تجويع السوريين في مضايا سلاح جديد يستعمله النظام السوري وحزب الله لإفراغ مناطق ينبغي إلحاقها بـ"دويلة الأسد"، بعد تقسيم سوريا.
علي الإبراهيم: يستوقفني رد الشاب عمر برهان من مضايا بعد سؤاله عن حال سكان مدينته اليوم، بكلمات رددها مرات: "أرسلوا من يحفر قبورًا لنا ولأطفالنا، فأجسادنا لم تعد تقوى على الوقوف بسبب الجوع لنحفرها بأنفسنا، فنحن ننتظر الموت جوعًا وبردًا".
بهذا ختم عمر رسالته، التي وجهها نيابة عن أهالي مضايا المحاصرين إلى العالم.
قبل رسالته الأخيرة بدقائق، يروي عمر لـ"إيلاف" عبر اتصال بـ"سكايب" كيف يمكن لمدنيي القرن الحادي والعشرين أن يموتوا جوعًا في سوريا، لا نتيجة قحط أو نقص في المؤن، لكن لأن شركاء لهم في الوطن، وجيرانًا لهم في دولة مجاورة، قرروا حصارهم وقتلهم بالنار وتجفيف البطون، كما يقول.
حصار وتجويع فرضا أكل القطط، أو الحشائش وأوراق الأشجار،أو الماء الدافئ مع الليمون ليصبح كل ذلك طعام المجوَّعين في سوريا، بعدما غيّر نظام الأسد وعسكره المدعوم من إيران وميليشيات حزب الله اللبنانية وروسيا من خططه العسكرية، واتخذ التجويع تكتيكًا للانتصار على الثوار عبر أجساد الأطفال والشيوخ والنساء.
تجويع ممنهج
في كانون الثاني (يناير) 2012، سيطر الثوار على مدينة الزبداني في ريف دمشق الغربي، ليكملوا بعدها إحكامهم على البلدات المجاورة ومنها بلدة مضايا.
منذ ذلك الحين، شهدت هذه المناطق محاولات عدة من النظام وميليشيا حزب الله لاقتحام المدينة ذات الأهمية الجغرافية لكن من دون جدوى، لينتقل بعدها النظام وميليشياته إلى فرض حصار خانق منذ سبعة أشهر، ما أدى إلى نفاد الطعام والدواء، فدخل السكان في معاناة لا تعرف نهاية. فلا هم قادرون على الصمود ولا أحد يسعفهم بلوازم العيش، في ظل الحديث عن وعود بإدخال مساعدات عاجلة إلى المدينة.
قال أحمد قره علي، المتحدث العام باسم حركة احرار الشام الاسلامية، لـ"إيلاف": "الاتفاق الأخير الذي جرى برعاية أممية حول الزبداني-كفريا والفوعة نص على وقف اطلاق النار ثم السماح للجرحى والمصابين والمسلحين بالخروج من المنطقتين وتسليم اسلحتهم الثقيلة، لكن الاتفاقية لم تشمل خروج مقاتلي المعارضة من مضايا. وإنما اشارت إليها فقط من ناحية ادخال المساعدات الانسانية وخروج الجرحى، وبهذا ظل ثوار المدينة خارج الاتفاق لتصبح مضايا عقب خروج المقاتلين من الزبداني مركز ثقل قوات المعارضة في وادي برى اضافة إلى اهميتها الجغرافية على طريق دمشق – بيروت، ومن هنا عمدت ميليشيا حزب الله وقوات الأسد، مدعومين بغطاء جوي روسي، إلى اطباق الحصار عليها عقب إتفاقية الزبداني، وهو ما يخالف الاتفاقية نفسها والتي قضت بإدخال المساعدات إلى مضايا، في سعي إلى تفريغها من اهلها لاستكمال عملية التهجير الممنهج".
لماذا مضايا؟
بالرغم من الجوع، لا يخفي أهالي مضايا والبلدات المجاورة خوفهم من مشروع نظام الأسد وحلفائه& الهادف إلى تغيير ديموغرافية أرضهم.
