إيلاف من بيروت: في 29 أغسطس 2022، أصدر آية الله العظمى كاظم الحسيني الحائري الذي يتّخذ من مدينة قم مقرًّا له، بيانًا أعلن فيه تنازله عن المرجعية، أي عن سلطته الدينية بصفته مرجع تقليد لدى الطائفة الشيعية، وأوصى مقلّديه باتّباع مرجعية المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي. ووجّه في بيانه أيضًا انتقادات لاذعة إلى مقتدى الصدر، رجل الدين الشعبوي وزعيم التيار الصدري، وألمح إلى أن الصدر يفتقر إلى المؤهلات الدينية اللازمة لتولّي دفة القيادة، وأنه حاد عن نهج الشهيدَين الصدرَين العظيمَين آية الله العظمى محمد باقر الصدر وآية الله العظمى محمد صادق الصدر، والد مقتدى الصدر.
يقول بينيديكت روبن-ديكروز هو زميل دراسات ما بعد الدكتوراه في جامعة آرهوس في الدنمارك، ومتخصّص في السياسات الشيعية في العراق والتيار الصدري، في مقالة له نشرها موقع "كارنيغي الشرق الأوسط": "يتّسم موقف الحائري بأهمية كبيرة لأنه يُعدّ مرجعية دينية للتيار الصدري. لذا، بدا أن انتقاداته تشكّل تهديدًا لسلطة الصدر في توقيت مفصلي؛ إذ كان يحشد أنصاره للضغط على خصومه السياسيين في سياق خلافه مع الفصائل الموالية لإيران على مسألة تشكيل حكومة عراقية جديدة. ومع أن الصدريين اعتبروا تصريح الحائري مستفزًّا على الأرجح، فإنه لم يشكّل تحديًا فعليًا لسلطة الصدر، نظرًا إلى محدودية نفوذ الحائري داخل التيار الصدري".
بحسب روبن-ديكروز، نجح الصدر في بناء سلطته الدينية وحمايتها من خلال اتّباع استراتيجيتَين اثنتَين: "حافظ على تعددية المنظمات الدينية، مستفيدًا من الشرعية التي يتمتع بها رجال الدين الأرفع مقامًا، مثل الحائري، وضَمَن في الوقت نفسه ألّا تتمكّن أي سلطة دينية من منافسة نفوذه في التيار الصدري".
يرى روبن-ديكروز أن العلاقة بين الصدر والحائري تسلّط الضوء على الصراع على السلطة الدينية داخل التيار الصدري الذي يُصوَّر أحيانًا كثيرة على أنه قوة سياسية واجتماعية. لكن مقاربة التيار الصدري من منظور ديني تشرح جوانب سياسية أوسع لهذا التيار، وتحديدًا قدرة الصدر المتواصلة على تعبئة قاعدته الشعبية، على الرغم من إخفاقات تياره في الحوكمة وافتقاره إلى رؤية سياسية متماسكة.
تعدّد المرجعيات في التيار الصدري
يتتبّع روبن-ديكروز مسار علاقة الحائري بالتيار الصدري قبل اغتيال محمد صادق الصدر في العام 1999. خلال تلك الفترة، كان الاثنان خصمَين يتنافسان على إرث محمد باقر الصدر الذي تتلمذا على يده، ما جعلهما وريثَين محتملَين لسلطته الدينية. لكن الحائري كان قد نصّب نفسه مرجعية، ما منحه قدرة أكبر على التأثير في مسار محمد صادق الصدر نحو تبوّؤ السلطة الدينية. ويُشار إلى أن الحائري رفض حتى الاعتراف بادّعاء محمد صادق الصدر بأنه مرجع، ورفض مساعي وكلاء هذا الأخير حين زاروا قم لإنشاء مكاتب للصدر هناك. وقد أعاق هذا الرفض الجهود التي بذلها صادق الصدر لتوسيع شبكة مقلّديه وبالتالي إنشاء مرجعيته الخاصة. وقد أُفيد أيضًا بأن الحائري طرد رسول الصدر، أبو سيف الوائلي، من منزله واتّهمه بالعمل لحساب أجهزة المخابرات التابعة لنظام البعث.
