إسترسلت في تفكير بصوت عال، وكان مستمعي الوحيد الذي صادقته في الخليج، ويتبوأ مركزاً مهماً في حكومة بلده . قلت إن الناس مجانين ، هم خلقوا الله على صورتهم ومثالهم وليس العكس، وهو بالتأكيد ليس كما يتصوّرون. أعطيت مثلاً رواية ولادة السيّد المسيح وسردت أسباباً تاريخية أثبتتها الأبحاث يستحيل معها أن تكون كما وردت في الأناجيل ...
فقاطعني صديقي: لكن هذه الرواية واردة في القرآن.
تذكرت نصيحة قدمها إلي أسقف quot;منفتحquot; فكرياً إلى حد ما أو هكذا يخيّل إلي، إلتقيته في مناسبة إجتماعية، وقال إن الناس يحتاجون إلى إيمان، مهما يكن. إيمانهم مثل قنطرة إذا انتزعت منها حجراً انهارت كلها.
لذلك غيّرت مسرى الحديث مغموراً بما يشبه العطف، وكدت أن أعتذر لصديقي الوحيد في الخليج عن تسببي بهلع قفزت علاماته إلى وجهه. وكان بودي سؤاله : رغم ذلك، ماذا لو كانت الرواية غير صحيحة أيها الصديق؟
***
ردّ الفعل نفسه عندما تلتقي، مثلاً، مقتنعاً أو مقتنعة بأن quot;حماسquot; أو quot;حزب اللهquot; انتصر على إسرائيل. لن يتغيّر شيء إذا أجبت : quot;حسناً، إذا كان ذلك يُفرحكquot;.
***
الصراع مع إسرائيل صراع أساطير . وهي ربحت حتى اليوم لأن القيمين على الدولة فيها يضعون جانباً الأساطير عندما تتعلق الأمور بالسياسة والحرب والسلم. لا يستخدمونها إلا للحرب النفسية.
***
أكثر السياسيين لؤماً والأكثر السياسيين فجوراً يتشاجران هذه الأيام على الهواء بين وقت وآخر.
وكنت حاولت إقناع نفسي أن لبنان بلد يبعث على الملل لولا إطلالات كل من quot;دولة الرئيسquot;، لكن غيّرت رأيي: بل نستطيع العيش من دونهما . رجاء أخفضوا الصوت.
***
الموضوع الأثير عند الكتاب والشعراء هو أنفسهم ، حتى عندما يكتبون عن غيرهم إنما يتحدثون عن ذواتهم . فما نحبه في الآخرين قد يكون ما يبعثونه فينا من فرح ومن مشاعر وأحاسيس جميلة، أي نحب ذواتنا لا غير من خلالهم.
***
تلقيت أخيراً عرض عمل مغرياً في الخارج يتضمن أضعاف ما أكسب وموقعاً مهنياً مرموقاً. ولا أخبر تباهياً بشأن خاص لا يعني أحداً، بل لتذكير بعض من يهمني أمرهم ومن يمكن أن يفيدهم تذكير: إن الحياة أجمل من المال. ومن لا يكون سعيداً حيث هو عبثاً يبحث عن سعادة في مكان آخر.
إلا أنني لست متيقناً بعد أن هذه النظرية صحيحة. ربما كان يجب أن أقبل العرض.
***
تباهى اللبنانيون طويلاً بنظامهم غير الوراثي خلافاً لمعظم الدول العربية إن لم يكن كلها، وهذه أكبر كذبة. ففي مجالس نوابهم الماضية والآتية يحتشد وسيحتشد الأجداد والآباء والأحفاد ودوماً مع أزلام وأتباع . الأحفاد يحملون أسماء الأجداد عادة لئلا يعتقد المعمّرون من مواطنيهم أن الزمن قد تغيّر. أما الثوار على ذهنية التوارث السياسي فسرعان ما التحقوا بالمسيرة، وإن لم يكن لأحدهم إبناء جاء بالصهر أو الزوجة، ودوماً وسط حماسة إنتخابية عارمة.
والأكثر مدعاة إلى الأسف بعدما استسلم الثوار أن ذهنية التبعية والتعلق بالزعامات والبيوت السياسية العائلية شاعت في كل مكان ولم تعد تلقى أدنى مقاومة.
ولا جديد على هذه الأرض.
***
تقرأ الجريدة فلا يلفتك فيها مقال ولا خبر، فكلها مشاحنات وسجالات ودسائس. تقلب محطات التلفزيون العربية فلا يشدك برنامج ولا تحقيق.
في ما مضى كانت الأحداث أقل عددا وأهمية والإعلانات قليلة جداً، ورغم ذلك كانت الجرائد دسمة، والتلفزيون بالأسود والأبيض وقنواته محدودة، لكنه كان يبث روائع بين وقت وآخر.
السبب يعود على الأرجح الى أن كتّاباً وشعراء كانوا يحررون الأخبار ويكتبون المقالات ويبتكرون البرامج ويقدمونها. أما اليوم فما عادت هذه الفئة من الناس مرغوبة في وسائل الأعلام على تنوعها. صارت الأعلانات، أي الثروة وتزايدها، أهم من أي شيء آخر.
***
لسنا جميعاً عجائز لنتذكر، ولكن يجب أن يذكرنا أحد من وقت الى آخر بأن اللبنانيين عاشوا رعب المجاعة قبل وقت ضئيل نسبياً، وأنهم بين العام 1928 والعام1933على سبيل المثال، بالكاد كانوا يتمكنون في مجملهم من تأمين ما يأكلون ليومهم.
ولأن اللبنانيين لم يعرفوا ما هي الوفرة ولم يتداولوا المال إلا في مرحلة متأخرة، في غياب الأريستوقراطية الغنية نسبياً، تبرز في أعداد كبيرة منهم روح العجرفة التي تسميها العامة quot;الزنطرةquot;. ولو بحثوا في تواريخهم لفوجئ كثر بِضِعة أجدادهم الذين ما كانوا، موقعاً اجتماعياً وفهماً، أفضل من الخادمات الآسيويات اللواتي يسيء الأحفاد معاملتهن.
***
قضت الأحزاب اللبنانية على نفسها بعدما ابتعدت عن أهدافها، بل بالأحرى عن الروحية التي نشأت في ظلها وانطلقت منها ، حاولت أن أعرض وجهة النظر هذه لأصدقاء في جلسة عارضة وأخفقت . كنت أقول أنه يصعب تحديد المرحلة التي ٌُقضي فيها على حزب الكتائب وإن كان ممكناً الجزم أن ذلك حصل منذ زمن بعيد حتى قبل أن يغيب مؤسسه بيار الجميّل، ويعود السبب في الأساس إلى عوامل داخلية .
وهكذا الحزب الشيوعي لم ينهِه جورج حاوي قبل اغتياله ولا فاروق دحروج ولن يقدر خالد حداده ولا غيره على اقامته من الموت. وليس أسعد حردان أو جبران عريجي ولا سلفه علي قانصو، ولا أنطوان أبي حيدر رئيس الجناح الآخر للحزب السوري القومي الاجتماعي، ولا غيرهم ممن تولوا القيادة مسؤولين عن الحال التي وصل اليها حزب أنطون سعادة من تردٍ لا تعوضه كتلة نيابية أكبر ولا وزارات .
ومن يذكر متى ماتت حركة quot;أملquot;؟ أبعدما نزلت الى الشوارع في 6 شباط/ فبراير 1984 أم بعدما أصبح رئيسها وزيرا للجنوب ثم متصرفاً عليه فرئيساً لمجلس النواب؟ ومتى انتهت مدة صلاحية حزب الأحرار؟ وحزب الكتلة الوطنية ؟ وquot; المردةquot;؟
وهل يعتقد أحد أن quot;حزب اللهquot; المحكوم بالأعدام مع وقف التنفيذ، لجنايات فكرية أساساً وسياسية ووطنية تالية، سيبقى منه ولو فصيل بعد عشر سنين، أوعشرين سنة ؟
ثم، متى كان الحزب التقدمي الاشتراكي آخر مرة تقدمياً واشتراكياً حقيقةً؟ وأين هو من كمال جنبلاط ورفاقه المؤسسين؟ وهل ينتظر أعضاؤه ومناصروه نهضة جديدة على يدي تيمور بعد عمر طويل، ولذلك يظلون حيث هم ويأملون خيراً؟
لم أتطرق الى quot;القوات اللبنانيةquot; ولا الى quot;التيار العونيquot;، وخصوصاً إلى quot;تيار المستقبلquot; لئلا ندخل متاهات أخرى، وكنت أجرب أن أوضح فكرة بسيطة مفادها أن أحزاب لبنان باقية لأن الباقين فيها، وحتى الذين غادروها أو انشقوا عنها، لا يزالون يعتقدون أنها لا تزال قابلة للحياة، في حين أنها تحولت منذ مدة بعيدة جثثاً تفوح روائحها ولا أحد يجرؤ على إعلان الوفاة. ومع ذلك لا ينفك الأهل يتشاجرون ويختلفون على حصر الإرث .
الا أنني أخفقت ، كما ذكرت، في عرض وجهة النظر هذه. وفي مثل هذه الاحوال أقول دائما ربما كنت على خطأ.