برلين: بعد أزمة الهجرة وتصاعد اليمين المتطرف في ألمانيا وستة اشهر من المأزق السياسي بعد الانتخابات، لم تعد انغيلا ميركل تحظى في مستهل ولايتها الرابعة بوضع مستشارة لا يمكن تجاوزها، لكنها لا تزال حاضرة على الساحة السياسية.
منذ الخريف، لم تسر الامور كما كان مرتقبا. فعائلتها السياسية التي تضم المحافظين (الاتحاد الديموقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي) سجلت في ايلول/سبتمبر ادنى نتائج تاريخيا في الانتخابات التشريعية.
وبعد ذلك استغرق الامر ستة اشهر وهو مأزق لم تشهده البلاد في تاريخها ما بعد الحرب، لتشكيل حكومة وفي نهاية المطاف عودة الائتلاف المنتهية ولايته مع الاشتراكيين الديموقراطيين.
واذا كانت ميركل انتخبت الاربعاء من قبل النواب لولاية رابعة فان 35 صوتا من ائتلافها الذي يعد 399 نائبا لم يصوتوا لصالحها. والنقاش لفترة ما بعد ميركل اطلق فعليا.
وهكذا قال زعيم الليبراليين كريستيان ليندنر انه "بعد 12 عاما، بدأ نهج ميركل يصل الى نهايته".
وبضغط من المعترضين من داخل صفوف حزبها، بدأت المستشارة البالغة من العمر 63 عاما التحضير في مطلع السنة لخلافتها. فمن جهة عينت احدى المقربين منها انغيريت كرامب-كارينباور كالمسؤولة الثانية في الحركة للتحضير لهذا "التجدد". ومن جهة اخرى، ضمن الى الحكومة ابرز معارضها الشاب والطموح ينس سبان.
سياسة اللجوء
بالواقع كل شيء تغير في صيف 2015، حين اتخذت ميركل قرارا تاريخيا بفتح بلادها امام مئات الاف من طالبي اللجوء السوريين والعراقيين والافغان الذين يعبرون اوروبا سيرا على الاقدام بعدما جازفوا بحياتهم في رحلات خطرة في البحر.
ورغم القلق المحيط بذلك، وعدت بدمجهم في المجتمع الألماني حمايتهم. وقالت للألمان انذاك "سنتمكن من ذلك".
وحتى ذلك الحين لم تكن ميركل الحائزة اجازة دكتوراه في الكيمياء تواجه مخاطر سياسية، مستفيدة من الازدهار الذي تحقق من جراء اصلاحات غير شعبية قام بها سلفها الاشتراكي الديموقراطي غيرهارد شرودر.
وفي معرض تفسيرها لقرارها حول المهاجرين الذي اتخذته بدون التشاور فعليا مع شركائها الاوروبيين، تتحدث ميركل باستمرار عن "القيم المسيحية".
وهذا كونها ابنة قس نشأت خلف الستار الحديدي. وعاشت ميركل التقشف في ألمانيا الشرقية، بعدما قرر والدها الانتقال من الغرب إلى الشطر الشيوعي من البلاد للمساهمة في نشر التعاليم المسيحية في الدولة الشيوعية.
وفي نهاية 2015 اثارت ميركل المشاعر عبر التقاطها صور السلفي برفقة مهاجرين ممتنين لها. وتحولت ميركل التي وصفت بالنازية بسب سياستها المالية المتصلبة ازاء اليونان المديونة، الى "ماما ميركل" لدى اللاجئين كما تلقب.
وبعد سنة، واثر الزلزال الذي احدثه وصول دونالد ترامب الى الرئاسة الاميركية، اطلق عليها سياسيون ووسائل اعلام اخرى لقب "زعيمة العالم الحر".
لكن بالواقع تغيرت الامور في ألمانيا حيث اصبح المهاجرون يثيرون القلق وتزايد الخوف من الاسلام والاعتداءات وتحول قسم من قاعدتها الناخبة المحافظة الى تشكيل حزب يميني متطرف هو "البديل من اجل ألمانيا". وفي سبتمبر 2017 سجل هذا الحزب الذي حمل شعار "ميركل يجب ان ترحل"، دخولا تاريخيا الى البرلمان وكسر بذلك محرمات كانت سائدة في فترة ما بعد الحرب.
