في حزيران من كل عام، أتساءل هل يمكن ان تستحيل ذاكرتنا الى خط دفاع أخير في عالم يغرينا بالنسيان، هل يهدأ الوجع في نفوسنا والارض مازالت تشكومن عدوان السلاح عليها واضطراب ابنائها بين فصائل تتنازع امتلاك الحقيقة، كيف للذاكرة ان تستريح دون ان ترحل الى مرافئ الحزن العتيق؟
في رحلة هي أقرب الى الحلم، كان لي أول نهار في القدس، جلت في شوارعها وبين مساكنها الوادعة، بهرتني اسواقها القديمة في تعانق اقواسها واجتماع دكاكينها كانها دار واحدة وقد اعدت وليمة لكل الناس. وفي الطريق الى المسجد الاقصى، تخيلت السماء تمطر وردا ً يتكدس فوق القباب العالية وعطراً ينساب منها فيغسل الدروب ويمسح غبار الازمنة البعيدة،تسكرني موجة العطرفيترائ لي موكب الانبياء والقديسين وهم يعبرون الى السماء، يحملهم بساط سندسي، وطائر اسطوري يلفهم بجناحيه فترتد عنهم الشمس، يحلقون بهدوء مشوب بالاسرار، يذهلني المشهد واحار في عجائبيته الباهرة فامضي في حلم المسير، ناظرة الى الاعالى، باحثة عن مزيد من الصور، خلت نفسي اعبث بين الغيوم وافتش عن ريشة بيضاء ضيعها ذلك الطائروهو يفرش مظلته الباهية، ومازلت في متاهاتي الجميلة حتى علا صوت جدي محذرا: لم تنظرين الى السماء، ماذا دهاك؟ لم اقل له انها قصصك التي امتعتني بها وشغفك ببيت المقدس واحاديثك عن الاسراء والمعراج وذوبانك في بحر من الخشوع اللامتناهي. من حدائق ايمانه وتدفق عاطفته، صنعت عالماً سحرياً ونسجت حكايا طريفة كانت ملح طفولتي ووسيلتي الماكرة لشد انتباه معلماتي واترابي.
في رحلة هي أقرب الى الحلم، كان لي أول نهار في القدس، جلت في شوارعها وبين مساكنها الوادعة، بهرتني اسواقها القديمة في تعانق اقواسها واجتماع دكاكينها كانها دار واحدة وقد اعدت وليمة لكل الناس. وفي الطريق الى المسجد الاقصى، تخيلت السماء تمطر وردا ً يتكدس فوق القباب العالية وعطراً ينساب منها فيغسل الدروب ويمسح غبار الازمنة البعيدة،تسكرني موجة العطرفيترائ لي موكب الانبياء والقديسين وهم يعبرون الى السماء، يحملهم بساط سندسي، وطائر اسطوري يلفهم بجناحيه فترتد عنهم الشمس، يحلقون بهدوء مشوب بالاسرار، يذهلني المشهد واحار في عجائبيته الباهرة فامضي في حلم المسير، ناظرة الى الاعالى، باحثة عن مزيد من الصور، خلت نفسي اعبث بين الغيوم وافتش عن ريشة بيضاء ضيعها ذلك الطائروهو يفرش مظلته الباهية، ومازلت في متاهاتي الجميلة حتى علا صوت جدي محذرا: لم تنظرين الى السماء، ماذا دهاك؟ لم اقل له انها قصصك التي امتعتني بها وشغفك ببيت المقدس واحاديثك عن الاسراء والمعراج وذوبانك في بحر من الخشوع اللامتناهي. من حدائق ايمانه وتدفق عاطفته، صنعت عالماً سحرياً ونسجت حكايا طريفة كانت ملح طفولتي ووسيلتي الماكرة لشد انتباه معلماتي واترابي.
