كانت الغيوم تتزاحم، تتراقص، تتراكض، تتناغم، تتمايل، تتداخل، تتعانق، تتنافر، تتنافس، تتمايز، تتآلف...

تتنقل بخفة ريم بين أطياف الألوان كافة... تتلحف بالرمادي تارة، وتارة تتباهى بمشلحها الذهبي، وتارة تتمايل على ألسنة الفضة، وأخرى تتماهى والأسود والأزرق، وقد لفّ بعضَها الخجلُ، فأزهرت خدّاه بالأحمر والزهريّ والعنبر...

وكان بعضها يميل للنهدة التي يخفيها، فينزوي ويخشع في محراب له أنشأ؛ يُجري دمعه وتسيل معه كحلتَهُ تروي الأرضَ وترويها...

وكقيسٍ خانته نفسه لا ليلى، تَهيِمُ من دونِ مقصِد، ثمَّ تتقلّص، وتتمطّى، وتنعس، وتسبل الجفنين، ليتسلل النور بخفة ظِلٍّ، يحنو عليها، يرسل أنامله حُرَّةً فوق ذراعيها، ويضمّها بشباكه المحبوكة من سنا، يرويها بما ارتقى لتبسِم، وترنو للعليِّ، وتغفو على أعتاب الأزل...

بعضها كان يحجب الشمس، وبعضها القمرَ...وبعضها كان يفرد يده كبراثن أسد تغمرُ عنق الغزال لتسقِيَه الحياة في أبعادها الأخرى، قبلَ أنْ تعود لتطلقها متسلِّقةً معراج الخيال في تمازج ألوان بهيج...

إقرأ أيضاً: أدوات النفي

من الأسود، إلى الأحمر المزهرّ، إلى البرتقاليّ المتشّح بالأصفر، ووشاح الفضّة المذهّب قد ألقى بظلاله على طيّات التدرجات فأحالها لوحاتٍ من قطع بلّور تتراقص أنغام الضياء عبرها وتتبدّل وتتشكّل...

وغيوم تمطّت تناغمتْ راقصة َباليه أسندت جسدها إلى الأثير، ترفعه على أصابع قدميها، تسدل جفنيها وقد تناست الزمن، ودارت ترتقي سلّم النغم، وترتمي نورًا يغمرُ الوجود... وتعود إذا ضمّت ذراعيها، والرأس ارتاح إلى كتفيها يتنشّق عبَق المطر، ثمَّ... ثمَّ تُقرعُ الطبول، ويرتفع الإيقاع، ويسمع العزف، فتسلِّمَ كلَّها للأثير، تغمره بفنّها، وترقصُ متناسيةً كلَّ أنين، وتتناثر حبَّات من ضياء وسنا...

وغيوم تجمّعت كباقات من القطن، وأخرى كالتلال، وأخرى تأرجحت كالمهرج تشكّل نفسها نسرًا، ثمَّ مهرًا، ثمَّ فيلاً، ثمَّ سفينًا، ثمَّ سِفرًا... والغاية إرضاء الجمهور الناظر إلى السماء مع أنَّه هو القلّة...

إقرأ أيضاً: أعور الدجّال

وغيوم تراصَّت وتراصفت وتدرّجت مرة سابحة نحو الأفق، ومرّة متشوّقة نحو العلا... تسرع مرّة، وتتدلَّل مرات وتستعرضُ أُخر...

وغيوم سلّمت نفسها لريشة من أثير تمسحها شعيرات رقيقة كغزل البنات، إبَرًا، خطوطًا، أخاديد، نوافير من زهر وريحان، باقات من غبار ودخان، ثريات من لؤلؤ ومرجان...

وغيوم غمرت السماء وحضنتها، ونقشتها، وزانتها، وحجبتها، وكشفتها، وعزفتها، وأضاءتها، وراقصتْ فلَكَها والأفئدة، وهي في كل ذلك قد تنادمت رغم تمايزها، وتآلفت رغم تباينها، وتناغمت رغم تباعدها، وتنادت رغم تضادها... إلاَّ أنَّها لم تتقاتل...

إقرأ أيضاً: لعبة الديمقراطية في لبنان بالفعل... لعبة

بعض الغيوم كان يبسم ويضحك، وبعضها كان يحزن، وبعضها يعبس، وبعضها يتدفق، وبعضها يتقطّع ويتناثر... بعضها تواضع فهبط يداعب موجات البحر والزبد، ويحيط بالقمم يحنُّ عليها وقد أسدل ذاته عليها وشاحًا شفّافًا، أو حجابًا يَقِيها نظرات الطمع، وبعضها يراقص الشجر، يتجسّد في المخيلات أشكالاً هندسية، تبدّلات فوضويّة، دموعًا وقُبَلاً، آلهة وأبطالاً، صور أحبّة وموقد حطب، مهربًا وملاذًا، أحلامًا وتهيّؤات... لكنَّها في حالاتها تلك كافة... لم تتقاتل... فنزاعاتها لا تهدّم ولا تكسّر ولا تحطّم... بل نزاعاتها إثراء وغنى، وخلافاتها جمال وسنا، وتضادها تلاقٍ وجنى...

هي غيوم... هي الغيوم التي تلتحف بها الدنيا، تستقي منعا المطر لا العبَر...

تسألها العطاء وهي في العطاء ضنينة، تسألها الرأفة وهي في الرأفة قبيحة، تناشدها السماح... وهي في السماح بخيلة مقيتة...

هي الغيوم وهي السماء... وهم البشر...