هناك من ينكر وجود الله عزّ وجل، يقول أن الله غير موجود، ومنهم من ينكر نبوة الرسالة المحمدية، أي يدعي أن محمداً ليس نبيا، وهناك من ينكر يوم الميعاد،، وهناك من ينكر أن القرآن معجزة، وهناك من ينكر نبوة عيسى، بل من ينكر الغيب كله...
هذه الألوان من الإنكار أو النفي تسمى في الفكر الديني الإسلامي العام بـ (الكفر)، فمن ينكر الوجود الرباني أو ينفيه هو كافر، ومن ينكر أو ينفي المصدرية الإلهية للقرآن فهو كافر...
قال الاصفهاني في مفردات القرآن: (وأعظم الكفر جحود الوحدانية، أو الشريعة أو النبوة...)، وفي تصوري أن الجحود هنا تعبير عن الإنكار ، نكرَ بمعنى نفى، نكر وجود الله، أي نفى وجوده، قال أنه تعالى غير موجود، فهؤلاء قالوا (لا رب، ولا نبوة، ولا معاد، و لا شريعة...)، أي هناك نفي، حيث أساوق هنا بين النفي و الإنكار رغم بعض المفارقات اللغوية.
هل الكفر بالله يعني إنكاره؟
هل الكفر بالتوحيد يعني إنكاره؟
هل الكفر بالنبوة المحمديِّة يعني إنكار نبوة النبي العربي؟
يبدو السؤال غريبا هنا، ولكن المسالة في غاية الدقة، ويجب تفكيك المفردات بالتفصيل، لأن البيان السابق يفيد أن هناك تساوقاً كليا، تطابقاً تاما بين الكفر والإنكار، بطبيعة الحال أتكلم عما نحن فيه، أي الكفر بالمعنى الشرعي.
أن مبعث هذا التساؤل هو طبيعة وحوليات الإنكار، فليس الإنكار حالة واحدة، ولا هو متساوي الظروف والأسباب والحالات، هناك نماذج كثيرة من الإنكار، فكيف نضعها جميعا في إطار واحد هو الكفر؟ أو نساوي بينها وبين الكفر في كل الأحوال والظروف والصورة والصيغ؟ أو ندخلها كلاً وبضربة واحدة تحت عنوان واحد هو الكفر؟
كفر بالمعنى الشرعي أقصد.
الدليل على وجود الله، أو نبوة عيسى، أو غيرها من المعتقدات الغيبية قد يحمل بين تضاعيفه تناقضا، أو قد لا يكون كافيا، أو يصطدم بالعلم، أو يحتوي على خلل منطقي.
فهل عدم الإيمان هنا بموضوع دليل كهذا يعد كفرا؟
هناك من ينكر الإلوهية أو النبوة لأسباب تتعلق بوضعه النفسي والروحي، يعيش حالة من الضياع الفكري، مأزوم من الداخل، وبسبب ذلك لا يستطيع تجلية الفكر، ولا يقدر على محاكمة الادلة المنطقية والعلمية، وهناك من ينكر كل شي في هذا الكون بسبب فقره، بسبب الجوع والمرض والحرمان، هناك من ينكر بدعوى أنه وجد الدليل المعاكس أقوى، أقدر على إشباع عقله، يرى فيه أقرب إلى المنطق، أقرب إلى العلم...
إن قضايا الإيمان بالغيب ليست سهلة في هذا الزمن، لقد تعقدت قضية الكون والحياة والروح والغيب في ظل المعادلات الجديدة للفكر والعلم، تحتاج إلى دقة علمية، واطلاع عميق، وأي دين يحوز على راحة الضمير ورضا العقل في ظل هذه الثورة الإعلامية التي تتلاعب في العقول والنفوس والضمائر؟ صورة مرئية واحدة تقلب الموازين كلها، وهل هناك مجال للبحث عما وراء الطبيعة في زحمة هذه الانشغالات الهائلة التي لا تسمح للإنسان أن يراجع شؤونه الشخصية اللصيقة بحياته اليومية، فكيف بقضايا الغيب وشؤونه؟
جدير بالذكر أن المشكلة لا تتعلق فقط بقضية الغيب، بل بقضية البحث عما وراء الطبيعة بشكل كامل، البحث عن إله، ومعرفة هذا الإله، البحث عن دين، والتعمق به من أجل الإيمان، البحث بدعوات موسى وعيسى ومحمد، والغوص في التفاصيل.... ترجيح أزلية المادة على خلقها، مشكلة الشر، القضاء و القدر... هذه المسائل الغيبية لم تعد سهلة، ولم يعد هناك وقت كاف للتعمق فيها ولو إجمالا.
هناك من يبحث صادقا، ويصل إلى أن فلسفة الإله منتفية لديه، لم يجدها مقنعة، لم يكن إنكاره عن رغبة في الإنكار، ولم يكن عن ضغط نفسي، ولم يكن بسبب ثقافته السابقة.... هل هو كافر بالمعنى الشرعي هنا؟ ليس هناك إله حسب ما توصل إليه، فلم يقم بعملية (تغطية) على هذا الإله العملية. هناك أله، ولكن لم يصل إليه هذا الباحث، فهل مارس عملية التعمية على هذا الإله؟ هل كفر به بالمعنى الشرعي؟
الذي لا يعترف بإله، ولا بنبوة، ولا بمعاد، ولا بروح، وذلك بعد بحث جاد، أو لسبب خارج عن إرادته، ربما كافر بالنظام المجازي، ولكنه ليس كافرا بالمعنى الشرعي.
إن الكفر هو التغطية، والتغطية تتطلب أمرا ما تتم عملية التعمية عليه، إنكاره تكبرا، أو لغرض خاص، وبالتالي، إن الذي لم يصل بعد بحث عن إله، ثم يعلن عدم إيمانه بإله ليس كافرا، لانه أصلا لم يجد إلها فيغطي عليه، يخفيه، يستره داخل نفسه وينكره على لسانه...
إن إعادة النظر بمعنى الكفر وصورته أصبحت قضية مهمة على اللاهوت الديني قراءتها من جديد بتمعن وروية، وفي ذلك بعض سلام يمكن أن يشع خيره على العالم.