ولع جدي بهذه المدينة، جعله يستغرق في الصلاة من اجلها ويدعوا لجناحها الشرقي بطول البقاء في ايد عربية، كان ذلك قبل عامين من رحيلها الى ضفة العدو حين حملتها رياح الهزيمة. لم اكن افهم هواجسه ففي العهد الخطابي الذي عشناه، كانت حيفا ويافا اقرب الينا من عواصمنا، اصوات تتوهج فتحرق كل مباني صهيون، كلمات ناصر العروبة ونبرته الواثقة، لم تترك للناس مجالاً للشك في النصر القريب، كنا نسمعها كأنها تراتيل من كتاب مقدس، ومع اخي الذي يكبرني ببضع سنوات، واصدقاء لنا، أنشدنا، مفاخرين بوعينا المبكر quot; ثوار لآخر مدى، ننهض بكل صباح بحلم جديد، ثوار نعيدك يا انتصار ونزيد quot; غنينا للأمة وقائدها الذي quot; سيشد لنا الصباح من الدجى، وسيلقي بقلب الظلم رعده quot;، امة الشعروالتماع الكلام حملته الى ضفاف النجوم فانبسطت امامنا أرض فلسطين وزرقة بحرها. لم يكن جدي مغروما بحبيب الملايين ولم يعبأ يوما بنموذج اشتراكيته ومبادئه الستة، كنا نشفق عليه لأنه لم يستطع ان يتخيل ماذا يمكن ان يفعله ناصر لصياغة مجد العرب.
في صباحات القدس نعمنا بنسمات باردة، نحن القادمين من رمضاء العراق، حيث يذوب القار في شوارع بغداد فتنغرز فيه كعوب احذية النساء وتلتوي قاماتهن الرشيقة في محاولة للخلاص، الظهيرة هناك لاترحم لكنها في القدس بدت أهون. سألت جدي لماذا كانت معلمتي تقول ان الصخرة التى انطلق منها الرسول الى عليائه، معلقة في الهواء؟ يبتسم ويقول انها ارادت ان تشحن ايمانكم بخيال قدسي، كان يحلو له ان يمضي في صلواته المحببة في مسجده الاثير، بينما ألهو انا مع فتيات العائلة المضيفة واستمع في الليل الى قصص من عالم النكبة واسفارها، يلطفها الحنين وصوت ام كلثوم في اغنية قديمة.
ثمة رحلة اخرى الى السماء كانت تنتظرني عندما اطحبني جدي الى كنيسة القيامة، لم اكن قد شاهدت غير كنيسة بسيطة في بغداد، لكن مارأيته فاق مساحة الحلم، رائحة المكان ومدامع الشموع البيضاء، سيدة اعجبها انبهاري وفرط دهشتي، تهمس في اذني quot; ولما كان الظهر خيم الظلام على الارض...صرخ يسوع: الهي لماذا تركتني؟ ثم لفظ الروح quot; (انجيل مرقص 5، 33).
تنتقل عيناي بين الرسوم فلا اصدق ان ريشة فنان ابدعتها، انهم رسل وملائكة حقا، ينظرون الي، يدعونني الى اضاءة شمعة وترتيل الصلوات، اجيل النظرفي ركن يلفه السكون فاجد راهبا يجثو على ركبتيه، حسبته تمثالا لاحد القديسين، لولا اشارة الصليب التي رسمها على صدره، رفعت يدي لارسمها مثله والسيدة تباركني فما كان من جدي الا ان يمسك بيدي ويعيدها الى مكانها، ليوضح لي فيما بعد ان المسيح عندنا مقدس لكنه لم يمت مصلوبا وقد رفعه الله الى عليائه.
تنتقل عيناي بين الرسوم فلا اصدق ان ريشة فنان ابدعتها، انهم رسل وملائكة حقا، ينظرون الي، يدعونني الى اضاءة شمعة وترتيل الصلوات، اجيل النظرفي ركن يلفه السكون فاجد راهبا يجثو على ركبتيه، حسبته تمثالا لاحد القديسين، لولا اشارة الصليب التي رسمها على صدره، رفعت يدي لارسمها مثله والسيدة تباركني فما كان من جدي الا ان يمسك بيدي ويعيدها الى مكانها، ليوضح لي فيما بعد ان المسيح عندنا مقدس لكنه لم يمت مصلوبا وقد رفعه الله الى عليائه.
