يبتكر اللبنانيون مصطلحات لتشخيص أزماتهم، رغم أنهم يعرفون أن هذه المصطلحات لا تُعبّر عن واقع الحال، ولا تعكس ما يحملونه من آمال.
هي نوع من فشة الخلق التي يستعينون فيها على تقطيع الوقت حيناً والتهرّب من المسؤولية أحياناً.
من هذه المصطلحات "الحق على الطليان"

تزور لبنان وأنت تقدم رجلا وتؤخر الأخرى بفعل ما تسمعه من أخبار تصبح أي زيارة محفوفة بمخاطر التفخيخ أو التفجير ناهيك عن مخاطر المواجهات مع الفرقاء اللبنانيين أو الخصوم المجاورين
في لبنان المنخرط حتى النخاع في الأزمات الإقليمية لاعبًا أو شاهدًا.

الكل يتحدث عن التفجير كأنه خطر ماثل وعن الأزمات بكافة أنواعها وأوصافها كأنها قدر لا فكاك منه. لكن حديث الصالونات وسجال الفضائيات لا يعكس في كثير من الأحيان ما في الشارع من إشارات وتناقضات.

فالمواطن اللبناني المثقل بأزماته اليومية بدءا بأزمة الكهرباء المزمنة العصية على الحل، ومرورا بأزمة السير المثيرة للأعصاب وانتهاء بالأزمات السياسية التي تعطل انتخاب الرئاسة حينا، وتعيق تشكيل الحكومات كثيرا.. يبدو للوهلة الأولى غير آبه بما يحدث حوله أو على حدوده ولا يتحسب بما قد يحمله الفراغ الرئاسي أو التعثّر الحكومي..
فالشواطئ والمطاعم تكتظ بالزائرين وحركة التسوق تستمر بوتيرة عالية نسبياً. إلا أن الزحمة التي تعيشها المرافق السياحية اللبنانية وأسواقها لا تنسيك أزمات لبنان التي تطل من دون إنذار
عندما ينقطع التيار الكهربائي الذي تغذيه الدولة أو عندما يعود اعتمادا على محطات التوليد الخاصة التي ابتكرها الناس كعلاج مؤقت لانقطاع التيار الرسمي ولتصبح بعد ذلك حلا دائما.

وبانقطاع التيار وعودته ضمن إيقاع بات معروفا للبنانيين تعرف أنك في بلد الأزمة المستمرة منذ عقود.
اللبناني الذي يأس من الحل توقف عن إعطاء إجابات وبات يطرح أسئلة أقرب للاستغاثة.
“كيف ترى الوضع، الهيئة مطولة”؟.. وعندما يطرح هذه الأسئلة لا ينتظر أي إجابة لأنه يعلم أن أحدا لا يملك الإجابة، ويعلّقها على الطليان تهربًا من المسؤولية أو سخرية من الوضع الراهن، أو لإدراكه الفطري أن الأزمات يفتعلها الخارج والحلول هي ما يتوافق عليه تلك الأزمات.

وفي الماضي كانت أزمات لبنان تُحلّ إما في الإقليم المجاور أو من خلال القوى الدولية الفاعلة. فكانت الحلول ممكنة حتى لو تعقدت والوصفات متاحة مهما طال إعدادها وتكاثر معدوها.
أما اليوم، فلبنان ينتظر حلّ أزمات الآخرين ليعرف كيف تُحلّ أزمته
وأزمات الآخرين ليست هينة ولا بسيطة!
فهي تبدأ بالأزمة السورية المفتوحة على كل الاحتمالات وتمر بالخلافات الإقليمية المحملة بارتدادات من كل نوع، ولا تنتهي بالدور الإيراني المتنامي الذي رهن أزمات لبنان بأزمات إيران ومتابعها الداخلية وعلاقاتها الإقليمية والدولية.
والتوافق بين اللبنانيين الذي كان يقوم بالعادة على التوافق بين طوائفه، بات اليوم يحتاج لتوافق الطوائف نفسها.
فانتخاب رئيس جديد مثلا يحتاج إلى توافق مسبق داخل الطائفة المارونية التي أصبحت موزعة الولاءات بين قوى إقليمية وقوى دولية.
والانتخابات التشريعية التي تظل مهددة حتى لحظة إجراءها تبقى عرضة للتأخير أو التمديد ومرهونة بالتوافق السني وبالهيمنة الشيعية..
والاتفاق داخل الطوائف لا يتم في إطار الطائفة وحدها، فهو أيضا صدى لتوافق قوى خارجية، وإشارة من هنا أو هناك تقلب المعادلات وتغير الحسابات.

ولذلك فإن عين اللبنانيين تظل على الخارج دائما وينتظرون دخانه الأبيض دون أن يعيروا كبير اهتمام لما يقوله الزعماء في الداخل. فهم يعلمون أن الأزمات ليست من صنعهم وأن الحلول ليست في مقدورهم لتتكرس المقولة اللبنانية المشهورة أن “الحق أولا وأخيرا على الطليان” الذين يقحمون في الأزمة اللبنانية مجازا لتجنب توجيه بوصله الاتهام إلى القوى الحقيقية التي تملك مفاتيح الحل وعوامل التأزيم.