وتشير المصادر إلى وفاة أكثر من 23 شخصًا جوعًا في الأيام القليلة الماضية، فيما ينتظر أكثر من أربعين ألفًا رغيف خبز قد يصلهم من هنا أو هناك عبر لفتة إنسانية لإدخال مواد غذائية بعد حصار طالهم لأكثر من مئتي يوم، إذ لم تدخل أي شاحنة مواد غذائية إلى البلدة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، كل هذا من دون أن يحرك المجتمع الدولي ساكنًا تجاه ما يمارسه نظام الأسد وميليشيا حزب الله من عملية انتقامية للضغط على الثوار في الزبداني.
ومضايا نقطة جغرافية مهمة ومركز لقوات المعارضة بعد توقيع اتفاق الزبداني وتهجير قسم كبير من أهلها. يسعى النظام وحلفاؤه عبر هذه الحصار إلى إجبار البلدة على التفاوض بعد فشلهما في السيطرة عليها، في خطوة نحو استكمال مشروع التقسيم الذي يسعى اليه النظام مع ايران وحزب الله.
الحصار يتم من جميع الجهات، حيث أكدت مصادر ميدانية لـ"إيلاف" قيام ميليشيا حزب الله بزرع بساتين التفاح المنتشرة في المنطقة بـ 6000 آلاف لغم من الجهة الغربية والجنوبية للمدينة، في حين تحاصر قوات مشتركة من النظام وحزب الله الطرف الشمالي والشرقي للبلدات، بهدف فرض حصار كامل يفضي لتفريغ المدينة من سكانها.
ويؤكد القائد الميداني محمد العامري في منطقة مضايا أن هدف الحصار تجويع الأهالي حتى الموت، "واجبارهم على الاستسلام وبالتالي تفريغ المنطقة وتهجير سكانها لاستكمال عملية التقسيم التي يسعى اليها النظام مع حلفائه للحصول على دويلته المنشودة الممتدة من دمشق وجبال القلمون وحمص وصولًا إلى الساحل السوري".
أسلوب متجدد
يطرح نظام الأسد مجددًا أنموذجًا آخر من نماذج إجرامه وحليفه حزب الله اللبناني، عبر شنه حربًا هوجاء على آلاف المدنيين العالقين في البلدة، مسجلًا من جديد شكلًا آخر من أشكال انتهاكاته المستمرة لحقوق الإنسان، ودماء بريئة جديدة تضاف إلى سجله الحافل في المجازر، حيث آلاف المدنيين عالقون في تلك البلدة ومحيطها دون منقذ يرد عنهم وحش الموت جوعًا وقنصًا وقصفًا.
يكتفي جميع المتابعين من سياسيين وعسكريين بالقول - والقول فقط - إنه ثمة جريمة حرب ترتكب، ويتفق الجميع على أنه ليست المرة الأولى في سوريا، فقد سبقتها جرائم مماثلة نفذها النظام الأسدي وميليشياته في بعض أحياء حمص ودير الزور وفي غوطتي دمشق الشرقية والغربية وفي جنوب العاصمة ومخيّم اليرموك، من دون أي إجراء ردعي يذكر.
والتجويع سلاح سارعت قوات نظام الأسد وحلفائه إلى استخدامه ضد كثير من المدن والبلدات السورية منذ اندلاع الثورة السورية في آذار (مارس) 2011، لفرض الاستسلام على المعارضة المسلحة، ما تسبب في وفاة العشرات جوعًا، وسط صمت عالمي لافت.
ويؤكد الصحافي السوري خالد الخلف ذلك الأسلوب بالقول: "لم يكتف نظام الأسد بالبراميل المتفجرة والمدافع والقذائف والصواريخ الكيميائية، بل قرر إدخال سلاح التجويع إلى ترسانته، واستخدمه ضد كل المدن والقرى السورية التي رفضت رفع الراية البيضاء وتسليم أعناق أبنائها للنظام وحلفائه".
