إيلاف من الرياض: أثارت رؤية الدبلوماسي الأميركي الشهير، هنري كيسنجر، بشأن ملف الأزمة الأوكرانية أخيراً تفاعلاً واسعاً، وأحدثت انقساماً فكرياً بدأ لافتاً.

ففي جلسات منتدى دافوس الاقتصادي، دعا السياسي المخضرم الغرب إلى الأخذ في الاعتبار مصالح روسيا في أي تسوية للصراع في أوكرانيا. وحث وزير خارجية واشنطن الأسبق أوكرانيا، في سياق رؤيته، على أن تتخلى عن جزء من أراضيها للتوصل إلى اتفاق سلام مع روسيا. وكان هذا التصريح لافتًا بالنسبة إلى قصة الحرب في كييف.

تداولت وسائل الإعلام أفكار كيسنجر، ولحق بعدئذ سائر الركب من الكتّاب الصحافيين في تفنيد تلك الحجج التي تفوه بها في منتدى دافوس الاقتصادي، عبر مقالات الرأي. فأقاويل كيسنجر في خطابه إلى النخب الغربية كانت مثار جدل ونقاش وتحليل عميق تناوب عليها الكتّاب اللامعين والمحللين السياسين عبر زواياهم اليومية؛ إذ أفرزت رؤيته تصورات واتجاهات معينة، وجعلت الكتّاب يغوصون في عقل ذلك الرجل، محاولين تفكيك رموز نظرياته، خصوصاً عندما طلب من الأوكرانيين تقديم تنازلهم عن أراضيهم لصالح الروس.

تاريخ وواقعية ونظام

في هذا الصدد، طرح ممدوح المهيني، الصحافي ومدير قناتي "العربية" و "الحدث"، في مقالته في صحيفة "الشرق الأوسط"، رؤية وتصوراً بشأن ما قاله الدبلوماسي الشهير؛ مشيراً إلى نقاط ثلاث تلخص طريقة تفكير كسنجر، صاحب التجربة الدبلوماسية الثرية والثقافة السياسية الموسوعية: أولها إيمانه بفكرة التاريخ، فهي من أهم العوامل الحاسمة في مرجعية تفكيره؛ وثانيها الواقعية، وهو المعروف أنه أحد أبرز عرابيها؛ وثالثها تلك النقاط المتحكمة في تفكيره، وانشغاله الفكري بفكرة المحافظة على النظام الدولي، وهذا ما يلخص تجربة كيسنجر السياسية.

سرعان ما جاءه الرد عبر الصحيفة ذاتها، من الكاتب والصحافي اللبناني، سمير عطالله، معنوناً مقالته "نقاش مع زميلين كبيرين"، إذ لم تهدأ تلك الفورة التي تسبب بها السياسي الأميركي القديم، وما زالت في أوجها، مسببة انقسام فكري لافت. يعتقد عطا الله في مقالته أن كفاءات كيسنجر، أو سواه، لا تعني أنه على حق. نعم، هو صاحب رأي وشواهد ونماذج، لكن هذه لا يجعله صاحب حق، بحسب نص المقالة.

يلفت الكاتب اللبناني إلى أن سياسة الواقعية لم تصل كيسنجر إلا متأخرة كثيراً، مبيناً أن دعوته إلى التسليم بمنطق القوة وتسليم منح الأراضي المحتلة للمحتل لقاء التخلي عن بقية الأراضي منطق واقعي فعلاً، لكنه غير إنساني. مضيفًا: "ليس كيسنجر نموذجاً يحتذى. وسيرته طويلة، لكنها غير مشرفة. هذا الرجل شركة مساهمة تعمل في تجارة القوة. ومؤلفاته مجرد محاضر دوّنها معاونوه، وأضاف هو إليها بعض الفذلكات".

الانقسام الفكري الذي ضجت به صفحات الرأي نتيجة رؤية كيسنجر، جعل المهيني وعطا الله يتناوبان في إيصال وجهات نظرهم.

دكتور الشر

مجدداً، ارتأى المهيني في مقالته التي عنونها "كيسنجر دكتور الشر" تقديم تفسير حقيقي حول هوية الدبلوماسي المخضرم، كتب فيها الصحافي السعودي: "لكيسنجر رؤية أوسع وأبعد من الصراع الحالي والمعارك الدائرة في دونباس ودونيتسك. رؤية تتعلق بالتحالفات بين القوى الكبرى. خطأ استراتيجي، كما يرى، أن تدفع روسيا والصين للتحالف ضد الولايات المتحدة وهذا ما يراه يحدث الآن بعدم الوصول لاتفاق سياسي سريع فإن روسيا تقترب أكثر من الصين، ولهذا شدد في خطابه الأخير على أن روسيا جزء من أوروبا وحذّر من الاستغراق في مزاج اللحظة".