ينقل روبن-ديكروز عن مصادر في التيار الصدري قولها: "لم يكن محمد صادق الصدر راغبًا في إجراء هذا التعيين، على الرغم من العلاقة التي جمعت الحائري مع محمد باقر الصدر والحوزة العلمية في النجف، لكنه اتّخذ هذا القرار على مضض في آخر أيامه بضغط من أتباعه الذين كانوا يخشون من احتمال اغتيال زعيمهم وبقائهم من دون مرجعية دينية واضحة، ما من شأنه أن يؤدي إلى نزاع داخلي على القيادة. إضافةً إلى ذلك، روى أعضاء في التيار الصدري أن الحائري كان واحدًا من بين رجال دين عدة ذكرهم محمد صادق الصدر باعتبارهم قادرين على تبوّؤ منصب مرجع التقليد بعد وفاته. وهكذا، اتّبع الصدريون عددًا من رجال الدين بناءً على توصيات الصدر. فقد اتّبع الجيل الأكبر سنًّا من الصدريين بصورة أساسية مرجعية الحائري، أو آية الله العظمى محمد حسين فضل الله، أو آية الله العظمى محمد إسحاق الفياض الذي كان مقيمًا في النجف، فيما اتّبع عدد أصغر، إنما مهم، من الصدريين مرجعية آية الله العظمى علي السيستاني. والخلاصة: التيار الصدري لم يحظَ بسلطة دينية واحدة بعد وفاة محمد صادق الصدر.
يضيف روبن-ديكروز: "ساهم جواز البقاء على تقليد [المرجع] الميّت في تعدّد السلطات الدينية داخل التيار الصدري. فمن منظور الشيعة الاثني عشرية القويم، يُعتبر تقليد الميّت ممارسة غير تقليدية، إلا أنه مهم للصدريين بسبب التركيز الذي يولونه للسلطة الدينية كما يجسّدها رجال دين محدّدون، مثل محمد باقر الصدر، وخصوصًا محمد صادق الصدر. يسمح تقليد الميّت للصدريين بأن يستمرّوا في اتّباع مرجعية محمد صادق الصدر، لكن هذه الممارسة تخضع لشرطَين. أولًا، يُفترض أنها تقتصر على المقلّدين الذين اتّبعوا مرجعية آية الله حين كان لا يزال على قيد الحياة. وثانيًا، يجوز للمقلّدين الامتثال لأحكام الصدر فقط في الحالات الطبيعية، أي حين لا يتأثّر تطبيق الفتاوى والأحكام الدينية بتبدّل غير متوقّع في الأحوال والظروف".
التوفيق بين آباء روحيين متعدّدين
بحسب رواية روبن-ديكروز، بُنيت العلاقة بين الحائري ومقتدى الصدر بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق في العام 2003 على أسس غير مستقرة. مع ذلك، كانت لدى الصدر والحائري دوافع قوية للتعاون معًا. فقد واجه الصدر نزاعًا داخليًا للسيطرة على التيار الذي أسّسه والده، إذ جادل بعض رجال الدين الأرفع مقامًا، مثل محمد اليعقوبي، مدير مكتب محمد صادق الصدر في النجف في العام 2003، بأن السلطة الدينية قد انتقلت إليهم بعد وفاة الصدر نظرًا إلى أنهم الأكثر أهلية وكفاءة من بين طلّابه. وهدّد ذلك بإحالة مطالبة الصدر بوراثة مرجعية والده إلى مرتبة ثانوية. انشقّ اليعقوبي عن مقتدى الصدر في 16 يوليو 2003 لينصّب نفسه مرجعًا ويسعى إلى السيطرة على شبكة محمد صادق الصدر التنظيمية والمالية، ولا سيما جمع الخُمس، وهو عبارة عن فريضة مالية على ثروات المؤمنين. تبعًا لذلك، كان قرار الحائري بتعيين مقتدى الصدر ممثّلًا له في العراق في 7 أبريل 2003، مُجيزًا له أداء وظائف منوطة عادةً بالمرجع – مثل جمع الخُمس وتوزيعه وإصدار بعض الأحكام الدينية – أمرًا بالغ الأهمية. فقد عزّز ادّعاء الصدر بأنه صاحب السلطة الدينية في صفوف الصدريين، ما ساعده على صدّ المنافسة. وكان الحائري بدوره بحاجة إلى الصدر الذي أتاح أمامه فرصةً لتوطيد نفوذه داخل التيار الصدري من خلال رجل دين مبتدئ من شأنه أن ينصاع، نظريًا، لتوجيهات الحائري الدينية.
