كان لينين يؤمن بمقولة غوته بأن quot;النظرية رمادية اللون لكن شجرة الحياة خضراء الى الابدquot; كما ابدى انحيازه لجدلية إنجلز ورأيه بأن quot;لاشيء بالنسبة للديالكتيك قائم الى الأبد، أو أكيد مشروط أو مقدسquot; فـquot;المادية نفسها ستتغير لدى كل مكتشف علمي خطير.. والصراع الطبقي سيتغير بتغير الظروف..quot;. ولذلك كثرت مراجعاته لسياساته الاقتصادية الثورية، واقتنع بإمكان تعايش وصراع نموذجين مختلفين، هما: الاقتصاد الاشتراكي، والاقتصاد الرأسمالي، في مرحلة الانتقال الى الاشتراكية، معتبرا إن من شأن هذا التفاعل انجاح بناء الاشتراكية في روسيا. لكن نهجه هذا جوبه بنقد من قبل رفاقه المقربين، باعتباره تراجعا عن الاشتراكية (*)، ولم يكتب لإرادة التطوير أن تأخذ مداها ربما لعمره القصير في السلطة أو لأن الظروف التي انتجتها الحرب الاهلية وحروب التدخل الاجنبي، ثم الاعتماد الخاطئ على ستالين المتجهم الفكر والمسكون بنهج القهر.
وعندما آل الحكم الى ستالين، فرض في العام 1929 سياسة اقتصادية جديدة أسماها quot; الإنعطاف العظيم quot; وبموجبها أصبحت جميع وسائل الانتاج ومرافقه، ملك الدولة، كما تم تبني نمط الزراعة الجماعية، وفي منحدر هذا الانعطاف، ارتكبت فظائع أدت الى اختلالات اجتماعية خطيرة (**). وبموازاة ذلك تضخم الجمود العقائدي وتحولت النظرية الماركسية ndash; وفق قراءة محدودة ndash; الى كتاب مقدس.
ربما تكون هذه المقدمة مدخلا مناسبا للحديث عن الحزب الشيوعي العراقي ومستقبله في الصراع السياسي الحالي، في ظل مجموعة من التغييرات، عبرت عنها وثائقه منذ بداية التسعينيات التي شهدت محاولات لتجديد فكر الحزب، وتوضحت اكثر بعد مؤتمره الثامن الذي عقد ببغداد في أيار من العام2007، فقد جاء في وثيقته الفكرية تحت عنوان خيارنا الاشتراكي: quot;..وما اصبح موضع تشكيك ومراجعة ليس وجود الصراع الطبقي بذاته، بل موضوعة ماركس القائلة بأنه القوة المحركة للتاريخ، وكذلك علاقة الصراع الطبقي بأشكال السيطرة والتسيد في المجتمع..quot; كما دعت هذه الوثيقة الى التحرر من الجمود والتقنين والتقديس اللذان فرضا على الماركسية، وذلك quot; بإعادة قراءتها وفحصها لتجديد حيويتها العلمية وفاعليتها كأدوات نظرية لدراسة حركة الواقع وتغييره quot;.
وبرنامج الحزب quot; يسترشد بالفكر الماركسي والتراث الاشتراكي عامة، ويسعى الى تجسيد ذلك في ظروف العراق الملموسة بإبداع..quot; والى جانب ذلك quot; يستوحي كل ماهو تقدمي في إرث الحضارات الرافدينية والحضارة العربية الاسلامية وسائر الحضارات الانسانية..quot; هذا يعني إنه لم يعد حزبا اتبّاعيا مرجعيته ماركسية لينينية لاتناقش، وإنما - حسب البرنامج ndash; quot; حزب.. يعمل على إقامة نظام ديمقراطي أساسه التعددية السياسية.. والتداول السلمي للسلطة واحترام حقوق الانسان وضمان الحريات الشخصية والعامة، واعتماد مبدأ تكافؤ الفرص وتأمين العدالة الاجتماعية وبناء دولة القانون والمؤسسات، الدولة الديمقراطية العصرية quot;. هذا التوجه ايجابي بلا شك ومفهوم في الإطار العام، الا إنه يتعارض مع تسمية quot; الحزب الشيوعيquot;، لماذا؟
إن أي حزب يتبنى فكرة الشيوعية، لابد من أن يعمل من أجل بنائها، وهي في جوهرها إنسانية سامية لكن متطلباتها باهضة التكاليف ؛ أولها إلغاء كل مايعارضها من الأفكار والبنى الإجتماعية والإقتصادية وهذا من شروطها الأساسية. القول بأن الحزب يؤمن بالتداول السلمي للسلطة، لايصمد أمام ما تحتمه الشيوعية من ضرورة تطبيق النظام الإشتراكي كما تصوره ماركس أو مع تعديلات يفرضها واقع معين ومنه يجري الانتقال الى الشيوعية، حيث يبلغ الانسان الإشتراكي درجة عالية من النضوج والاندماج بالمجتمع فلا يأخذ الا حسب حاجته، ويصبح العمل لذة وليس عبئا، وتنتهي الفوارق بين الطبقات، وبين المدينة والقرية، وكذلك بين العمل الفكري واليدوي.
وبالطبع فلاسبيل الى تحقيق كل ما تقدم الا باستلام الحزب للسلطة وبقائه على رأسها ليستكمل بناء القاعدة الاساسية لانطلاق الشيوعية، ومن شأن استلام اي جهة اخرى للحكم بموجب قاعدة التداول السلمي للسلطة، ان يلغي المنجزات التي توصل اليها الحزب في مسار البناء الطويل.
نأتي الى مقولة الايمان بحقوق الانسان والحريات الشخصية، فهي ايضا لاتنسجم مع ما ترمي اليه الشيوعية من توحيد المصالح العامة والفردية وذوبان الفرد في المجتمع. حق الإنسان في الملكية ابسط الحقوق واكثرها بدائية، مرفوض في الشيوعية وفي طريق الإنتقال الى عليائها لابد من سيطرة الدولة على كل وسائل الانتاج، أي نزع الملكية الخاصة وتجريد البرجوازية من عناصر قوتها.
باختصار ان الفقرة المشار اليها من برنامج الحزب، عن الديمقراطية ومقتضياتها، غير متوافقة مع تمسك الحزب بالعقيدة الشيوعية. وكذلك شعاره (المنجل والمطرقة)الذي يعني إن الفلاحين والعمال مازالوا محوراهتمامه، ايضا لم يعد يعبرعن الصلة الوثيقة مع الكادحين، فقد تغيرت ملامح المجتمع العراقي، ولم يعد هؤلاء هم الاكثر شقاء، والملايين من الفقراء الحقيقيين ممن لاوطن لهم والمهجرين والعاطلين والنساء الكادحات في المنازل والجنود والشرطة السابقين وافواج الاطفال المشردين في الشوارع، وغيرهم، لاينبغي ان يغيبوا، وبالتالي فان تحديد فئة معينة من الشعب لايخدم شعبية الحزب.
غير ذلك، هناك مايستحق التغيير في خطاب الحزب المتعلق بالدين، وهو في رأيي ضروري لتحسين أدائه وتوسيع دائرته الجماهيرية، وقدرته على المنافسة السياسية مع الاحزاب الدينية، الحاكمة والمعارضة، التي مازال بعضها يحمل ضغينة كبيرة لكل مايتصل بالشيوعية، سواء كان ذلك لذنوب ارتكبها الحزب، عبر إطلالته الخاطفة في الخمسينيات، أو بسبب الخوف من البعد الانساني للفكر الاشتراكي المتعلق بإنصاف الطبقات المستغلة. والاسلام السياسي يراهن دائما على التدين الشعبي وسهولة انقياد الناس خلف شعارات عامة دونما حاجة الى صياغات نظرية مرهقة، فالدين يختزن طاقة تعبوية لايستهان بها، والفقراء والمحرومون مادتها الاساسية، وهؤلاء في الوقت نفسه يفترض ان يكونوا جمهور الحزب الشيوعي. يقول مفيد الجزائري القيادي في الحزب: quot; نعتبر الموقف من الدين موقفا شخصيا يخص كل عضو في الحزب quot; ويضيف: quot; كان لدينا دائما ومايزال رفاق يصومون ويصلون ويؤدون الشعائر الدينية..quot; في رأيي ان هذه الحيادية لاتكفي وسط أجواء مفعمة بالتشدد الديني والاستقطاب الطائفي والتحريض ضد الحزب عن طريق نبش ملفات قديمة، تحملت قوى دينية مرموقة مسؤوليتها الاساسية، قياسا الى مجمل المؤاخذات على دور الحزب آنذاك (بعد قيام الجمهورية في العام 1958). والمحرضون مازالوا يستغلون الجهل العام بمعنى كلمة (الشيوعية)، مقرنين إياها باجواء الاضطهاد الديني في الفترة الستالينية الطويلة (***)، وبنزع الملكية الكامل، وهذا ما يخيف أغلب الناس الحريصين دوما على سكينتهم الروحية وممتلكاتهم. أي إن المغرضين يركزون على التجارب القديمة للنظام السوفيتي وتراث الحزب المتماهي معها.