يذهب المهيني في مقالته إلى أن هذا عكس ما فعله كيسنجر مع رئيسه نيكسون بالتقارب مع الصين. جذبها للمحور الأميركي الغربي وعزل روسيا. يرى كيسنجر أن الموقف الأميركي الغربي الحالي يعتمد على مواقف أيديولوجية عدائية للصين وروسيا ستدفعهما للتحالف بعضهم مع بعض، وهذا يخالف المبدأ الذي يؤمن به، وهو إقامة علاقات استراتيجية تُعلي من المصالح الأميركية في نهاية المطاف، أحد الدروس التي خرجت بها إدارة نيكسون من فتحها قنوات تواصل مع بكين بالإضافة إلى منع وقوع حرب عالمية جديدة ومنع التحالف بين القوتين مما سيضعف موقف واشنطن التفاوضي.

أستمر المهيني في تقديم طرحه في مقالته ليكتب تحول كيسنجر مع الوقت إلى صورة للشيطان السياسي. المخادع والمتآمر والعميل المزدوج... هذه بعض الصفات التي لطخت صورته. حتى المسلسلات الكرتونية الكوميدية مثل "آل سيمبسون" تُظهره بصورة الرجل الشرير الذي يدخل المشهد ليضع لمساته الأخيرة على الخطة الخبيثة.

لم يكن على هذه الحال في البداية، حيث كان نجماً وساحراً وظهر على غلاف مجلة "تايم" أكثر من 15 مرة، قبل أن تنقلب الحال وتبدأ حملة ملاحقة الساحرات، فيما يلفت في مقالة أخرى له رداً على تهمة لعطالله أتهم فيها كيسنجر بأن مؤلفاته مجرد محاضر دوّنها معاونوه، ووصفها بالفذلكات، عبر المهيني بقوله إن قائمة طويلة من الكتب والمؤلفات والمحاضرات والمقالات تكشف عن الثقافة السياسية والتاريخية الواسعة التي يملكها كيسنجر.

من أين؟

السؤال إذًا: من أين أتت تهمة الفذلكات وأنه يسرق جهود غيره؟ التفسير الوحيد يُفهم في سياق الهجوم عليه واغتيال الشخصية، فهو ليس فقط مجرم حرب عديم القلب، بل سارق كتب ومدّعي معرفة. إنه رجل كاذب منتحل بلا مبادئ طامح فقط للقوة. بالطبع كل هذه الاتهامات التي يتم الترويج لها لم يَثبت منها شيء. في عالم المؤامرات كل شيء جائز.

بعد سيل من مقالات المهيني، كان الرد في الرد عنواناً لمقالة الكاتب اللبناني سمير عطالله ليسمح لأفكاره بالنفاذ معبراً بافتتاحية مقالة: "في الأيام الماضية جرى نقاش على هذه الصفحات بين الأستاذ ممدوح المهيني، وبيني، حول أشهر سياسي أميركي في القرن الماضي والممتد معه إلى المائة حول: الدكتور هنري كيسنجر. أولاً، في باب النقاش، مارس كل منا حقه بكل حرية. وأبدى كل منا رأيه: أنا، بانفعال عاطفي سقيم وقديم، والزميل العزيز بما أؤتي من علم وثقافة وغيرة على أستاذ من هارفارد، ومؤرخ ووزير خارجية أميركا، مقرر أمنها القوي في الحرب الباردة، وحرب الفيتنام، وحرب أكتوبر (تشرين الأول)، وحرب لبنان، وسواها، إضافة إلى سلام أميركا التاريخي مع صين ماوتسي تونغ.

الأمر الثاني يضعني أخي ممدوح في صف الذين يروجون لصورة كيسنجر كرجل شر وحرب. نقطة نظام! لم يحدث في حياتي المهنية أنني روجت لأحد أو لشيء. فالعبارة تتضمن مجانبة الموضوع أو الصدق. وأنا قد أخطأت مراراً كثيرة لكنني لم أكذب مرة واحدة".

مراجع: