في مايو قبل عشرة أعوام، كانت أسرة "إيلاف" تحتفل بدخولها خامس أعوامها. حقاً، ما أسرع طائر الزمن وما أمض سيفه. إنما، لِمَ أرجع عقداً من الزمان، فيما الحدث هو إتمام أول غيث الصحافة العربية أونلاين، العام الخامس عشر، وقد صارت «أحلى ألف مرة»، كما تغنى باسمها عثمان العمير، وهو يطلق احتفالاتها من دبي قبل أيام؟ جواب: لأن كل عيد إيلافي حمل معه جديداً ما. لو أزاح كلٌ منا غبار الذاكرة، سوف تلوح أمام الأعين حملة تبشير أطلقها فريق "إيلاف" مع عيدها الخامس تعلن قرب إطلاق جديدها تحت إسم: «إيلاف ديجيتال». مؤلم أن يحل العيد الإيلافي الخامس عشر وقد توارت خلف سُحب صعوبات عدة، تلك الرؤية الاستشرافية التي سبقت زمانها فكانت سباقة، ليس فقط عربياً، بل على امتداد فضاءات صحافة الإنترنت بمشارق الأرض ومغاربها.

يوما الأحد والإثنين، السادس والسابع عشر من يوليو عام 2006، تجمّع في المنامة جمعٌ من الأسرة الإيلافية لإطلاق نسختها الرقمية. في حفل الافتتاح بفندق "الموفنبيك" تقدم عثمان العمير فريق التحرير ومسؤولي الإدارة للترحيب بضيوفهم من كبار القوم بمملكة البحرين، وقد تقدمهم الدكتور محمد بن عبد الغفار، وزير الإعلام (آنذاك) ووزير الدولة للشؤون الخارجية، ونبيل الحمر، المستشار الاعلامي لعاهل البحرين ووزير الاعلام السابق، ومحمد المطوع، الوزير الاسبق ومستشار رئيس الوزراء للشؤون الثقافية والاعلامية، وعدد من رؤساء تحرير الصحف المحلية. الحق أن المناسبة كانت تستحق هذا الحضور البحريني الوازن، ذلك أن «إيلاف ديجيتال» كانت أول صحيفة رقمية عربية يستطيع متصفحو الموقع تقليب صفحاتها أونلاين كما الجريدة، أو المجلة، الورقية.

بدأت القصة خريف 2005 في الدار البيضاء. في مكتبه بالطابق السابع من مبنى مجموعة «ماروك سوار»، فاجأني عثمان العمير ذات صباح بطلب ماكيت لبضع صفحات من «إيلاف»، تبدأ بصفحة أولى ذات حجم تابلويدي يفرد مساحة للصورة. تساءلت: كأنها ورقية؟ قال: لك تخيل ذلك. سرّني الطلب، والتخيّل، فوراً، إذ تصوّرت أن مُشيّع عصر الصحافة الورقية لانَ أخيراً، فوافق على إمكانية الجمع بين فضاء الإنترنت وبين أرض الورق، خصوصاً أنني كنت أرى أن ذلك ممكن، وأن أبواب «إيلاف» وصفحاتها على درجة عالية من ثراء المواد وتنوعها يمكن بحسن انتقاء بعضها طبع يومية، أو أسبوعية، تلقى قبولاً لدى جمهورها، وبلا حاجة للدخول في تعقيدات التوزيع والرقابة، بل يكفي الاتفاق مع شركات طيران وسياحة على توفيرها لمسافرين عرب من رجال أعمال وسياسيين، ونزلاء فنادق مرموقة في عواصم مهمة، ثم إن امتلاك مجموعة «ماروك سوار» لأحدث آلات الطباعة أعانني على المحاججة بأن تكلفة الطباعة سوف تُؤدى لمطابع يملكها ناشر «إيلاف» نفسه، بمعنى أن الاستثمار سيكون تحت سقف البيت ذاته.

بيد أن تصوري ذاك سرعان ما تبدد، إذ أعاد عثمان العمير تذكيري بموقفه الحاسم، وأوضح أنه اكتشف مواقع على الإنترنت لمجلات أميركية تقدم صفحات يمكن تقليبها أونلاين، وفتح اللابتوب الذي لا يفارقه، ليريني ما رأى. أدهشني ما رأيت، ثم تذكرت أن جريدة «الغارديان» البريطانية كانت هي أيضًا تجري تجارب في الحقل ذاته، لكنها لم تكن نضجت تماماً بعد، وبدا من الواضح أن «إيلاف» ستكون ريادية في هذا السياق عربياً، بل ودولياً، لسبب جوهري خلاصته أنها ليست في الأصل مطبوعة تصدر ورقياً يمكن بيسرٍ تحويل صفحاتها التي تم تصميمها للطبع إلى صفحات «بي دي إف» توضع أونلاين، وهو ما جرى لاحقاً، وأخذت به معظم صحف العالم.