كل ذلك يستدعي من الحزب أن ينأى عن النظرية بقدر الحاجة الى توصيل أفكاره المتعلقة بالعدالة الاجتماعية، الى بسطاء الناس البعيدين عن أصول الثقافة والفلسفة، ولو كان كارل ماركس نفسه قائدا لحزب سياسي، مضطرا للتعامل مع الجماهير، وليس فيلسوفا مهموما بالحقيقة، لما قدم تفسيرا مختصراللدين، أصبح لاحقا عبئا على الاحزاب الشيوعية في البلدان الاسلامية بشكل خاص، فالفيلسوف يملك من الحرية ما لايملكه السياسي. في ظني إن ما يحتاجه الحزب في هذه المرحلة، هو الاهتمام بالثقافة الدينية لقياداته واعضائه، بحيث لايبدون غرباء عن المشهد العراقي المتخم بالدين، الصحيح منه والمصنوع. بالاضافة الى ذلك ان يكون المبادر في الكتابة عن الجوانب المضيئة في التراث الإسلامي، وعقد الندوات والملتقيات الشعبية، لمناقشة الكثير من المسائل الحياتية المرتبطة بفهم خاطئ للدين، وتقديم الخدمات للناس في المناسبات الدينية (المولد النبوي، زيارة العتبات المقدسة..)، التي طالما جرى توظيفها لمصلحة قوى سياسية مختلفة، عبر تاريخ الدولة العراقية. فوق ذلك يبدو مهما ان تتضمن أدبيات الحزب اعتبار الدين أحد المكونات الاساسية لوعي الجماهير، ما يساعد على اجتذاب المتدينين الى صفوف الحزب. ويذكر في هذا المجال ان لينين كان حريصا على اجتذاب العمال المؤمنين بالله ودعوتهم للانضمام الى الحزب، وكان يحذر من الاساءة الى معتقداتهم.
إن الحزب الشيوعي بشكل عام مازال نظيف اليد مما تلوثت به أيادي أحزاب وسياسيين عراقيين، حطموا أرقاما قياسية للمفسدين في العالم، وأي تغيير ايجابي في سياسته قد يمنحه دورا اكبر في عملية بناء المجتمع، ويسهم في تعديل الميزان السياسي المختل لصالح قوى لاتهتم بالدين وإنما تتخذ ه وسيلة لبلوغ مصالحها، وهي حقيقة تخشى ان يستعيد الحزب شعبيته السابقة، وقد توضح ذلك من خلال الضغوط التي تعرض الشيوعيين في انتخابات المحافظات، وصلت الى حد شطب اسمائهم من سجل الناخبين في احدى مناطق محافظة كربلاء، على سبيل المثال، هذا بالطبع يدل على اهمية الحزب ويعزز الآمال المعقودة عليه في ان يواصل مسيرة تحوله الديمقراطي وان يختار بعناية حلفاءه.
الهوامش:
* مقوضات النظام الاشتراكي العالمي وتوجهات النظام العالمي الجديد (عامر عبد الله)- ص266
مكتبة رمضان ndash; لندن
* المصدر السابق، ص49.**
***المصدر السابق،ورد في المحورالخامس للكتاب تحت عنوان الدين والثقافة، ص 172-173، ان ستالين فرض اعتماد الالحاد كشرط لعضوية الحزب الشيوعي السوفيتي ومنظمة الشبيبة الشيوعية، ولم يرفع هذا الشرط الا في العام 1990، على الرغم من ان الاضطهاد الديني توقف او خف في نهاية السبعينيات.

كاتبة عراقية - لندن