وتلقت سمعة ميركل ضربة اضافية في كانون الاول/ديسمبر حين تبين انها لم تقدم ابدا تعازيها لعائلات ضحايا الاعتداء دهسا بشاحنة في نهاية 2016 في برلين. ومنفذ الهجوم باسم تنظيم الدولة الاسلامية كان احد طالبي اللجوء.
مكانة في التاريخ
في اوروبا ايضا، ادت سياسة الهجرة التي اعتمدتها ميركل الى اضعافها. فكما هي ترفض مشاركة اعباء الديون، رفض تحالف شركائها مشاركة اعباء المهاجرين الذين ادخلتهم الى البلاد.
لكن ميركل تنجح في كل مرة من النهوض من كل ضربة قوية لتحقق في نهاية المطاف اهدافها.
ويروي رئيس المحافظين البافاريين هورست سيهوفر معجبا "حين كنا نتفاوض على مدى ليال كاملة (لتشكيل الحكومة)، كان كل الرفاق يتعبون وتغمض جفونهم لبرهة، الا انغيلا ميركل فكانت تظهر اكثر نشاطا عند الفجر بعد 20 ساعة من المحادثات".
لكنها تبقى السياسية المحنكة التي قلل من شأنها كل المسؤولين المعاصرين في ألمانيا، بدءا بالمستشار هلموت كول مرشدها السياسي الذي وصفها ب"الطفلة". في العام 2000، اغتنمت فضيحة مالية داخل حزبها لإبعاد مرشدها في السياسة ثم خصومها من الذكور الواحد تلو الآخر.
وقد أساؤوا تقدير قوة تلك المرأة التي كانت مترددة في بداياتها ولم تكن تولي مظهرها أي اهتمام. وبعد خمس سنوات، هزمت المستشار الاشتراكي الديموقراطي اللامع غيرهارد شرودر في الانتخابات التشريعية.
وخلال 12 عاما، نجحت في فرض أسلوبها الخارج عن الأنماط المعروفة لكن مكانتها في التاريخ غير واضحة رغم طول المدة التي امضتها في السلطة.
بدت المستشارة لوقت طويل وكأنها لا تكترث لمقام منصبها، ولا سيما مع قلة اهتمامها بملبسها وعدم اتقانها الفن الخطابي. كما انها تسكن في شقّة لا تملك وسائل الترف في وسط برلين، وهواياتها المعروفة قليلة جدا: الاوبرا والنزهات في منطقة تيرول الجبلية مع زوجها الثاني يواكيم ساور وهو عالم يفضل البقاء بعيدا عن الحياة العامة.
وتشاهد بانتظام في سوبرماركت متدني الاسعار قريب من منزلها في برلين، حيث تشتري الجبنة والنبيذ الأبيض. واحتفاظ ميركل بسلوكها ومظهرها العاديين، بقي لفترة طويلة ضمانة لشعبيتها لدى الناخبين.
لكن خلف البرغماتية التي تتحلى بها المستشارة، ويعتبرها خصومها انتهازية تجيز لها التكيف مع تيارات الاراء السائدة، تتوارى ارادة حديدية.
ووصل الأمر بعالم الاجتماع اولريش بيك الى ابتكار مفهوم أطلق عليه اسم "ميركيافيل" لوصف النهج الذي تتبعه، وهي كلمة مركبة من اسم المستشارة والسياسي والمفكر الايطالي ماكيافيلي، لوصف أسلوبها في الحكم القائم على مزيج من التريث والحزم.
وينعكس ذلك في ميلها الى "الانتظار لفترة طويلة بشكل دائم، قبل التفوه أخيرا بكلام حاسم"، على ما اوضح الخبير السياسي تيلمان ماير من جامعة بون لوكالة فرانس برس.
التعليقات