصالح المشتركة بين شعوبها في الأمن والاستقرار والازدهار والتعاون الثنائي والجماعي. القاسم المشترك بين الجميع هو التعايش السلمي بينهم والتصدي الجماعي للمخاطر البئوية والتحديات الاقتصادية والديموغرافية والمائية وحل النزاعات بالتفاوض... وهي جميعا ضرورية لإخراج قاطرة الشرق الأوسط من سكّة الندامة إلى سكة السلامة؛ السكة التي تقودها إلى المصالحات الداخلية، الإقليمية والدولية وأخيرا إلى أم المصالحات جميعا: المصالحة التاريخية مع حضارة القرن الحادي والعشرين التي ما زال المسلمون يقدمون إليها رجلا ويؤخرون أخرى! وهي جميعا رهانات كبرى تتطابق فيها المصالح والأدوار حينا وتتقاطع حينا لكنها قلّما تتصادم على الأقل عند ذوي العقول السليمة التي quot;تعرف كيف تقرأ الواقع قراءة صحيحةquot; كما قال رئيس الجمهورية التركية، عبدالله غُل.
المادة الأولى في جدول أعمال تركيا الإسلامية، تركيا أردوغان وغُل، هي المصالحة. حققت مصالحة داخلية جديرة بأن تكون مثالا يُحتذى من دول الجوار ومن جميع الدول في أرض الإسلام: مصالحة الإسلام مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي فشلت فيه علمانية الجنرالات الإسمية محوّلةً هذه العَلمانية الإسمية إلى علمانية جديرة باسمها؛ فألغت من القانون quot;العَلمانيquot; القديم عقوبة الزنا وعقوبة الإعدام وquot;حدّquot; الردة فبات بإمكان المسلم التركي لأول مرة في تاريخه أن يغيّر دينه بدين آخر أو بالإلحاد. وهو انجاز هائل لم تحققه دولة مسلمة واحدة بما فيها تركيا الكمالية، أما حركات الإسلام السياسي العربي فما زالت تلوك شعارات المشروع الطالباني الشرعي ndash; الجهادي. وشرعت في المصالحة مع الأقليات تطبيقا للاتفاقية الدولية لحماية الأقليات، فصالحت الأقلية الأرمينية وممثلتها الرمزية/ جمهورية أرمينيا. لكن المصالحة مع الأكراد ما زالت تنتظر. أساسا بسبب الجيش التركي، وريث التقاليد العثمانية في اضطهاد الأقليات، الذي لم يهضم بعد هذه المصالحة الضرورية التي لا غنى عنها لأية دولة متحضرة. في المصالحات الإقليمية، أعطت تركيا الإسلامية أولوية الأولويات للمصالحة العربية الإسرائيلية الممهدة للمصالحة الإسلامية اليهودية. بفضل تركيا قطع حل النزاع السوري الإسرائيلي خطوة عملاقة لو لا حرب غزة الإجرامية لكان حلّه الآن أمرا واقعا. ولاشك أنها كانت ستبدأ الآن في مصالحة حماس وإسرائيل لولا تعيين نتنياهو رئيسا لوزارة شعارها، غير المعلن، الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت! كشف أردوغان لـquot;الغارديانquot; إن إيران طلبت منه التوسط مع بوش لإصلاح ذات البيْن بينهما. إيران أحمدي نجاد سعت سرا لمصالحة بوش فيما كان إعلامها ووكلاؤها المحليون يحرضون شعوب دول الجوار على الانتفاض على حكامها الموالين لأمريكا! هكذا تلعب حكومة حزب العدالة والتنمية الإسلامي دور الاطفائي فيما تلعب إيران أحمدي نجاد دور مشعل الحرائق بواسطة وكلائها المحليين؛ بواسطة صقور حماس الذين جندتهم لتمزيق الوحدة الفلسطينية الممثلة في م. ت. ف. ولتمزيق فلسطين نفسها إلى محافظتين متحاربتين، كما أنشأت حزب الله لتمزيق الوطن اللبناني إلى إقطاعات ميليشاوية. من الممكن بل ربما المحتمل، بعد رحيل أحمدي نجاد في حزيران / يونيو القادم أن تنضمّ إيران خاتمي ورفسنجاني للمجموعة الشرق أوسطية لتلعب دورا بنّاء قد يعد بشرق أوسط آخر تطيب فيه الحياة.