قرارات سابقة
لم يعد اتجاه الأحداث غامضًا في سوريا. التهجير السكاني يسبق تقسيم البلاد. في الوقت ذاته، لم يعد سرًا بعد دخول إيران وموسكو والميليشيات اللبنانية والعراقية بشكل علني أن نظام الأسد يتجه إلى سيناريو التقسيم، وأنه قدم نفسه بديلًا عن داعش ويكاد ينجح في ذلك.
الحقوقي السوري محمد سامي علق على عجز المنظمات الدولية عن القيام بمهامها بالقول: "الخائفون على نظام الأسد أفرادا وجماعات ودولًا يسلمون سرًا وعلانية بأنه المناسب في الوقت الحالي، فهم لا يشاهدون سوى مجازر داعش، بالرغم من أن الأسد ومن معه قتلوا أكثر من نصف مليون شخص وهجروا أكثر من ستة ملايين سوري داخل وخارج البلاد".
في 22 شباط (فبراير) 2014، أقر مجلس الأمن بالإجماع قرارًا يقضي بمرور المساعدات الإنسانية إلى سورية عبر الحدود مع الدول المجاورة وداخل سورية عبر خطوط القتال من خلال أقصر الطرق، في قرار صدر بعدما وافقت روسيا والصين عليه وتضمن القرار مطالبة نظام الأسد بفك الحصار ووقف قصف المدنيين بالبراميل، لكن دون جدوى.
قال فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الانسان، لـ"إيلاف": "أصدرنا عدة تقارير تطالب الأمم المتحدة بالتحرك ومحاسبة المسؤولين من دون نتائج".
جريمة حرب
حذّر الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية الجمعة من ارتفاع معدل الوفيات بين الأطفال وكبار السن نتيجة الحصار في مضايا والزبداني ومعضمية الشام، محملًا المسؤولية للمجتمع الدولي وأصدقاء الشعب السوري، بحسب وصفه، داعيًا الأمم المتحدة إلى تصنيف الوضع بالكارثة الإنسانية، وإقرار تدخل دولي إنساني عاجل وتقديم المساعدات عبر الجو.
وأكد هشام مروة، عضو المكتب القانوني في الائتلاف، أن سياسة تجويع المدنيين في سوريا التي يمارسها نظام الأسد في المناطق التي تقع تحت سيطرة المعارضة، ومنها مضايا جريمة ضد الإنسانية، لأنها تندرج تحت بند الاعتداء على المدنيين في حالة النزاع المسلح والتسبب بموتهم.
وشدد مروة على أن "قيام جهة ما، وخصوصا في حالة وجود نزاع مسلح، في بلد ما، بالتعدي على المدنيين بأي شكل، فإن ذلك يعتبر من الجرائم ضد المدنيين، الأمر الذي يجعل القائمين على الاعتداء، في محل مساءلة قانونية".
أضاف: "قطع وصول الأغذية والأدوية هو اعتداء مباشر على المدنيين، فكيف إذا أدت سياسة الحصار إلى موت وقتل المدنيين في مضايا وغيرها، وبالتالي تعتبر جريمة ضد الانسانية بامتياز، ويعاقب عليها القانون الدولي".
والجدير ذكره أن تظاهرات ووقفات احتجاجية عدة حصلت داخل سوريا وخارجها طالبت بفك الحصار وتفعيل دور الأمم المتحدة ودور منظماتها في محاسبة نظام الأسد وميليشياته لكن من دون جدوى.
وفي المحصلة، ومن خلال جميع الهدن والاتفاقيات وحصار المناطق من قبل عسكر الأسد وميليشياته في وقت سابق، يبدو المشهد واضحًا. فالعملية هذه أدت إلى امرين: تفريغ الارض من اهلها كما حصل مع&13 حيًا في حمص في وقت سابق واليوم كما يحدث في ريف دمشق؛ أو خرق الهدنة كما يحصل حاليًا في مضايا من تجويع لاهلها وخنقها، واللافت ان هذه الهدن حصلت تحت أعين الأمم المتحدة وبإشرافها.
التعليقات