يضيف روبن-ديكروز: "لم يكن تعاون الحائري مع الصدر مجرّد انعكاس لمصالحه الدينية الخاصة، بل شكّل أيضًا جزءًا من شبكة علاقات سعت إيران من خلالها إلى ربط الصدر والصدريين بمصالحها. (...) وعلى الرغم من الاضطرابات التي شهدتها العلاقة بين الصدر والحائري في مراحلها الأولى، لم يكن تباعدهما نهائيًا لا عودة عنه. فبعد العام 2004، سعى الصدر إلى تحسين مكانته الدينية من خلال متابعة دراساته وتوثيق ارتباطاته مع سلطات دينية مختلفة، منها الحائري. لكن الصدر تعامل بحذر مع هذه العلاقات، ساعيًا إلى الحصول على الشرعية من كبار المرجعيات الدينية، إنما مع المحافظة على روابط دينية متعددة".
الصدر يعزز سلطته
يرى روبن-ديكروز أن الصدر قطع، على الرغم من افتقاره إلى العناصر الرئيسة للسلطة الدينية المعيارية، شوطًا كبيرًا في الاضطلاع بوظائف السلطة الدينية العالية المقام، وذلك من خلال تطوير ممارسات لتنويع مصادر سلطته الدينية أبعد من تلك المستمدة من التدريب الديني الرسمي. ويمكن مقارنته بقرينه وخصمه في التيار الصدري الأوسع، قيس الخزعلي. فكلاهما متقاربان في السن وتتلمذا على يد والد الصدر. لكن الخزعلي بلغ مرحلة أكثر تقدّمًا من الصدر في تدريبه في الحوزة العلمية، إذ أتمّ مرحلة البحث الخارج، واعتبر كثرٌ في الحوزة أن الأطروحة التي قدّمها تنمّ عن إلمام عميق بالفقه الإسلامي. لكن الخزعلي لم يسعَ إلى تنصيب نفسه سلطة دينية مستقلة داخل الحوزة، بل أعلن أنه يتبع تفسير آية الله روح الله الخميني لولاية الفقيه، وأنه ممثّلٌ لخامنئي. إذًا، وعلى النقيض من الصدر، لا يسعى الخزعلي إلى أداء وظائف دينية مثل الوعظ أو الاستفتاء (استقصاء ديني يطلب مقلّدون خلاله تفسيرًا فقهيًا من مرجع ما، يتمحور عادةً حول مسائل يومية). لقد سعى تنظيم عصائب أهل الحق الذي يتزعّمه الخزعلي إلى جمع الخُمس، إنما ليس استنادًا إلى سلطة الخزعلي الدينية، ولم تسدّده سوى قلّة فقط.