في مقاماتنا الكثير من الزخارف والذهب والميناء، عمارة الخطوط الرشيقة ومهرجان الثريا، فوضى الناس في تذرعهم الصاخب، وشرائط خضراء يربطونها في شبابيك الاضرحة، ارواحهم الهائمة لاتمل من انتظار لمسة علوية تشفي جراحهم، لكن الامر مختلف في تلك الكنيسة الموحية، اجواؤها تعكس عالم الروح المتعالي على الالم، فذلك القس المتماهي مع قدسية المكان، يومئ للصمت كي يتكلم عنه. جدي هو الاخر كان شديد التاثر بما رأى، لاحظ ذلك احد الزوار فانشأ يشرح له تاريخها: هنا كان موضع صخرة الجلجلة التي صلب عليها المسيح وهنا دفن في القبر المقدس، ثم قام في اليوم الثالث من رقاده فكانت كنيسة القيامة تذكارا للفجر الثاني لبزوغه، انشئت في عهد امبراطور الروم قسطنطين في العام 324، وعلى روايات اخرى، في القرن الثامن.
عبر المسافات التي قطعناها في ربوع فلسطين، ظل يسكنني شعور اكيد بان هذه الرحلة لن تتكرر، واني ساستعيد اطيافها في كل صيف، لااعرف لماذا ربما لكثرة ما كان يرشح من احاديث جدي من صور غير متفائلة على الرغم من ثقتي المطلقة بان رايات عبد الناصرسترفرف فوق جبل الكرمل.
أطياف حزيران تعود الينا كلما دفعناها الى النسيان، تعود بهيئة القادة المتحاربين، اخوة الامس، العائدين الى بعض وطنهم، الزاهدين به امام طموحاتهم. ويعود حزيران ايضا في لباس المقاومين والممانعين المفاوضين، من طهران الى لبنان، وبينهم العراق، تتناسل فيه الزعامات ولا احد منها يقع في قلوب الناس.
هزيمتنا قبل اكثر من اربعة عقود كانت على يد اسرائيل وبفعل اخلاص حكامنا لانفسهم، واليوم نهزم بعضنا بعضا، فصائل مغوارة تلعن العدو وتتمنى ان يواصل عدوانه ليبقى سلاحها على اكتافها، زينة للرجال ورهبة للجوار من الاهل، جيل من المقاومين يزدرون طموح الناس الى السلام وآمالهم البسيطة، لغتهم فوق اللغات والشرف من سماتهم حصراً.
في أيام حزيران أو ساعاته الست، كان القائد واحداً والمسؤولية واحدة، هكذا اعلنها ناصر حين عرض التخلي عن جميع مناصبه، تحت وطأة الهزيمة، ولعلها مأثرة لا يرقى اليها قادة هذا الزمن، ولو انه تراجع عنها وكفكف دموعه. منطق المكابرة اليوم هو السائد، فالذي يذكي نار الحرب ويستجلب شراسة الاعداء، يلتفت فينقض على اخوانه قبل ان يستعيدوا انفاسهم ويحاسبوه. والمجاهدون الوافدون الى ارض الرافدين، يقارعون الاحتلال بتفجيراجساد العراقيين، ومن يهتف لهم لا يقدم رغيفا لجائع او لحظة امان اوكلمة طيبة. المقاومة استحالت الى مشاريع للسيادة المحلية وابتزاز الاخرين، هكذا يعود حزيران ساخنا، متوترا، تلطفه رياح الصفقات الباردة كبرودة المتابعين عن بعد لخصومات اخوانهم واشتعالها بايديهم ولكن بعيدا عنهم.
كاتبة عراقية - لندن






















التعليقات