عكفت على وضع ماكيتات لإثنتين وثلاثين صفحة بحجم تابلويد، ومع اقتراب نهاية 2005 اقترحت الاستعانة بصاحب خبرة في تنفيذ الصفحات، فتم استدعاء فني متخصص من لبنان، ورغم أعباء الزميلات والزملاء في ديسك «إيلاف» المركزي وجدت تعاوناً من الجميع، كما أسهم شابان في القسم التقني من "ماروك سوار" بجهد كبير، وضع أحدهما برنامج "إيلاف ريدر"، والثاني شارك في تصميم أكثر من "لوغو"، فشكل ذلك الجهد إضافة إلى جهود القسم التقني في "إيلاف" تحت إشراف الزميل سرغون إسحق، وبمشاركة الزميل فواز السيف. وبدأنا البث التجريبي مع حلول خامس عيد إيلافي (21 مايو 2006)، ثم كان الإطلاق الرسمي بحفل المنامة، حيث خاطب عثمان العمير مستمعيه قائلاً: "نعيش عالماً مذهلاً بما يحمله من مفاجآت وتطورات وقفزات، وليس أمامنا كرجال إعلام إلا الركوب في مقاعد الدرجة الأولى من هذه الطائرة العلمية السريعة الموغلة في منابع العلم والحداثة والتطوير، وهذا هو شعار «إيلاف» وديدنها"، ثم أوكل لي مهمة عرض ملامح مشروع لم يكن، حتى ذلك الوقت، طلع على مسرح صحافة الإنترنت خارج الولايات المتحدة. قلت، يومها، إن ما أمكن انجازه حتى الان ليس في مستوى الطموح المأمول، ولكنه يظل انجازًا ضخمًا، وأضفت أن التاريخ سوف يسجل أن «إيلاف ديجيتال» إسهام في صنع مرحلة جديدة للصحافة أونلاين، وأوضحت أن برنامج «إيلاف ريدر»، إنجاز مهم، بل هو الأول من نوعه في العالم، كونه يتيح للزائر تقليب صفحات الجريدة من اليمين الى اليسار، وبذلك تكون «إيلاف ديجيتال» اول صحيفة عربية رقمية يمكن تقليب صفحاتها أونلاين، أو «أوفلاين» بعد تحميل العدد، وأن «إيلاف» كمؤسسة بصدد وضع برنامج "إيلاف ريدر" في خدمة المؤسسات الصحفية العربية الراغبة في الاستفادة منه.

واصلت الإشراف على «إيلاف ديجيتال» حتى نهاية العام 2006، وشعرت باطمئنان عندما أتقنت الزميلة إيليان الجمال، تصميم صفحات العدد، واعتادت أن تبذل جهداً كبيراً، في اقتراح المواضيع، وتكليف الزملاء والزميلات بتحضيرها ثم تحريرها وإعدادها للنشر، وكذلك الزميلة رانيا الأخضر، ومع ذلك الاطمئنان، استأذنت الناشر ألتمس بعض الراحة، فأذن لي، لكني لم أتوقف عن المتابعة اليومية، ومع منتصف 2007 دُعيت لوقف الغيبة فعدت، واستمرت «إيلاف ديجيتال» تصدر كل صباح حتى خواتيم 2009، حين فاجأني عثمان العمير بأنه قرر إيقافها، أو بتعبير أصح: وضعها في «فريزر» البيت الإيلافي حتى إشعار آخر، لأسباب لم يخفها: الميزانية لم تعد تسمح.

حسناً، ما الذي يحول دون الأمل؟ لا شيء. بعد خمس سنين، سوف يحتفل الإيلافيون بإتمام عامها العشرين، ربما يكون الحال قد انصلح بما يسمح أن تعود «إيلاف ديجيتال» تغرد من جديد كل صباح. لماذا يساورني الإحساس أن ذلك ليس ببعيد؟ لا أدري. إلى اللقاء.
&