يضيف روبن-ديكروز: "يستخدم الصدر في الكثير من الأحيان أغراضًا مادية بمثابة أدوات مقدّسة. على سبيل المثال، غالبًا ما يظهر في الصور مع عصا للمشي، في مشهد يذكّر بعصا والده الأيقونية. بالمثل، حين يزور الصدر كبار رجال الدين في النجف، يصل عادةً في سيارة "ميتسوبيشي غالانت" قديمة. وهذه مشهدية قوية أخرى يتقصّدها الصدر، إذ كان محمد صادق الصدر يستقل سيارة من طراز "غالانت" لحظة اغتياله. (...) وليس الصدر خارجًا على المعتقدات الدينية التقليدية كما يُزعَم عمومًا، بل يجمع بين الممارسات التقليدية وغير التقليدية لتعظيم سلطته الدينية. ويشكّل الميدان الديني الشيعي أرضًا خصبة للتيارات الدينية-السياسية، مثل التيار الصدري الذي يعتمد بصورة أساسية على إيديولوجيا الكاريزما.
يقول روبن-ديكروز إن ثمة علاقة تكافلية تجمع بين أنماط السلطة المتنافسة في الميدان الديني الشيعي. فممارساتها الأساسية مترابطة ديالكتيًا - مثل الانكفاء الزُّهدي مقابل الحراك الاجتماعي والسياسي؛ والتجريد الفكري مقابل العمل الملموس؛ والمسعى البحثي مقابل الوحي الروحاني من دون وساطة؛ والتعالي مقابل المحايثة. لا تعبّر هذه التناقضات عن تمييز بين السلطة الدينية "الأصيلة" و"غير الشرعية"، لكنها بحدّ ذاتها آلية مولِّدة لقوّة الميدان الديني. تبعًا لذلك، لا يشكّل الصدريون حالة دينية شاذّة، ولن ينحسر التيار الصدري ببساطة مع مرور الزمن، بل سيستمر هذا التوجّه طالما أن الميدان الديني الشيعي في العراق منخرطٌ في الانقسامات السياسية والاجتماعية الأوسع في البلاد.
مستقبل الصدريين السياسي
يتوقع روبن-ديكروز أن تشكّل وفاة السيستاني المتوقّعة محطةً انتقالية للطائفة الشيعية في العراق، "فالصدر ليس جاهزًا ليصبح مرجعًا دينيًا ولا يمكنه أن يحل مكان السيستاني في موقع السلطة الدينية الشيعية الأبرز في البلاد. لكن إعادة خلط أوراق الهرمية الدينية النجفية في مرحلة ما بعد السيستاني سوف تتيح فرصةً أمام الصدر لزيادة حصته في السلطة الدينية". ويتوقف روبن-ديكروز عند هذه السلطة لفهم النفوذ الذي يمارسه الصدر كشخصية سياسية، "فاستعداد الصدريين للتضحية من أجل الصدر والمجتمع الصدري من خلال وضع وقتهم ومواردهم وأجسادهم في تصرّف القضية الصدرية يعكس وجود دافع ديني خلف سلوكهم. وغالبًا ما يثير هذا التفسير حيرة صنّاع السياسات الغربيين. فافتراضاتهم العلمانية والعقلانية الضمنية تدفعهم في معظم الأحيان إلى النظر إلى الدين بأنه مورد يُستخدَم سعيًا لتحقيق أهداف سياسية". إلا أن الصدر لا يُقدّم رؤية سياسية متماسكة أبعد من سعيه إلى توطيد سلطته داخل المنظومة.
يختم روبن-ديكروز مقالته بالقول: "لن يتراجع حضور الصدر السياسي في المشهد العراقي لا بسبب تدخّل كبار رجال الدين ولا بسبب فشل الصدريين في تحقيق الإصلاح السياسي. بل إن هشاشة الصدر المحتملة قد تنجم عن هفوات من شأنها أن تُقوّض نظرة أتباعه إلى قائدهم كحاميهم، ومرشدهم، وشخصية موحِّدة للمجتمع الصدري".
أعدت "إيلاف" هذه القراءة عن موقع "مركز مالكوم كير – كارنيغي الشرق الأوسط"
التعليقات